تايتانيك ترامب وجبال الجليد

 

 

«تايتانيك» ترامب وجبال الجليد

د. علي منير حرب

نادي الحوار الفكري – السبت في 2025/02/22

لقاؤنا اليوم يندرج تحت عناوين الثقافة السياسية والاجتماعية، وليس السياسة السياسية. وهو يتمحور حول تردّدات زلزال وصول الرئيس دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية، أقلّه حتى هذه الساعة، وما أثاره من زوابع داخلية وخارجية، قبل وأثناء وبعد دخوله البيت الأبيض. محاولًا التركيز على جوانب ثلاثة ضربها هذا الزلزال، وتتعلق بانتماءاتنا الكندية، والعربية، والثقافية الإنسانية العامة، ومستلهمًا من الوقائع والتحليلات بعض التوقّعات التي يمكن أن تنتج عنها، إضافة لتوجيه نداء حار إلى النخب السياسية والاجتماعية والثقافية والروحية حول العالم، من أجل الاستنفار وممارسة حضورها ودورها في الحضّ والعمل للحفاظ على الركائز الإنسانية والأخلاقية، التي تعزّز كرامات الشعوب والأوطان، وتحفظ أمن المجتمعات وسلام العالم.

 

من الواضح أن العالم، كان يقف مترقبًا عمّا ستسفر عنه الانتخابات الأميركية الرئاسية، ولاسيما بعد التراجعات الدراماتيكية التي مني بها عهد الرئيس بايدن.

فالرئيس ترامب معروف بأنه قادم من ماض مشبع برائحة المال والتجارة والمراهنات والصفقات، مؤمن بأن المال هو المحرك الفعّال لمفاصل الحياة، ومهووس بعالم الكازينوهات وعروض الجمال والاستثمارات في حقول الفنادق ومنتجعات السياحة، وهائم عاشق لحلبات الرياضات القتالية كالمصارعة والملاكمة، فلا صلة تربطه بالتاريخ، ولا يقيم وزنًا لمفاهيم الحوار وحضارة الفكر والسياسة، ولا لنصوص الدساتير والقوانين الوطنية والمواثيق والمعاهدات والاتفاقات الدولية، ولا لقيم الأرض وسيادة الأوطان وحقوق الشعوب، ولا للكرامات الإنسانية والوطنية وما يستتبعها من علاقات والتزامات وعهود.

 

كل ذلك شكّل أولى الارتجاجات المسبقة المحذّرة من حدوث زلزال عنيف سوف يضرب أميركا وأنحاء من العالم، كلما توالت مؤشرات اجتياح ترامب للصناديق الانتخابية.

وحدث ما كان متوقّعًا، وفاز ترامب بالحلم الذهبي الثاني، ودخل قيصرًا على عرش البيت الأبيض.

خلافًا لدخوله في ولايته السابقة، فقد جاء الآن متسلّحًا بفائض كبير من القوة والتجربة، والأحقاد وشهوة الانتقام، ومحاطًا بطغمة من أباطرة المليارات وخبراء التكنولوجيا، وجهابذة الصفقات وطابخي المشروعات الصادمة، وبرغبة جامحة لتحقيق شعاراته العالية وطموحاته الخارجة عن المألوف والتي تكاد تضيق بها الأرض، ومصحوبًا ببرامج أيديولوجية، منحته تفويضًا بالقبض على مجلسي النواب والشيوخ وقسم من قضاة المحكمة العليا، إضافة إلى رعاية إلهية مقدّسة أنقذته من محاولتي اغتيال في بنسلفانيا وفلوريدا، كي يأتي لخلاص أميركا وتجديد عظمتها المتهاوية.

إن معالم هذه الشخصية «المعقّدة، والمشاكسة والغريبة في أطوارها»، كما وصفتها بعض وسائل الإعلام الأميركية، تبلورت منذ اللحظات الأولى لإعلان فوز صاحبها، بكامل تجلياتها، وإلى أقصى حدود تطرّفها ونوازعها الانتقامية، وبكل مفرداتها وتعابيرها الهجومية العنيفة، حيث أطلق سيلًا من التهديدات في كل اتجاه، ليُدخِل في رَوْع العالم الهيبة والتوجّس، ويدفع بكثيرين إلى تحسّس شعر رؤوسهم والمسح على مقاعد كراسيهم في الحكم.

