السلام في هلاك بين "داعش" و"دعاك"

السلام في هلاك
بين “داعش” و”دَعاك”
كندا 2023/01/22
مرّةً جديدة توجّه الكراهية طعنتها إلى صدر الديموقراطية في عقر دارها وعلى أيدي دعاتها ومعتمديها.
لا اتوقّع أن تكون حادثة حرق نسخة المصحف التي جرت مؤخرًا (2023/01/21) في السويد، هي الأخيرة في مسلسل العنف والكراهية، ما دام تيار اليمين المتطرّف يجتاح العالم، لاسيما في أوروبا.
من الظواهر الشائعة في مسألة حيازة السلطة والقبض على كراسيها، أن الطامعين إليها في البلاد النامية، يتوسّلون ما هو مباح وغير مباح لتحقيق مآربهم. وهذا ما حوّل هذه البلاد إلى مشاريع ناضجة لإنتاج الإرهاب والرهاب والعصبيات وسقوطها في دائرة التخلّف والانحطاط.
ولكن، يبدو الأمر مخيفًا جدًا، عندما تنتقل هذه العدوى القاتلة إلى عمق الأرض الديموقراطية، إذ تتلبّس أبشع صور التكاذب، ويكتنفها الكثير من الرياء والمصلحية والشعبوية المضلّلة، وأمثلة الرئيسين السابقين، اليمينيين المتطرّفين، الأميركي دونالد ترامب والبرازيلي جايير بولسونارو ما زالت طازجة في الذاكرة.
قدّمت السويد نفسها، على أنها من أعرق الدول الديموقراطية في العالم، وأنها من أكثر الدول استقطابًا للمهاجرين، من كلّ الأطياف الإنسانية دون تمييز، نظرًا لما تؤمن به وتطبّقه من قيم التسامح والعدل وحرية المعتقد والتعبير وحقوق الإنسان.
ندرك جيدًا أن للسويد الحقّ الكامل في اختيار سياستها وخططها وعلاقاتها، وتحديدًا في موضوع سعيها للانضمام إلى مجموعة حلف الأطلسي.
ونتابع ما يعوّق هذا الطموح بفعل الفيتو التركي.
ولكن ما لم نتمكّن من تفسيره إزاء هذه الحالة، هو العلاقة الملتبسة بين حرق المصحف أمام القنصلية التركية، مع رفع الصور المسيئة للنبي وللدين الإسلامي، وبين المهاجرين المسلمين إلى السويد، وموقف تركيا الذي يحجب عنها دخول الناتو، إلّا إذا كان القرآن الكريم، قد تضمّن نصًا خفيًّا، لم يكتشفه علماء التفسير والفقه، يدعو إلى رفض دخول السويد إلى هذا الحلف، وتفتّقت عبقرية زعيم حزب “الخط الصلب”، اليميني المتشدّد، الدانماركي المهاجر هو أيضًا، راسموس بالودان، عن اكتشاف هذا العائق الإيديولوجي الخطير! وهو يعلم جيدًا، كما دولة السويد، أن المهاجرين المسلمين هناك لا أثر ولا تأثير لهم في هذه القضية، وأن تركيا دولة علمانية، وأن رفضها قائم على شروط تتعلق ببعض الأحزاب والأشخاص الذين تتهمهم بالإرهاب، ولا يرتبط بأي صلة بالعقيدة الدينية.
كان بإمكان بالودان، لو كان حريصًا على مبادئ الديموقراطية حقًا، وعلى حق بلده في طلبها، أن يطالب مجموعة الحلف بتعديل دستورها الذي يوجب موافقة جميع الأعضاء على طلب أي دولة بالانضمام إليه. أو أن يساهم في إيجاد أي مخرج تفاوضي سياسي من هذا النفق.
ولكن ما كان يرمي إليه حقيقة هو رفع منسوب الخطاب الشعبوي لاستقطاب المؤيدين لكسب معركة سياسية عن طريق إيقاظ غرائز الحقد والكراهية والعنف الديني، متسلّحًا بشعارات الحرية الزائفة، ومستخدمًا أقذر الوسائل التي جرّت على البشرية -عبر التاريخ- كوارث مدمّرة، لما أنتجته من أحقاد وضغائن.
