المرأة العربية: الشاهد الملك على ظلم التاريخ وتغييره
بحث في موضوع
المرأة: التكنولوجيا وصناعة الواقع
عنوان البحث:
“المرأة العربية: الشاهد الملك على ظلم التاريخ وتغييره”
الكلمات المفتاحية: جدلية – نمطية – شاهد – الإنسانية
د. علي منير حرب
2022/12/20
المقدّمة
أتناول موضوع المرأة ودورها في صناعة الواقع المعاصر، ضمن المنهاج الثقافي، كونه شأنًا إنسانيًا وإنمائيًا، في معطياته ونتائجه.
عبر الفصول الأربعة التي يتضمّنها البحث، عرضت بداية للعلاقة المتلازمة بين الثقافة والهوية، لما بينهما من وشائج متلاحمة في التكوين كما في تشكيل السمات والخصائص، تمهيدًا لالتقاط الملامح النمطية التي رافقت حضور المرأة في الثقافات عبر الزمان.
ثم حاولت الإضاءة على المشهد التكنولوجي الثوري الجديد، الذي طبعت بصماتُه حياةَ العالم المتقدّم والنامي بلا تمييز، مفنّدًا غَثّه وسمينه، قبل أن أبيّن موقع المرأة في هذا المشهد، والطريقة التي اعتمدتها في التفاعل مع هذه الطفرة استهلاكًا وفاعلية، وما تستوجبه من تشريعات تضمن انخراطها الإيجابي، وتستكمل فيها ما أنجزته في رحلة الحقوق والمشاركة في مسيرة صناعة الواقع المعاصر.
الفصل الأول
جدلية الثقافة والهويّة
- في مفهوم الثقافة
استحوذ موضوع الثقافة، عبر التاريخ، على اهتمام معظم المشتغلين بقضايا الإنسان وتعامله مع الظروف المحيطة بوجوده زمانًا ومكانًا. فتعدّدت التعريفات والتوصيفات التي طُرحت لتحديد ماهية الثقافة، مكوّناتٍ وخصائصَ وأدوارًا، تبعًا لتوجّهات المفكّرين وتحيّزاتهم الأيديولوجية والمنهجية.
وعلى الرغم من تباينات هذه الطروحات، إلا أنها تلتقي على التأكيد أن الثقافة هي نتاج إنساني بامتياز، يشكّل مخزونَ التراث المعرفي الجماعي المشترك للشعب، في حقبة تاريخية محدّدة، يستقي منه عناصر بنائه الروحي والأخلاقي والسلوكي، التي تتمظهر في شخصيته وسلوكه ولغته وعاداته.
قبل ستمائة، عام تقريبًا، عرض ابــن خـلدون في مقدّمته الشهيرة، تعريفًا قريبًا من مصطلح الثقافة الذي شاع بعد قرنين من الزمان، مؤسّسًا على نظريته التعليلية للظواهر التاريخية وعلاقتها بالتطور الاقتصادي، إذ ميّز بين ثقافتين هما ثقافة البداوة وثقافة المدن، واعتبر هذه الأخيرة أرقى من الأولى بسبب رغد العيش أو الثروة. لذا فالثقافة حسب تعريف ابن خلدون هي: “آداب الناس في أحوالهم في المعاش كالعمران والصنائع والفنون والدراية في مجالات الحياة اليومية، في حين تتشكل آداب الناس بالتعليم والاكتساب وإعمال الفكر”. [1]
وترسّم مالك بن نبي خطى ابن خلدون، حيث رأى أن الثقافة لا تضمّ في مفهومها الأفكار فحسب، وإنما تضمّ أسلوب الحياة في مجتمع معين، وتخصّ السلوك الاجتماعي ذاته. فالثقافة كما عرّفها في كتابه “مشكلة الثقافة” هي: “مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد مند ولادته لتصبح لا شعوريًا، تلك العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه.” [2]