وربما سبقه رؤساء آخرون في مثل هذه الابتكارات، وما أكثرهم في التاريخ وفي الحاضر!…لكن من دون أن يلجأ أصحابها إلى إطلاقها بمثل هذه الصراحة والصفاقة، كما لم يذهبوا إلى حدّ توجيه رسائل الابتزاز المشينة، واستخدام الألفاظ والتعابير الفظّة أو الساخرة المتناقضة مع كل الأعراف والتقاليد الديبلوماسية والسياسية المعتمدة بين الدول مثل: الاستيلاء أو السيطرة أو الضمّ  أو التهجير أو تهديد الشعوب بالجحيم أو شراء الأوطان وتوزيع أهلها بالتفاوض أو بالإكراه.

 

لن أطيل عليكم سرد التصريحات والتهديدات والأوامر التنفيذية والقرارات الصاخبة التي سبقت ورافقت هذا الحدث الكبير، وأدخلت مؤسسات الدولة الأميركية العميقة، والأسس التقليدية للعلاقات الدولية، في تحديّات لا سابق لها، فأنا على يقين بأنكم شاهدتم وقرأتم وحللتم أكثر مما فعلت، ولذا سوف اكتفي بعرض سريع لأهمّ الشعارات التي أطلقها الرئيس ترامب، والتي راح يترجمها ويطبقّها في أوامره وقراراته، على المستوى الأميركي الداخلي، والمحيط الشمالي والوسط والجنوبي، أو على المستوى العالمي، ولاسيما العربي منه والفلسطيني تحديدًا.

 

-الشعار الأبرز الذي انطوت تحته معظم القرارات الآمرة هو «أميركا أولًا»، وإعادة «عظمة أميركا» واسترداد حقوقها ومقدّراتها المالية التي – على حدّ زعمه – أهدرها الرؤساء السابقون وإداراتهم وسياساتهم المجحفة، وسطا عليها الحلفاء الذين نهشوا أموال أميركا، وحوّلوا الكَرَم الأميركي المالي والعسكري، إلى صندوق صدقات عالمي يضخّ إعاناته العشوائية في جيوب العالم.

-والشعار الثاني هو عزمه على إنهاء الحروب القائمة، وعدم السماح بحروب جديدة أو مشاركة أميركا بها وتعريض الجنود الأميركيين للموت، بهدف تدعيم أسس السلام وتحقيق طموحه بحيازة جائزة نوبل للسلام، أسوة بالرؤساء روزفلت وولسون وكارتر وأوباما، ووزير الخارجية مارشال.

من أجل تحقيق الشعار الأول، وضمان «حماية المصالح والشركات والأسر الأميركية، وخلق بيئة تجارية عادلة مع الجميع»، اندفع الرئيس ترامب نحو تفكيك المعادلات الدولية الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية، فأعلن ما عُرف بحرب الرسوم التجارية، ومعاقبة البلدان التي تفرض رسومًا إضافية على الشركات المتعددة الجنسيات الأميركية، قائلًا: «إن حلفاء الولايات المتحدة هم غالبا أسوأ من أعدائنا على الصعيد التجاري»، وأمر بإغلاق معابر تهريب البشر والمخدرات، وإقرار وقف الهجرة غير الشرعية وطرد المهاجرين المخالفين، كما ترافق ذلك مع إعلان تجميد الإنفاق، وتجفيف المستنقع الأميركي على حد تعبيره، وإغلاق بعض الوكالات الاتحادية وفصل آلاف الموظفين للتخلّص من «البيروقراطية الاتحادية»، والانسحاب من بعض الهيئات والمؤسسات الدولية: اتفاق باريس للمناخ، ومنظمة الصحة العالمية، ومراجعة برامج مساعدات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID).

