جمهورية "الفيل يا ملك الزمان"
علي حرب
كندا في 11/08/2020
…وبعدما شبعنا موتًا ودمارًا وتشريدًا وذلاً.
بعدما تكسّرت فينا جميع مراكب النجاة المحلية والإقليمية والدولية، وتُركنا فرائس لأسماك القرش والتماسيح.
بعدما حُرمنا وأطفالنا من مصادر الحياة كبشر ومواطنين.
بعدما أصبحنا نتفَ أجساد مرمية تنتظر من يلمّها ويجمعها في المقابر وفي أدراج مكاتب الهجرة واللجوء.
بعدما فقدنا أيّ بصيص رجاء في الخلاص.
بعدما بتنا في أشداق اليأس والهلع.
نعترف أمامك يا سماحة السيد بأننا هزمنا.
ونقرّ لك بتحقيق نصركم علينا.
نعم يا سماحة السيد أنت وحزبك الإلهي حققتم أكبر انتصار على وطنكم وعلى شعبكم وعلى العالم أجمع.
لم تنتصروا بسلاحكم، ولم تنتصروا بحشودكم، ولم تنتصروا بقوّتكم العظمى.
أبدًا يا سماحة السيد،
إنتصرتم بجهلنا وغبائنا وغرقنا في أمراضنا الطائفية والمذهبية والاستتباعية والمصلحية والزبائنية، ليس نحن كشعب فحسب، بل كزعماء سلّموا لكم طائعين أمر الوطن ومؤسساته وجيشه وعناصر الدفاع عنه، وتركوا لكم تقرير مصيره ومصير شعبه لترسلوهم فرادى وجماعات إلى جهنّم، كي تتّسع لكم مراقد الجنّة فلا يزاحمكم بها أحد آخر.
كنّا ساذجين ومغفّلين وجهلة وأغبياء وعميان في بصرنا وبصيرتنا حين كنا نعتقد، وربما لا زال البعض كذلك، بأن عدوّكم وعدوّنا الأول والثاني والثالث والأخير هو إسرائيل ومعها سائر العالم “الإمبريالي” المتوّحش الذي يقتات على لحوم وعظام الشعوب المسكينة والضعيفة.
وإذ بنا نقف عراة أمام حقيقة هي من أمرّ الحقائق وأقساها وأمعنها فتكًا بظنوننا ومخيّلاتنا، وهي أننا نحن- شعب لبنان وشركاءكم في التراب والملح والخبز- كنّا أدهى عليكم وأعظم وأفظع عداوة لكم من إسرائيل،
وأن الوطن الذي آوانا كان خيمة مشلّعة بعصف رياحكم العاتية.
ليتنا كنّا يهودًا يا سماحة السيد فلربما حمتنا قوافل اليونيفيل.
ليتنا كنّا دواعش يا سماحة السيد فلربما وجدنا من يحملنا وينقلنا وأطفالنا إلى خارج حدود الكوكب الذي غرّر بنا وأغوانا بالعيش والإنجاب فيه.
ليتنا كنّا صهاينة يا سماحة السيد، وأعتذر جدًا عن هذا التمني القميئ، لعرفنا أقلّه لماذا نُقتل ونُذبح وتُستباح أشلاؤنا على مذابح الانتقام.
أميل إلى تصديقك يا سماحة السيّد بأنك وحزبك لستما مسؤولين أبدًا عن الانفجار النكبة الذي ضرب بيروت، ولكن لا يمكنني أن أصدّقك أبدًا بأنك لا تعلم شيئًا عن مرفأ بيروت.
لا يا سيد حسن، ليس باستطاعتنا إبتلاع هذا التصريح.
أنت يا سيد حسن سيّد لبنان ومالئ الفراغ منذ لحظة خروج آخر جندي سوري من لبنان، أقول آخر جندي بلباس عسكري فقط.
أنت صانع الرؤساء ورؤساء الحكومات ورؤساء المجالس.
أنت صانع المستشارين والخبراء والاختصاصيين والتكنوقراطيين بامتياز.
انت حاكم لبنان، واعترافي هذا ليس جديدًا عليكم ولا مستهجنًا عند كل زعماء السياسة في لبنان والعالم.
أنت الحاكم بأمرك ولك الأمر.