وتعقيبًا على ما أورده إدوارد تايلور في أواخر القرن التاسع عشر، في كتابه الذي جاء بعنوان: “الثقافة البدائية” والذي يذهب فيه إلى أن الثقافة “هي ذلك الكل المركّب الذي يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعرف”، حاول روبرت بريستيد في كتابه “المسألة الاجتماعية”، أن يُدخِل الجانب المادي ونمط الملكية إلى تعريف تايلور بقوله :”إن الثقافة هي ذلك الكل المركّب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه، أو نقوم بعمله، أو نتملّكه كأعضاء في مجتمع.” [3]
وبحسب تعريف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، فإن الثقافة “تشتمل على جميع السمات المميزة للأمة من مادية وروحية وفكرية وفنية ووجدانية، وتشمل جميع المعارف والقيم والالتزامات الأخلاقية المستقرة فيها، وطرائق التفكير والإبداع الجمالي والفني والمعرفي والتقني، وسبل السلوك والتصرف والتعبير، وطراز الحياة، كما وتشمل تطلعات الإنسان للمثل العليا ومحاولاته في إعادة النظر في منجزاته، والبحث الدائم عن مدلولات جديدة لحياته وقيمه ومستقبله وإبداع كل ما يتفوّق به على ذاته.” [4]
- في مفهوم الهوية
البحث في مسألة الهوية، يقودنا الى جوانب فلسفية ونفسية واجتماعية، ويثير عددًا من العلاقات المتشابكة والمتناقضة.
من أسبق ما يمليه معنى الهوية، هو إدراك الذات الإنسانية لما تمتلكه من خصوصية تتيح لها حضورًا محدّدًا بين الجموع، ويمكن عبرها التعرّف على سمات صاحبها التي تميّزه عن الآخرين.
“لفظ “هوية” مشتق من الضمير الغائب “هو” الذي تحوّل إلى اسم “هوية” وترادف كلمة هوية في اللغة العربية عدة ألفاظ نذكر منها: الذاتية التي تعني العناصر والمكونات الثابتة التي تحدّد وجود الشيء. ويماثل لفظ “الهوية” لفظ “الماهية” عند الفلاسفة أي جوهر الشيء وحقيقته.” [5]
يقول أمين معلوف عن الهوية في كتابه “الهويات القاتلة”: “فيما يحدّد كياني وليس كيان شخص آخر… يوجد في قرارة كل إنسان انتماء واحد ذو أهمية، هو حقيقته الدفينة نوعًا ما، وجوهره الذي يتحدّد تحديدًا نهائيًا…إن هويتي هي التي تعني أنني لا أشبه أي شخص آخر.” [6]
“وتقع الهوية في قلب الصراع الهادف إلى صياغة تعريف نهائي للإنسان، لذلك كان سؤال الهوية فلسفيًا بالأساس، انشغل به مفكروها منذ بدء التفكير بالذات والجوهر والماهية والكينونة فلذلك يقع الخلط بين فلسفة الهوية وسوسيولوجيا الهوية.” [7]
كما ينتمي مفهوم الهوية أيضًا إلى موضوع الجذور، وما يكتنفها من رموز الصلابة والرسوخ، وما ينتج عنها من أخطار في حالات التقديس أو التفريط.
وإذا اعتبرنا أن القيم الثقافية، بمجملها، هي نتاج هذه الجذور، يمكننا أن نفهم مسألة التعلّق بها، أو التصاقها بأنسجتنا، والتي تعدّ الوعاء الحافظ للموروث الماضوي الذي يمثّل الهوية الشخصية، كما المصدر الأساس للهويات الأخرى الثقافية والوطنية والدينية وغيرها.
- جدلية الثقافة والهوية
من هذين المفهومين، يتبين لنا مدى التلازم اللصيق بين الثقافة والهوية. فلا يكاد أي تحليل لتكوين كل منهما يخلو من العنصرين معًا، على الرغم مما يكشفانه من تسابق في ضخّ الدم بينهما وخلق أحدهما للآخر.