وقاده هذا الشعار أيضًا إلى تفكيك ما رسخ في العلاقات الدولية، منذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة، فطالب بملكية غرينلاند والسيطرة عليها، وضمّ جارته كندا وجعلها الولاية الـ51، مكرّرًا رغبته بالقول: «ما الذي يمنع الشعب الكندي أن ينضمّ إلينا وينشد نشيدنا؟». كما طالب بإعادة ملكية قناة بنما إلى أميركا بالكامل وبالقوة، وأقدم على تغيير اسم خليج المكسيك ليصبح خليج أميركا، وأطلق قنبلته المدوّية بالاستيلاء على قطاع غزّة وطرد سكانه وأهله، وتحويل ملكيته إليه شخصيًا.

 

وفي سياق تطبيق شعاره الثاني بوقف الحروب، فقد صرّح بأنه لو كان رئيسًا لما سمح بنشوب الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ولا بين إسرائيل والفلسطينيين ولبنان، كما صارح حليفه الأوكراني زيلينسكي بأن أميركا لن تدفع بعد الآن شيئًا بالمجان ومن دون مقابل، وأرسل وزير خزانته إلى أوكرانيا للمطالبة باسترداد ما مجموعه 500 مليار دولار دفعتها الولايات المتحدة كإعانات وإمدادات عسكرية، وذلك عن طريق المعادن الأرضية الثمينة لاستخدامها في تنشيط وتطوير الصناعات الإلكترونية في أميركا. وقام بإجراء اتصال شخصي بالرئيس بوتين بمعزل عن أوكرانيا نفسها وعن حلفائه الأوروبيين، للتداول في شأن إنهاء الصراع، كما باشر المسؤولون في إدارته بعقد لقاءات مباشرة مع المسؤولين الروس تمهيدًا للقاء الرئيسين ترامب وبوتين وإنجاز اتفاق السلام المرتقب. 

كما أجبر الأطراف المتنازعة في إسرائيل من جهة، ولبنان وغزّة من جهة أخرى، على وقف إطلاق النار بأسرع ما يمكن، وتوعّد بـ«جحيم في الشرق الأوسط» إذا لم يطلَق سراح الأسرى، مهدّدًا بأن «المسؤولين سيتلقّوَن ضربات أشدّ من أيّ ضربات تلقّاها شخص في تاريخ الولايات المتّحدة الطويل والحافل»، ثم ما لبث أن أطلق وعده التهجيري التطهيري الصادم، بتغيير هندسة الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية لخدمة المشروع الصهيوني، والذي يكاد يوازي إن لم نقل يفوق وعد بلفور عام 1917، عندما صرّح بأنه راغب في امتلاك غزة وتهجير أهلها إلى دول أخرى، وإقامة ريفييرا الشرق على أراضيها، بعد أن تطهّرها إسرائيل من أهلها وتُنهي تدميرها بالكامل وتسلّمها له رقعة مشاع.

 

تصاعدت موجات عارمة من الغضب والإدانة والاستنكار، في العالم أجمع، شمل العالم العربي والداخل الإسرائيلي نفسه، وحلفاء الكيان الإسرائيلي من مختلف الدول، في وجه هذه الخطط والمشروعات والأحلام الجهنمية، وتحديدًا تصريحه حول خطته لمستقبل غزة، الذي وُصف بأنه مشروع إبادة جديدة بحق الشعب الفلسطيني، وتطهير عرقي وتهجير قسري جماعي ينتهك كل القوانين الدولية، كما شكّل «صدمة القرن» عالميًا، وعربيًا على وجه الخصوص، على غرار «صفقة القرن» التي أعلنها في ولايته الأولى.

