أزمة مزمنة ونهضة معطّلة

بحث مشارك في المؤتمر العربي الدولي بعنوان:

أزمة الثقافة والمثقف العربي في حركة النهوض – معوّقات وحلول

2022/11/19

 

علي منير حرب – كندا

2022/11/19

الكلمات المفتاحية: النهوض – النكوص – النهضة – أزمة مزدوجة

 

المقدّمة

من أجدى وسائل العلاج عند الإصابة بعلّة من العلل، هو أن نحدّد مصدر هذه العلّة ومكامنها. ولعلّ من البديهي أن نعترف أن عالمنا العربي يعاني أزمة حادة في ثقافته، تسبّبت في تعطيل نهضته، وفقدان مناعته وتعرّضه الدائم لتيارات داخلية وخارجية، حوّلته إلى بؤرة صالحة لكل أوبئة النكوص والتخلّف.

إن الأمة التي تغيب عنها شمس الوعي تغيب عنها الحياة والصحة، ومن هنا أصبحنا شعوبًا عارية من أي سقف يحميها ويوفّر لها سبل التنمية والتقدّم.

في بحثي هذا، الذي يتناول المحور الأول من بين المحاور المحدّدة في بيان المؤتمر، حاولت ترجيع مسألة النهوض إلى أصولها اللغوية والاصطلاحية، معتمدًا على الاستقراء التاريخي والتحليل الاجتماعي والثقافي، لتبيان عوامل تعثّر هذه الحركة وفشلها في محاولاتها المتكرّرة، كما توجهت إلى عرض طبيعة العَطَب الذي أصاب القطبين المكلَّفين القيام بحركة النهوض وهما الثقافة والمثقّف معًا.

يتكوّن البحث من خمسة فصول، أفردت الفصل الأول للتعريف بكلمة النهوض حقيقة ومجازًا، والفصل الثاني لتسليط الضوء على انتكاسة النهوض وتكريس النكوص، أما الفصل الثالث فقد خصّصته للتأكيد على دور الثقافة والمثقّف في تحقيق النهضة والتنمية على مختلف المستويات، فيما حدّدت في الفصل الرابع طبيعة معوّقات هذه الأزمة وحيثيّات هذا العَطَب، وآراء المفكرين العرب في أسبابه المختلفة، لأخلص في الفصل الخامس إلى تسليط الضوء على ازدواجية الأزمة وتعطّل حركة النهوض، وإلى اقتراح بعض التوصيات التي أجدها بداية للعلاج والخلاص.

****الفصل الأول****

النهوض: الحقيقة والمجاز

يهدف هذا الفصل إلى توضيح مصطلحين اثنين: الأول مفهوم مصطلح النهوض. الثاني مفهوم «النهضة» ومدى ارتباطها بـالنهوض.

النهوض لغويًا يفيد حدوث حركة ما من شأنها أن تنبئ بالاستعداد لمغادرة حيّزي المكان والحال. جاء في لسان العرب: «نهض ومصدره نهضةٌ فانتهضَ، واستنهضه: أي أمره بالنهوض لأمر ما».[1]

وجاء في معجم مقاييس اللغة: «النون والهاء والضاد أصل يدلّ على حركة في علو».[2]

وجاء في سائر المعاجم المعاني التالية: «نهض: هبَّ معتدلًا، تحرّك، أسرع إلى، تحمّل أعباء المسؤولية، ارتفع.»

أما في مرادفات الفعل نهض فقد ورد: «انْتَصَبَ، وَثَب، أَفاقَ، اسْتَقامَ، صَحا…» وفي الأضداد نجد: «غفا، سَبَتَ، رَزَحَ تَحْت، ناءَ، تكاسَلَ، توانى، تَقاعَسَ…»                                    

مما سبق يظهر لنا أن الاستعمال اللغوي لكلمة «النهوض»، يدور في مجمله حول معاني القيام واليقظة وتحمّل التبعات ونفض التقاعس، ولم يتجاوز هذه الدلالات للتعبير عمّا قد ينتج عن هذا الفعل من مظاهر «نهضوية» تسفر عن تحقيق التغييير، لدى الإنسان والعمران، على الرغم من أنها تؤكّد في مجملها وجهةَ «النهوض» نحو مستوى أعلى مما كان سائدًا قبله.