ويتفق معظم علماء الاجتماع حول أهمية الهوية في المجتمع، إلا أنهم لا يتفقون حول العوامل التي تشكّل الهوية في المجتمعات المعاصرة، وحول الطريقة التي تطوّرت بها الهويات الاجتماعية بمرور الزمن.
ويرى ريجارد جنكنز “أن الهوية الاجتماعية هي تصوّرنا مَن نحن ومَن الآخرون، وكذلك تصوّر الآخرين حول أنفسهم…وأن الهوية الاجتماعية هي حول المعاني، وهذه المعاني تتشكّل اجتماعيًا وليست تعبيرًا عن الاختلافات الضرورية بين الناس…فالهوية الاجتماعية هي جزء مكمّل للحياة الاجتماعية…وهذه البنية المعرفية المعيارية بمثابة دليل ومرشد لوجهة العقل ومساراته، وتصبح بمنزلة العناصر البانية للهوية الاجتماعية والثقافية والتي تميّز الثقافة الجمعية المشتركة والسائدة في جماعة معينة.” [8]
الفصل الثاني
المرأة: نمطية الصورة والدور
ضمن المتلازمة الثابتة ما بين الثقافة والهوية، تأصلت التراكمات الثقافية في ذاكرة الشعوب عن الصورة والدور اللذين أُلصقا بالمرأة ردحًأ طويلًا من الزمان، قبل أن يبدأ التحوّل والتعديل فيهما، وذلك تأسيسًا على النظريات المتعلقة “بجنس الإنسان (gender)، التي تنظر إلى المرأة كمجموعة واحدة تتعرّض لاضطهاد مشترك، والتي، كما أشارت “برادلي”، “لها دور هام في تكوين الهوية”. [9]
وكذلك نظرية “التنميط” و”التأصيل” القائمة على “خصوصية حقيقية في السمات ومحاولة تعميمها وتأبيدها، لتصبح ممثلة لسمات مطلقة عابرة للزمان.” [10] على نحو ما يسميه سيرج لاتوش بـ(خطر التنميط).
إضافة إلى نظرية التماهي، كما رآها أمين معلوف، والتي تقود الفرد إلى إخفاء وتورية انتمائه في أعماقه “عندما تتعرّض انتماءاته للتجريح، ولا يقوى على الدفاع عن نفسه أحيانًا، فينزع إلى التماهي ينتظر ساعة الانتقام.” [11]
لقد حاصرنا الموروث الثقافي، بمصطلحات استعلائية لصالح الرجل، تنمّ عن نمطية جنسانية ظالمة بحق المرأة، متذرّعة بالاختلافات البيولوجية والقدرات العقلية، وتحوّلت إلى ما يشبه المقدّس الذي عانت المرأة بسببه معوّقات من أصناف شتى دينية واجتماعية وثقافية وسياسية وقانونية وغيرها، ما أدّى إلى تهميشها وإلغاء دورها بالمشاركة في عمليات التنمية وصناعة الحضارات.
من الصور المنحوتة للمرأة في صخور الذاكرة الثقافية تتبّدى أمامنا رموز العار والعجز الفكري والقصور الجسدي، والمهارة في الكيد والغواية والرياء، ما توجّب سجنها في منزلة وضيعة دون منازل الذكور.