 

ولعلّ من أبرز مواقف الاعتراض والرفض ما صرّح به ملك الأردن عبد الله الثاني أثناء لقائه مع الرئيس ترامب، وما أكده الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أثناء استقباله لرئيس المؤتمر اليهودي العالمي دونالد لاودر، وما جاء في نداء كنائس القدس ضد مخططات تهجير فلسطينيي غزة، وما ورد في البيان الختامي الصادر عن  قمة الشعوب العربية التي انعقدت افتراضيًا تحت شعار «من وعد بلفور إلى وعد ترامب: فلسطين ليست للبيع»، بتنظيم من منظمة «المجلس العربي» وبمشاركة واسعة ضمت نخبة من السياسيين والمفكرين والحقوقيين العرب، حيث أكدت جميعها على أن إقامة الدولة الفلسطينية هي ضمانة السلام الوحيدة والدائمة في الشرق الأوسط، وأن حل القضية الفلسطينية ينبغي أن يأخذ في الاعتبار تجنب تعريض مكتسبات السلام في المنطقة للخطر، والبدء فورًا في إعادة إعمار قطاع غزة، من دون المساس بحقوق شعبها في أرضهم ووطنهم.

وكان من أسبق الأصوات التي ارتفعت في وجه مخطط ترامب الاستعماري هو الصوت الصادر من البلدين المعنيين بخطاب ترامب وهما الأردن ومصر، وشعبيهما، كما سارعت جامعة الدول العربية للدعوة إلى اجتماع طارئ لمناقشة هذا الحدث الخطير، وتنادى وزراء الخارجية العرب لعقد اجتماع عاجل بهذا الخصوص، كما سارعت المملكة العربية السعودية إلى تأكيد رفضها واستنكارها لهذه الخطة، مكرّرة قرارها بعدم السير في خطة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي إلا ضمن العودة إلى مبادئ حل الدولتين تنفيذًا لقرارات الأمم المتحدة والقمم العربية.

كما سارعت بريطانيا إلى التنصل من كلام ترامب، وساندتها وزيرة خارجية المانيا والرئيس الفرنسي وسائر الدول الأخرى، التي حذّرت من جنون ترامب وشريعة الغاب وانتهاء القانون الدولي، وأكدت على منع تهجير الفلسطينيين وعلى أن غزة جزء لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية.

كما عمّت مراكز المجتمعات المدنية وفئات مثقفيها وأحرارها، في بوسطن وفرنسا ولندن وبرلين وغيرها مظاهرات مندّدة ورافضة وداعية إلى محاسبة الرئيس ترامب ومستشاريه ومسؤولي إدارته الجديدة، رافعة لافتات كتب عليها «ارفعوا أيديكم عن غزة»، و«أوقفوا هذا الانقلاب» و«قفوا في وجه ترامب»، و«كندا ليست ولايتك رقم 51. وغزة ليست ولايتك رقم 52».

مفاتيح شخصية ترامب:

انطلاقًا من هذه الوقائع يمكننا أن نمسك ببعض مفاتيح هذه الشخصية الاستثنائية التي أورثته طباعًا غريبة ظهرت جلية في أفكاره وخططه.

أول هذه المفاتيح هو تعاملاته وعلاقاته القائمة – فوق كل شيء – على مبدأ المنفعة، خذ واعطني فورًا مع العوائد والفوائد. لا شيء عنده بالمجان. فراح يتعامل مع إدارته، ومع الدول والمؤسسات والمعاهدات والقوانين والاتفاقات الدولية المعقودة، كما مع الأوطان والشعوب، بمنطق المطوّر العقاري وبعقلية التاجر الذي لا يرى من حوله إلّا سوقًا مفتوحة للصفقات والابتزاز، وسلعًا معروضة للبيع والشراء وقابلة للمساومة، بغض النظر عما تمثّله من ثقافات وهويات وحضارات وتاريخ وقيم روحية وأخلاقية.

– أما المفتاح الثاني فهو اعتماده على القوة الخشنة الغليظة والاتكال على عضلاته المالية والاقتصادية، في تحقيق مآربه وأرباحه، على غرار اعتماده على عضلاته البدنية لتحقيق الفوز على منافسيه في حلبات المصارعة والنزال.

– والمفتاح الثالث هو اقتناص أي فرصة متاحة، شرعية كانت أم غير شرعية، أخلاقية أم لا، إنسانية أم متوحشة، طالما أنها تحقّق له نفوذًا ومكاسب.