لأنك الأقوى والأقدر والأكثر معرفة بما في بطون الأمهات قبل أن يضعن مواليدهن على أرض هذا الوطن المنكوب.
أنت الأقوى شاء الآخرون، أقربين وأبعدين، أو تنكّروا.
لك الأمر وليس لأي مؤسسة وطنية أخرى قد نحترمها وقد لا نحترمها.
أنت، وأنت وحدك يا سيد، قادر على إيقاف عجلة الوطن، كل الوطن، ساعة ومتى تريد.
أنت، وأنت وحدك متمكّن من تعطيل أي استحقاق إلى أن يأتي ملبيًا لمشيئتك.
أنت صاحب المفاتيح الذهبية التي عجز رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومات والوزراء والنواب والمدراء العامون وقادة الجيش والقوى الأمنية والقضاة وقصور العدل عن امتلاكها.
عفوًا وقليلاً من التواضع يا سماحة السيد،
أنت ربّ البيت اللبناني، وربّ البيت أدرى باسراره وخفاياه وما يدور على أرضه.
أما الآن ومن خلال النيران التي خيّمت على سماء بيروت ولمّا تخمد بعد،
ومن أنهار الدماء التي سالت والأرواح التي خطفت،
من أنين الجرحى والنائمين على بقايا حجارة بيوتهم،
من بقايا أنفاس المدفونين تحت الأنقاض،
ومن آخر نقطة سكبها “حسّانكم” في كتاب إستغنائكم عن خدماته،
نناشدك ولا نناشد سواك: لا رئيس الجمهورية ولا رئيس مجلس النواب ولا زعماء الأحزاب والطوائف ولا الأقطاب ولا المعارضة ولا الموالاة ولا النواب مستقيلين وغير مستقيلين،
نناشدك أنت وحدك يا سماحة السيد،
أن تتكرّم علينا، إذا ما تبقى لنا عندك من حساب،
فتوقف فورا مهزلة المشاورات والاستشارات، وتأمر فورًا بوقف التحقيقات في انفجار بيروت، فنحن بتنا على يقين تام بأنها تمثيليات سخيفة لتضييع الوقت والجهد فيما الوطن يغرق في النكبة والمأساة.
وتفضّل يا سيد حسن، وجهّز أتباعك ومرافقيك وجيشك وتربّع على كرسي جمهورية “الفيل يا ملك الزمان”، (فلربما تسنّى لك قراءتها إذا كنت تقرأ ماكتب محمد الماغوط وأمثاله)، واحكم بما تشاء وكما تشاء.
أطرد كل شركائك الصغار الذين قاسموك الأرباح والمكاسب.
إجعل منها جمهورية إسلامية، أو دولة دنكيشوتية أو دولة حوثية، واستبدل بجيشها وقواها الأمنية الحرس الثوري والحشد الشعبي وكل ما يخطر ببالك من مفردات الممانعة والصمود والمواجهة.
دمّر كلّ فنادقها ومرابعها ومسارحه ومستشفياتها وجامعاتها، وتخلّص من كل مبدعيها وفنّانيها ومثقفيها.
أحرق متاحفها ودمّر آثارها والغِ تاريخها، وأشطب اسمها من الكتب المقدّسة.
فتّت أبجديتها التي وزّعتها هباء على الإنسانية كلها واعتمد أبجدية مقاوِمة حروفها من نار وأمونيوم.
وابنِ على أنقاض كل ذلك جمهورية مقاوِمة على قياس طموحك، ووفّر على الوطن المنكوب تكاليف الحكومات والنواب والإدارات ومصاريف الانتخابات ورواتب الوزراء والمستشارين.
واعفِ الدول الشقيقة وغير الشقيقة، التي تعبت من لبنان كما أتعبته، عبء المساعدات والمنح والهبات.
احكم وحدك يا سيد حسن، وارحمنا من كابوس الهلع والموت والدمار الذي يقودنا الى الكفر.
لكن تذكّر دومًا، أنك لن تحكم إلاّ وحدك، لأنك لن تجد أبدًا شعبًا لبنانيًا أبيًّا يستظلّ حكمك في وطن لا أرزه ولا ترابه ولا هواؤه ولا ماؤه ولا لغته ولا جبرانه ولا سعيدعقله ولا صافيه ولا شحرورته من نسيجه.
هو نسيج حلمك ومن شاركك النهل من نهر الجنون فقط.