في قصة الخلق أنَّ آدم وحواء سارعا إلى ستر عورتيهما (سوأتيهما) بورق التوت. والسؤال: لماذا غابت عورة الرجل وبقيت عورة المرأة؟ لا بل لمَ أضحت المرأة عورة مَرَضية من قمّة رأسها حتى أخمص قدميها؟
بيّنت الباحثة ليلى أحمد في كتابها “النساء والجنوسة في الإسلام” “أن ثقافات مجتمعات الحضارات القديمة، وتحديدًا مجتمعات الإمبراطورية الفارسية والرومانية والبيزنطية، كانت تضع قيودًا عدة على حياة النساء وتحطّ من قدرهن وتحقّر من شخصياتهن، بل إنها أول مجتمعات أسّست لفكرة وممارسة عزل المرأة عن الحياة العامة، ونصّت على احتجازها في المنزل.” [12]
كما ذهبت إلى أن “ما جاء به أرسطو حول دونيّة جنس النساء عن الرجال من النواحي البيولوجية والعقلية والنفسية والفطرية هو ما كرّس سيطرة الرجل وزاد من دونيّتها.” [13]
وتحضرنا هنا حالات النساء المبدعات اللواتي لم يتجرأن على الكتابة بأسمائهن، فانتحلن أسماء الرجال للالتفاف على تسلّط المجتمعات الذكورية. الكاتبة والروائية البريطانية ماري آن إيفانس لجأت إلى نشر كتاباتها باسم جورج أليوت، والأخوات برونتي، المعروفات بأسماء مذكرة مستعارة لثلاثة رجال من عائلة بيل، والفرنسية لأمانتين أورو لوسيل دوبين المعروفة بجورج صاند.
في وصفه جرأةَ ابنته على الكتابة النسوية والحديث عن «الجنس الآخر»، تباهى والد الفيلسوفة “سيمون دو بوفوار” فقال: “سيمون تفكّر كالرجل.” [14]
هذه العبارة تختصر ببلاغتها واقعًا فاضحًا، كيفما قلّبنا أوجهها مدحًا أو ذمًا، لأنها توحي في معانيها أن التفكير بطبيعته ملكية ذكورية حصرية.
وفي موروثنا العربي تبدو صورة المرأة العربية ظلامية في تفاصيلها كلِّها: مضطهدة، مهمّشة، قاصرة…
*إنَّ بيت الشَّعْر للبدوي يتألف من الصدر والعجز، صدرُ البيت لاجتماع الرجال، وعجزُه لإخفاء المرأة «العاجزة العورة». وفي تقسيم بيت الشِعر العربي نقع على الصدر والعجز تيمّنًا بالتقسيم الجندري.
*الأنثى مجلبة للحاجة والعار، فلذا وجب وأدها وهي حيّة.
وجاء في كتاب الله العزيز، القرآن الكريم: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)﴾ (سورة (النحل).
ويزخر تراثنا الشعبي المجتمعي ومأثوراتنا الشعبية بكل ما يرسّخ هذه الصورة للمرأة العربية.
ما رغبت توصيله من هذا العرض المختصر لحال المرأة، هو محاولة تسليط الضوء على مدى التسلّط الذكوري الذي مورس ضدّها، بحيث ما إن تسنّى لها أن تفتح كوة في الجدار، حتى انتفضت على واقعها المجحف، وتخلّت عن تماهيها مع قدرها، وانفجرت بطاقاتها المكبوتة لتأكيد جدارتها في المشاركة التامة في عمليات الإنتاج والتنمية وصنع السلام.
وأكاد أجزم أن العامل الاقتصادي الذي كان من أبرز العوامل التي أدّت إلى تشكيل تلك الهوية المجحفة بحق المرأة، وتحديد دورها ضمن نطاق المتعة والإنجاب والرضاعة، هو نفسه الذي أطلق إلى حدِ كبير، الشرارة لكل التعديلات والتغيّرات الإيجابية التي طرأت مؤخرًا على كيان المرأة وحضورها ودورها في المجتمع، بالتلازم مع انبثاق الوعي بقضية الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان.
الفصل الثالث
تكنولوجيا فوق التوقّع
حين نتحدّث عن العامل الاقتصادي ودوره في تشكيل الهويات، فلا يمكننا فصله بالطبع عمّا كان يبتدعه الإنسان مرّة تلو الأخرى، من أدوات ووسائل تساعده على تطوير كفاءاته لزيادة إنتاجياته في الموارد المتاحة لإشباع احتياجاته.
كل اختراع توصّل إليه الإنسان، مهما كان بدائيًا، كان يعتبر في حينه ثورة تقنية، بمفهومها التغييري البسيط.