– والمفتاح الرابع هو النزعة المتأصّلة لديه في الثأر والانتقام من خصومه ومنافسيه، بجميع الوسائل والأدوات.

 – والمفتاح الخامس هو الديناميكية الفائقة في التحرّك ودفع مساعديه ومستشاريه إلى تبنّي أفكاره وحملها إلى حيّز التنفيذ من دون إبطاء، إضافة إلى الحنكة والمكيافلية في اصطياد الحدث وإتقان تطويعه وتوظيفه لخدمة أهدافه، والبراعة في الالتفاف والتراجع والهجوم، كما يطبقّها في جولاته القتالية، بهدف إجبار الآخرين، على الخضوع لإراداته طوعًا أو كرهًا.

– والمفتاح الأخير هو ذلك النفس النرجسي المتغطرس غير المحدود، الذي حمله على وصف عهده بـ«العصر الذهبي لأميركا» وإلى وصف نفسه بأنه «الرئيس الرائع» لمجلس أمناء مركز كنيدي الثقافي، بعد أن أقال أعضاءه وعيّن نفسه رئيسًا له، كما وصف نفسه أيضًا بـ«الملك» وتداولت وسائل الإعلام صورة للرئيس ترامب عرضها البيت الأبيض وهو يرتدي تاجًا على غلاف مجلة تايم، ثم قام بالتنكيل بكل من لا يدين له شخصيًا بالولاء، إضافة إلى اختصار قضايا العالم وزعمائه في شخصه، وتنصيب نفسه وكيلًا شرعيًا منفردًا في اجتراح الحلول، له أن يقرّر ويأمر، وعلى الآخرين الطاعة والتنفيذ. وما اندفاعاته المستمرة لتصدّر الشاشات والمنابر والظهور بحالات استعراضية مصحوبة بحركات بهلوانية راقصة، إلّا ترجمة لهذا الشعور الاستعلائي سعيًا للترويج لبضائع أفكاره وأحلامه وقراراته، وهذا ما كان يتوسّله باستمرار في استغلال حفلات الرياضات القتالية التي كان يشارك فيها للإعلان والترويج لمشروعاته الفندقية والسياحية ومراهناته التجارية.

الخلاصة:

ونخلص من هذا كله إلى أن الشعارات التي سارع ترامب إلى رفعها والمناداة بها في مطلع حملته وبعد فوزه، باتت محروقة وساقطة بممارساته وقراراته. فقد أسقط فعلًا شعار أميركا أولًا تحت ضربات  الرسوم والضرائب والإجراءات التي اتخذها مع الجوار أو مع أوروبا والصين وغيرها، وبسبب طرد آلاف الموظفين وإغلاق عشرات الوكالات وتقليص الخدمات التعليمية والاجتماعية وغيرها، كما تهاوت عظمة أميركا، التي بنيت عبر قرون، سواء عن طريق المساعدات المالية والعسكرية، أم عن طريق صندوق التنمية الأميركي، أم عن طريق نشر القواعد العسكرية بالمئات حول العالم، أم بتشييد قلاع استراتيجية لسفاراتها في البلاد الأخرى، كما أن حلمه الكبير بحيازة جائزة نوبل للسلام قد انكسر بعد تهديداته التوسعية الاستعمارية الموجهة إلى مختلف الدول. فإذا كان رؤساء أميركا السابقون قد نالوا جائزة نوبل للسلام نظير جهودهم وإنجازاتهم لإنهاء الحروب ورعاية المنظمات الدولية وتقوية الديبلوماسية الدولية وتعزيز حقوق الإنسان وإعادة بناء أوروبا المدمرة بعد الحرب العالمية الثانية، فكيف يمكن للرئيس ترامب أن يحلم بنيلها فيما يجاهر بالاستيلاء على أوطان الآخرين وتشريد الشعوب وتهديد السلم العالمي.