والأدهى من ذلك أيضًا، أنه قام بارتكاب فعلته المشينة بسماح وتأييد من السلطات وحمايتها. وهذه هي الطعنة الأمضى التي أصابت الديموقراطية جراء ذلك، لأن الدولة هي الموكلة بحماية الحريات – عصب الديموقراطية – من تفلّتها وجموحها وخروجها عن مسارها الأخلاقي والاجتماعي، وخصوصًا إذا كان من تحميه وتؤيده صاحب سجل عدلي سيّئ لديها.
في حوادث مماثلة سابقة، أقدم أصحابها على الإساءة للمسلمين ورموزهم الدينية، سواء في حرق المصاحف أو الاعتداء على أماكن العبادة أو المحجبات، كانت تسارع النخب السياسية والثقافية لتطويقها وإطفاء نيرانها قبل أن تتمدّد.
ولكن، ما يتجلّى من استفحال هذه الظواهر وتصاعدها وتواترها وتنقّلها بين الدول، بحماية المسؤولين وتأييدهم، بات أمرًا يستدعي تدخّل الحكماء الحاسم، ليس من أجل حماية القيم الدينية والأبرياء المعتدى عليهم فقط، بل من أجل وقف هذا التدهور الخطير لحال الديموقراطية، وهذا الانحدار المخيف في ممارسة الحريات، والذي ينذر بتمدّد داعشية بيضاء تهدّد سلام العالم بعد أن تصاعدت اعتداءاتها الدموية والعنصرية وطالت جهات تختلف عنها في اللون أو العرق أو الدين أو الثقافات.
بالأمس القريب، تهوّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ولم يحسب لمغبّة تصريحه الانفعالي وأبعاد ارتداداته على عالم إسلامي يضمّ أكثر من مليار نسمة، وفي أجواء عالمية تضجّ بالتطرّف والداعشية والإرهاب والقتل، فأعلن، مدافعًا عن التهكّم بالصور الكاريكاتورية على نبي المسلمين، أننا “لن نتخلى عن الرسوم الكاريكاتورية…لأن الإسلاميين يريدون الاستحواذ على مستقبلنا”، متناسيًا روح الثورة الفرنسية التي علّمت العالم مبادئ “الحرية والإخاء والمساواة”، ومتغافلًا عما قاله أئمة المفكرين الفرنسيين والأوروبيين عن الإسلام.
وكانت النتائج مؤلمة على المجتمع الفرنسي وما شهده من تداعيات انتقامية آنذاك.
فهل يعي المسؤولون في السويد الخطورة المترتبة على موقفها غير المتسامح وغير الديموقراطي، لاسيما وأن الشرطة التي حمت المتطرّف راسموس في تظاهرته وفعلته، كانت على علم مسبق أنه قام بتكرار هذا السلوك الحاقد في أكثر من مناسبة ومنطقة.
يكفي البشرية ما عانت من ويلات إرهاب القاعدة والداعشية الإسلامية التي استباحت دماء الشعوب وسطت على أراضيهم وممتلكاتهم واقتلعت الأقليات من أوطانهم، تحت شعار “دولة إسلامية في العراق والشام – داعش”، ويكفي العالم ما يتهدّده من أخطار الحروب والصراعات المتأججة والبؤر المشتعلة، ولم تعد الأرض قادرة على تحمّل المزيد من الدماء والدمار.
إن حرق مصحف من قبل بعض الأفراد الموتورين لن يقضي على الإسلام، كما أنه لن يقوّض الديموقراطية.
لكن السماح به وحمايته بالقانون هو مؤشّر خطير لبداية إحراق الديموقراطية والحريات واستيلاد داعشيات بيضاء وسوداء ومن مختلف الألوان والأعراق والديانات، تحت شعار “الدولة العالمية للكراهية – دَعاك”.