الثورات التكنولوجية أو التقنية كانت مستمرة ومتلاحقة منذ فجر التاريخ حتى اليوم، لأنها شكّلت للإنسان وسائل لتوفير أمان العيش ورغده.
في القرون الثلاثة الماضية، وقف الإنسان مدهوشًا أمام اختراعات الكهرباء والهاتف والتلفاز والذرّة…وما أحدثته هذه المبتكرات من نقلات نوعية في الحياة والنظم والثقافات، مع ما خلّفته من كوارث بفعل الاستخدام الشرير لها.
إن ما نعيشه اليوم، مما يطلق عليه الثورة التكنولوجية، ليس إلا حلقة متقدّمة جدًا من حلقات الثورات المتعاقبة، لكنها في الواقع، تجاوزت كل ما سبقها من ثورات زراعية وصناعية واقتصادية وعلمية، ومثلّت أبعد ما كان يتوقعه الخيال الإنساني، حيث حملت معها تحدّيات وأخطارًا لم يشهدها الوجود الإنساني قبل ذلك.
الجيل العنكبوتي الجديد من هذه التقنيات، التي شعلت الناس واستحوذت على معظم أوقاتهم ونشاطاتهم وعلاقاتهم، لم تكتفِ عند حدّ تدفّق سيول المعلومات والمعارف، وتشبيك الآفاق ببعضها، وتيسير التواصل بين بني البشر، إنما تحوّلت إلى أعاصير اخترقت أعزّ المناطق لدى الإنسان.
“فكما خلبت التكنولوجيا الحديثة لبّ المستهلك الفرد حتى استسلم لها، خلبت لبّ الأمم فضحّت الواحدة بعد الأخرى بجزء بعد آخر من استقلالها الثقافي…إن طمس الهوية الثقافية للأمم لا يختلف في طبيعته في الاعتداء على هوية الإنسان الفرد داخل الأمة الواحدة.” [15]
لقد بدأت هذه الثورة تنذر بخراب إنساني كبير، بعد أن نجحت في ضرب العمق القيمي والعقلي للإنسان، وفرّغت النفس الإنسانية من جوهرها وقيمها العالية، وهذا ما ينشط ترويجه تحت مسميات “ما بعد الإنسانية”، و”الإنسانية العابرة.”
في كتابه “الهمجية: زمن علم بلا ثقافة”، يقول ميشال هنري: “إن عصرنا متفرّد بتطوّر غير مسبوق للمعرفة، ويسير جنبًا إلى جنب مع تداعي الثقافة. لأول مرة في تاريخ البشرية، بلا ريب، يفترق مسارا المعرفة والثقافة.” [16]
الفصل الرابع
المرأة العربية والتكنولوجيا بين الاستهلاك والفاعلية
وسط هذه الطفرة العلمية الواسعة بدا الجميع، متهافتين على تطبيقاتها، ومستهلكين لكل ما تنتجه من غثّ وسمين. وخطفت هذه التقنيات الجديدة أعزّ ما يملكه الإنسان من حريات وقدرات، فصارت تتذكّر وتفكّر عنه، وتختار له وتتحكّم بقراراته.
وفي هذا السياق، يتوقّع المؤلف الأميركي المتخصّص في شؤون التقنية جاكوب وورد، في كتابه المهم “الدائرة”: “أن يكون العالم الجديد عبارة عن فقاعة متعة خالية من الخيارات…فالأفكار المعلنة من قبل عمالقة شركات التقنية تشير وبوضوح إلى أننا مقبلون على عالم جديد…وأن قرارات الإنسان المستقبلية مهما بدت في ظاهرها مستقلة وموضوعية فهي غير ذلك تمامًا”. [17]
ويتبين لنا ذلك من خلال مراجعة الأرقام التي تسجّلها بيانات المستخدمين لهذه التكنولوجيا، وحجم المبيعات والأرباح التي حققتها الشركات المشغّلة.