من كل ما تقدّم يتبيّن أن الرئيس ترامب يقود وينفّذ انقلابًا كاملًا بكل ما تعنيه الكلمة، وإن لم يكن انقلابًا عسكريًا بالمفهوم التقليدي، لكنه يتجسّد في كل مفاعيله الهادفة إلى تعطيل الكثير من المؤسسات القائمة، وإلغاء العمل بالقوانين والأنظمة المطبّقة والمعمول بها منذ أكثر من قرنين، وفصل المناوئين والمعارضين، وإسكات وسائل الإعلام المناهضة، وإقالة كبار القادة والمسؤولين، والانسحاب من المعاهدات والاتفاقات الدولية، والانتفاض على علاقاته الاستراتيجية والعسكرية والاقتصادية مع أقدم وأصلب حلفاء أميركا، وتعيين قيادة ثورة الانقلاب من المقرّبين والمؤيدين.

إن ما قام به الرئيس ترامب، في أقل من شهر من توليه الحكم، وما يتو قّع أن يصدر عنه على مدار الساعة كما عوّدنا، من قرارات وأوامر مفاجئة وغريبة، سيسهم في إعادة رسم خريطة القوة العالمية لوضع بصمته عليها كما فعل من قبله الرئيسان روزفلت وترومان.

وكما يبدو واضحًا أن سفينة «التايتانيك» الترامبية تحاصرها أمواج عاتية، وتهبّ عليها عواصف صاخبة من الداخل والمحيط القريب والبعيد، وسوف تكون تداعياتها مكلفة على الأميركيين وعلى ترامب معًا، وخصوصًا مع الحليف الأوروبي التاريخي، الذي يتناقض في

حضارته مع مفهوم ترامب الرافض لليبرالية والتعدّدية وحكم القانون والمؤسسات الدولية، والذي يستمدّ حضارته من التراث اليوناني، والمسيحي – اليهودي.

وقد توضّحت مؤشرات التباعد والافتراق، لا بل النزاع الحضاري والاقتصادي والأمني وتخلخل العلاقات الاستراتيجية بينهما، بعد إعلان جيه دي فانس، نائب الرئيس الأميركي، أثناء مؤتمر ميونيخ للأمن (الأسبوع الماضي)، أنه لا مصلحة لأميركا في أن تدافع عن القيم الأوروبية، لأنها لا تشبه القيم الأميركية، فأوروبا في رأيه، لم تعد تؤمن بالديموقراطية.

وكان قد سبقه خطاب وزير الدفاع الأميركي، بيت هيغسيث، بمقرّ حلف شمال الأطلسي (ناتو)، الذي أبلغ فيه الأوروبيين أن أولويات أميركا لم تعد حماية الأمن الأوروبي، وبأن عليهم أن يحموا أمنهم بأنفسهم، لأن أميركا تواجه خطرًا وجوديًا على أمنها، وعليها أن تتفرّغ له، كما أبلغهم أن أميركا لن تقبل عضوية أوكرانيا في الناتو، وأن بوتين قد يحتفظ بأراض أوكرانية احتلها.

قد يمكن لهذه السفينة أن تعبر أنواء الخارج بصعوبات قليلة، مع احتمالات لجوئها لاتخاذ بعض التعديلات في مسارها لتتابع رحلتها بأمان وسلام.

ولكن الأفدح والأخطر هو ما ينتظرها في الداخل الأميركي، دولةً ومؤسسات، دستوريًا وقضائيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وتاريخًا وجذورًا وثقافة، إذ يمكن أن تتحوّل تحدّياتها إلى جبال من جليد تشكّل مصادّات صلدة في وجهها، قد لا تكتفي بمعاقبتها على التشقّقات التي تسبّبت بها في بنية الكيان العظيم، وإنما بالتحكّم في توجيه الدفّة وإلزامها على التصادم والتحطّم والغرق. ويقودنا إلى هذا التوقّع ما تشهده خريطة طريق هذه السفينة يوميًا من معوّقات ومواجهات واعتراضات، سواء على مستوى الأغلبية الضئيلة المفكّكة التي تتكئ عليها في الكونغرس، أو في الأقلية الضعيفة التي تملكها في القضاء المستقل في المحكمة العليا، أو في المواقف المتعارضة لأغلب حكومات الولايات، أو في قانون الخدمة المدنية الأميركية، أو في مكتب التحقيقات الفيدرالي، أو داخل المجتمع المدني مثل اتحاد الحريات المدنية الأميركية، ووسائل الإعلام ذات الميول الليبرالية، إضافة إلى تراجع التأييد الشعبي له بنسبة غير متوقعة، بسبب الإجراءات الداخلية الإدارية المطبّقة، والعواقب الاقتصادية المدمّرة التي يتوقّع أن تنتج عن فرض التعريفات الجمركية والحصص والحواجز التجارية والتي يمكن أن تتحوّل إلى حروب تجارية وتتسبّب بأزمات مالية واقتصادية كبرى. فقد أظهر أحدث استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب أن نسبة تأييد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بلغت 45%، بينما أعرب 51% من الأميركيين عن عدم رضاهم عن أدائه، وفقا لما نقلته شبكة (سي إن إن). وأشارت غالوب إلى أن معدل التأييد لترامب يقل بـ15 نقطة عن المتوسط التاريخي لجميع الرؤساء المنتخبين منذ عام 1953 خلال نفس الفترة.

ونتابع فنقول:

من جَزَم وقال إن التاريخ لا يعيد نفسه؟ فالتاريخ لا يكذب مهما زوّروه.

يحكي التاريخ أنه كان مريضًا أحرقته العبقرية، ويُثبت أن الجنون والعبقرية كثيرًا ما يجتمعان.

كان يحلم بجسر يصل به إلى كوكب المشتري، ثم حوّلته لوثة السلطة إلى شاذ سادي استبدادي، وشيطان عبقري في التدمير والخراب.

كان مصرًّا على أن يكون وحده محتكرًا ومالكًا لمفاتيح خزائن البلاد.

وعد شعبه العظيم بإنجازات تغييرية وإصلاحية باهرة، فأحب شعبُه رئيسَهم القوي، لكنه سرعان ما تحوّل إلى طاغية جبّار، مجادل لكل الدساتير، ومستغلّ لكل السلطات التي بين يديه لتصفية منافسيه وإذلال شعبه الذي صنع طغيانه.

ركب حصانه وأعلنه عضوًا في مجلس الشيوخ، «أفلا يكفيه فخرًا أنه حمله وأدخله البلاط؟!…»

توجّست الرعية رعبًا من جموح الوحش الذي رفعته إلى المئذنة، والدعوة لنفسه كإله يمتلك القدرة على منح الحياة كما يبرع في إنهائها.

خافت الطغمة على امتيازاتها…ثارت وقذفت الأحذية في وجه الطاغية انتقامًا لشرفها المهان: «إلى متى نبقى خاضعين لسلطة موتور مجنون»؟

طعنوه بالثلاثين ورموا به إلى قاع بئر عميقة إمعانًا في نسيانه.

وكانت نهاية الأسطورة.

وسقط الإمبراطور «كاليغولا» أحد أجداد نيرون، كما سقط من بعده وارثوه جميعًا.

هكذا أخبرنا الفيلسوف والروائي والمسرحي الفرنسي ألبير كامو.

يقول الطاغية: أنا الدولة…أنا الملك…أنا إله الوطن!…

وتقول الحكمة: إن مناطحة المستحيل مستحيلة، ماذا يفعل الإنسان لو أضحى وحيدًا تمامًا، وحده في القمة ومعه الحرية الكاملة؟ وإن الطاغية لا يستطيع تحطيم كل شيء إلا إذا حطّم نفسه أيضًا.

جاء في القاموس الفلسفي، للفيلسوف والكاتب الفرنسي فولتير: «يسمى الحاكم طاغية حينما لا يعرف قانونًا إلّا نزواته».

 ويقول الفيلسوف والمفكر السياسي الإنجليزي جون لوك: «حينما ينتهي القانون يبدأ الطغيان».