جاء في تقرير صادر عن الاتحاد الدولي للاتصالات: “أن عدد مستخدمي الإنترنت حول العالم بلغ 4.9 مليار شخص في 2021.” وقال الأمين العام للاتحاد الدولي للاتصالات، هولين جاو، “إن ما يقرب من ثلثي سكان العالم متصلون بالإنترنت الآن.” [18]
وذكر موقع أبو عمر التقني، أن “عدد مستخدمي الإنترنت المتوقّع للعام 2022 قد يبلغ 5 مليار شخص.” [19]
ونشرت قناة الجزيرة القطرية أن “شركة (ألفابيت) وهي الشركة الأم لـ(غوغل)، حقّقت عام 2021 مبيعات فصلية بلغت 65 مليار دولار. كما حققت أرباحُا صافية تبلغ نحو 19 مليار دولار.” [20]
أما المرأة العربية، فلم تتأخر هي أيضًا عن مواكبة هذه الثورة الجديدة والتفاعل مع تطبيقاتها المتنوعة على كل المستويات. وعلى الرغم من بعض الفروقات التي ما زالت قائمة بينها وبين الرجل في استخدامات هذه التكنولوجيا، من جهة، وبين النساء أنفسهن بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية القاسية التي ترزح تحتها أغلب البلاد العربية، من جهة أخرى، إلا أن الوقائع تؤكد أن المرأة العربية بعامة، قطعت شوطًا مهمًا في انخراطها وفاعليتها في هذه المجالات.
تشير معظم الإحصاءات إلى أن نسبة مشاركة وفاعلية النساء العربيات في قطاع التكنولوجيا والاتصالات ما زالت منخفضة عن الرجال، وذلك بسبب حرمان المرأة من حق التعليم في بعض المجتمعات، وتوجّهها إلى الدراسات النظرية والأدبية، وعزوفها عن الدراسات العلمية والتطبيقية، وخضوعها للسيطرة الذكورية وحرمانها من المشاركة والعمل، وانغماس بعضهن في التعاطي مع التقديمات التكنولوجية بطريقة الاستهلاك المشبِع لرغباتهن في مجالات الموضة والجمال والتسوّق.
ولكن مما يدعو إلى الإعجاب من جانب آخر، هو ذلك الواقع الذي يوثّق للكثير من الظواهر والمبادرات الرائدة لانخراط المرأة العربية وأثرها البالغ في التعاطي والتقدّم في المجال التكنولوجي.
نشر موقع تيليكوم ريفيو “في حدث استثنائي افتراضي انطلق WomenTech Leaders الذي استضافته مملكة البحرين وامتدّ على مدى يومين، 25- 26 كانون الثاني 2021. كان هذا الحدث الملتقى الأهم للنساء الرائدات في مجال التكنولوجيا من بين أكثر من 20 دولة في العالم العربي والعالم، حيث شاركن تجربتهن وأهم التحديات التي تواجههن على صعيد المجتمع ككل وحقل العمل.”
وتابع: “وأطلقت وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات المصرية برنامجها الخاص لدعم الفتيات المصريات بالاعتماد على التكنولوجيا والاتصالات بما يخدم السوق المحلي ويوفر الخدمات الرقمية للسوق الخارجي.”
وتحت عنوان: “المرأة العربية تقود عصر الرقمنة”، ذكر الموقع نفسه: “خلال السنوات الأخيرة أصبح تركيز المؤسسات والشركات والهيئات أكبر من أجل تحقيق المساواة بين الجنسين وفي كل المجالات. وتتناغم هذه الخطوات مع حضور المرأة الفعّال لتكون قيمة مُضافة في الوسط العملي وخصوصًا في قطاع التكنولوجيا والاتصالات…في العام 2019 أطلقت شركة الإمارات للاتصالات المتكاملة أول مجلس للمرأة على مستوى قطاع الخدمات والتقنية، للتأكيد على تأثير السيدات ودورهن الحيوي في المجتمع، وعلى تطوير التعاون وعمليات التواصل لتعزيز قدرات المرأة وتحسين الأداء والكفاءة لخلق التناغم بين مختلف أقسام الشركة.” [21]
وتُظهر هذه المؤشرات مدى حاجة المجتمعات العربية إلى إطلاق حملة تشريعات جديدة، في مضمار تمكين المرأة في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، بعد أن بات واضحًا أثرها الكبير واستعدادها للمشاركة في استخدام التقنيات الحديثة، على أن تترجم هذه التشريعات في تحقيق الأهداف التالية:
-تيسير جميع الطرق لنفاذ المرأة إلى عالم تكنولوجيا المعلومات.
-توسيع حق المرأة ودورها في تحقيق الأهداف الإنمائية المتوقعة في مجالي الاتصالات والتكنولوجيا.
-تعميم محو الأمية الرقمية لتعزيز الاندماج الاجتماعي والاقتصادي للمرأة في إطار الثورة التكنولوجية الجديدة.
الخاتمة
إن معركة المرأة العربية لاستعادة هويتها ودورها لم تنته لتتفرّغ لمواجهة جديدة مع تكنولوجيا العصر، وما زال أمامها مهمة شاقة لإقرار القوانين الضامنة لحقوقها في المشاركة السياسية والحماية من الأمية والانتهاكات والعنف الخطير.
لقد فرض الواقع التكنولوجي الجديد على المرأة العربية تحديات صعبة، وبقدر ما عليها مواصلة حملاتها لتثبيت مساواتها في كل الحقوق، فإنه يتحتّم عليها أيضًا الدخول في قلب معركة حماية الأسرة من التوجّهات الداعية إلى تحطيمها في التحرّر الجنسي والمساكنة والمثلية والإجهاض.
وكما أن أمومة المرأة ودورها الأساس في صناعة الأسرة والأجيال هي من صميم هويتها، فإن المحافظة على القيم الإنسانية هي أيضًا من صميم هويتها ودورها في صنع السلام النفسي والاجتماعي.
إن حضور المرأة العربية في الحياة هو ضمانة تاريخية وإنسانية لتوازن هذه الحياة، والحفاظ على سنّة التنوّع والتكامل الخلّاقين فيها.
فالمرأة العربية، هي الشاهد الملك الإنساني الأوحد، على ظلم التاريخ لها، يوم تُستدعى مع الشمس والجبال والأرض والنجوم والبحار ليوم الحساب، فتُسأل “بأي ذنب قُتلت”. (القرآن الكريم، سورة التكوير، آية ٩). وعلى تغيير هذا التاريخ وصناعة واقع جديد يحفظ قيم الإنسانية ممن يئدونها من جديد.
التوصيات
-توجيه الدعوة للأديبات والكاتبات لتجييش أدبهن لمواجهة سلبيات التكنولوجيا، وحثّهن على المساهمة في إنتاج أعمال ثقافية تعزّز الفاعلية والابتعاد عن الاستهلاكية.
-بذل المزيد من الجهود لمراقبة المرأة أطفالها في التعامل مع وسائل التواصل.
-توجيه الدعوة إلى المؤسسات النسائية لمخاطبة الجهات الرسمية لتعديل ما تتضمّنه المناهج والكتب المدرسية من تمييز وإجحاف بحق النساء.
-دعوة مجامع اللغة العربية لتنقية التراث من كل ما يوحي بالتمييز وإهانة المرأة.
ثبت المصادر والمراجع
أولًا: الكتب
- أحمد، ليلى، المرأة والجنوسة في الإسلام، الجذور التاريخية لقضية جدلية حديثة.
- الحسين، فهد بن علي، محاضرات في مقرّر: مقدّمة في إدارة التراث.
- بعلبكي، أحمد، وآخرون، الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر.
- بن نبي، مالك، مشكلة الثقافة.
- صالح، هويدا، صورة المثقف في الرواية الجديدة.
- عماد، عبد الغني، سوسيولوجيا الهوية: جدلية الوعي والتفكّك وإعادة البناء.