ويقول أستاذ التاريخ الأديب الدكتور العربي السوري شاكر مصطفى: «كل الدكتاتوريين في التاريخ يصعدون ثم يصعدون، حتى تأتي اللحظة التي ينتهي فيها أمامهم السلّم الصاعد، فتكون الخطوة التالية هي خطوة النهاية…والخطوة الأخيرة».

وأختم محذّرًا من أن نستيقظ غدًا على حلم جديد من أحلام ترامب وشريكه في الحكم إيلون ماسك، بشراء الشمس وحجبها عن العالم، كما فعل جدّه كريستوف كولومبوس، عندما أنذر السكان الأصليين بأنه مرسل من السماء، وأنه سوف يمنع القمر من الظهور إذا لم يقدّموا الغذاء لطاقَم سفنه.

وأكرّر نداء الفيلسوف الفرنسي الكبير إميل زولا، الذي ابتكر مصطلح «المثقّف» ومفهومه ودوره في التاريخ، حين نشر بيانه المعنون: «إني اتّهم»، عام 1898، دفاعًا عن النقيب اليهودي في الجيش الفرنسي «الفرد دريفوس»، الذي اتهم بالتجسّس لمصلحة الألمان، وحكم عليه بتجريده من رتبته العسكرية ونفيه إلى جزيرة الشيطان.

وأقول: إني اتّهم، هلعًا على مستقبل العالم، وخوفًا على مستقبل الأمم المتحدة وهيئاتها. وخوفًا على أميركا العظيمة التي تختار العزلة وتعادي الديموقراطية.

إني اتهم، كوني مواطنًا كنديًا وعربيًا، وأضمّ صوتي إلى موقف بلادي كندا الذي «أجبر طائرة رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتجنْب المجال الجوي الكندي خوفًا من اعتقاله بسبب مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.»

وأضمّ صوتي إلى نداء زعيم حزب المحافظين الكندي المعارض بيير بواليفر بأن «كندا لن تصبح أبدا الولاية رقم 51 …وأن كندا دولة عظيمة ومستقلة.»

واضمّ صوتي إلى ملايين الأصوات التي، وإن كانت تفتخر بالانتماء إلى القارة الأميركية الكبرى، لكنها لا تقبل الإذعان بالالتحاق كولاية 51 أميركية، حتى لو وصفها ترامب بأنها «الولاية الغالية.»

وأضمّ صوتي إلى كل الحناجر والضمائر التي تصدّت لمخططات ترامب في مستقبل غزّة وأهلها، غضبًا واستنكارًا ورفضًا، من أجل الوقف الفوري لمسلسل الإبادات المتمادي في حلقاته الدموية المدمرة، وتغليب صوت العقل والحكمة والحق لإنهاء هذا الصراع التاريخي. 

وأنادي على كل منظمات المجتمع المدني، والروحي الشرقي تحديدًا، والكتّاب والأدباء والمثقفين، بان يواكبوا بفعالياتهم حراك قداسة البابا فرانسيس، وبطاركة ورؤساء الكنائس في القدس، والمتنوّرين حول العالم، الذين يملؤون الساحات مطالبين بحماية ما تبقى من قيم الأخلاق والإنسانية، وللدفاع عن المظلومين والمعذبين، والمبادئ الليبرالية القائمة على احترام الإنسان وحماية حقوقه في الحياة والعدالة والحرية والديموقراطية والتنمية والأمن والرقي…    

«إني اتهم»، بيان ننتظره من شموس الفكر والفلسفة، حاملًا صوت القوة الناعمة، لينقذ البشرية جمعاء، من غطرسة القوة والكراهية.

وإنني على يقين، من أن غزّة الذبيحة المظلومة هي من سيطلق شرارات هذا البيان المرتقب. وكما انتصر «زولا» ورفاقه وأنقذوا «دريفوس» وأعادوا إليه حقوقه وشرف منصبه العسكري، سوف ينتصر أصحاب الضمائر وبناة المدينة الفاضلة الجديدة على أنقاض المدينة الفاسدة.

سنبقى بانتظار حقيقة المخلّص وليس وَهْم «غودو»…

وإن غدًا لناظره قريب.