- كوش، دنيس، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية.
- معلوف، أمين، الهويات القاتلة.
- هنري، ميشال، الهمجية: زمن علم بلا ثقافة.
- وهولبورن، هارلمبس، سوشيولوجيا الثقافة والهوية.
ثانيًا: الصحف والمواقع الإلكترونية:
- الجزيرة، القناة الفضائية.
- الأمم المتحدة، الاتحاد الدولي للاتصالات، أهداف التنمية المستدامة.
- بو بكر، جيلالي، صحيفة اللغة العربية صاحبة الجلالة.
- تيليكوم ريفيو، منصّة قطاع الاتصالات والتكنولوجيا.
- حمود، هاني، أخبار تقنية، موقع أبو عمر التقني.
- شبكشي، حسين، تحديات الذكاء الصناعي، موقع جسور بوست.
- فاوسيه، ماريا، هكذا تكلمت سيمون دوبوفوار، الجمهورية نت.
[1] – الحسين، فهد بن علي، محاضرات في مقرّر “مقدّمة في إدارة التراث”، جامعة الملك سعود، كلية السياحة والآثار.
[2] – بن نبي، مالك، مشكلة الثقافة، الطبعة الرابعة 2000، دار الفكر، دمشق – سورية، ترجمة عبد الصبور شاهين، ص: 77.
[3] – كوش، دنيس، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية، الطبعة الأولى 2007، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت – لبنان، ترجمة د. منير السعيداني، مراجعة د. الطاهر لبيب، ص: 10.
[4] – صالح، هويدا، صورة المثقف في الرواية الجديدة،2011، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة – مصر، ص17.
[5] – بوبكر، جيلالي، صحيفة اللغة العربية صاحبة الجلالة، تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية.
[6] – معلوف، أمين، الهويات القاتلة، الطبعة الأولى 2004، دار الفارابي، بيروت – لبنان، ترجمة نهلة بيضون،
ص: 20-19-11.
[7] – عماد، عبد الغني، سوسيولوجيا الهوية: جدليات الوعي والتفكّك وإعادة البناء، الطبعة الأولى 2017، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت – لبنان، ص: 9.
[8] – وهولبورن، هارلمبس، سوشيولوجيا الثقافة والهوية، الطبعة الأولى 2010، دار كيوان، دمشق – سورية، ترجمة حاتم حميد محسن، ص:94- 93 .
[9] – سوشيولوجيا الثقافة والهوية، الجنس والهوية، مرجع سابق، ص: 111-110.
[10] – المرجع السابق، ص: 8.
[11] – الهويات القاتلة، مرجع سابق، ص: 39-38.
[12] – أحمد، ليلى، المرأة والجنوسة في الإسلام: الجذور التاريخية لقضية جدلية حديثة، الطبعة الأولى 1999، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة – مصر، ترجمة منى إبراهيم وهالة كمال، ص: 23.
[13] – المرجع السابق، ص: 47.
[14] – فاوسيه، ماريا، هكذا تكلمت سيمون دوبوفوار، الجمهورية نت، ترجمة رحاب منى شاكر، 2021/09/28.
[15] – بعلبكي، أحمد، وآخرون، الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 2013، ص: 258.
[16] – هنري، ميشال، الهمجية: زمن علم بلا ثقافة، ترجمة جلال بدلة، دار الساقي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 2022. ص: 7.
[17] – شبكشي، حسين، تحدّيات الذكاء الصناعي، موقع جسور بوست، 2022/09/20.
[18] – الأمم المتحدة، الاتحاد الدولي للاتصالات، أهداف التنمية المستدامة، 2021/11/30.
[19] – حمود، هاني، أخبار تقنية، موقع أبو عمر التقني، 2021/08/05.
[20] – قناة الجزيرة الفضائية، 2021/10/27.
[21] – موقع تيليكوم ريفيو، منصّة قطاع الاتصالات والتكنولوجيا، 2022/02/07، و 2022/08/09.