إن فعل «النهوض» الذي ينتج عن الخروج من حال الركود إلى حال الوعي والاستعداد للانتقال، هو الذي يمثّل، بحدّ ذاته، حركة نوعية يمكن أن تُبنى عليها أساساتُ التغيير المرتقب في الوضع وفي المستوى. وأرى أن «النهوض» لا يعني أبدًا، مجرّد التحرّك الجسدي، إنما يعني في الحقيقة نهوضًا فكريًا واعيًا في المقام الأول، إذ من دون هذه الحركة الواعية، عبثًا نأمل حدوث التغيير، ويبقى الفعل في حدود ما يعرف طبيًا بـ«السير أثناء النوم»، والذي، وإن تضمّن لحظاتٍ من الاستيقاظ والمشي، إلا أنه استيقاظ وهمّي لا جدوى منه ولا أثر، حيث إن النائم الذي يسير لا يمكنه أن يحقّق المأمول من حركة نهوضه فلا هو قادر أن يستجيب أو يتواصل مع عالمه والآخرين، ولا يمكنه أن يؤدّي مهامًا ووظائف إرادية، إضافة إلى ما تحمله هذه الظاهرة الملتبسة من أخطار على المريض ومن وما يحيط به. 

أما في العلاقة بين «النهوض» و«النهضة» فإن هذه المسألة كانت وما زالت الشغل الشاغل لفكر الفلاسفة العرب، فأفاضوا فيها وصفًا وتحليلًا، تراوح بين معاني الصحوة واليقظة والانبعاث والتمدّن والتقدّم، مقابل الماضوية أو السلفية، والتخلّف والتردّي، وهي وقف على مدى نجاح حركة «النهوض» وما يُتوقّع أن ينتج عنها من تطوّر في كيان الإنسان والمجتمع.            

من الناحية الاصطلاحية، لم نعثر في قواميسنا العربية وأدبياتنا التراثية السابقة على ما يشير إلى انتماء النهوض إلى مفهوم «النهضة»، بمعانيها المعاصرة. وأبعد ما وقعنا عليه هو الإشارة إلى معاني الانتقال والتحفّز والانبعاث. وإذا عدنا إلى تراثنا العربي والإسلامي فإننا لا نجد ما يشير إلى ما يحمله «النهوض» من معان تفيد «النهضة» لغة واصطلاحًا. فكلمة «نهضة» لم ترِدْ في القرآن الكريم ولا في الأحاديث والأدبيات الإسلامية، ولا استخدمَ مفردتَها المفسّرون العرب وهم يتناولون الأثر الكبير الذي أحدثه الإسلام في حياتهم ونقلهم من الجاهلية إلى النور، ولا حتى في العصور الإسلامية اللاحقة التي أرّخت للعصر الذهبي للحضارة الإسلامية.

 ولا أعني هنا أن غياب مصطلح «النهضة» من توثيقات تاريخنا وتراثنا، تحديدًا بمفهومها الحديث، أننا لم ندرك معانيها أو لم نعش مظاهرها ونتائجها. يقول الطبيب والمؤرّخ الفرنسي (غوستاف لوبون): «لا نستطيع أن نذكر في التاريخ شعبًا وصل إلى الدرجة التي أدركها العرب في تلك المدة الوجيزة، فقد أسّسوا – من الوجهة الدينية – ديانة من أعظم الديانات السائدة على العالم، وشيّدوا – من الوجهة السياسية – صروحَ إحدى الممالك الكبرى التي عرفها التاريخ، ومدّنوا أوروبا من الوجهة الأخلاقية والعقلية.»[3]

ويقول أستاذ الدراسات القرآنية في جامعة الدمّام (حامد يعقوب الفريح): «النهضة كمصطلح يدلّ على واقع معين، لم يسبق للعرب أن استخدموه لهذا المعنى الذي أطلقت عليه في العصر الحديث، وعلى الرغم من شيوع هذا المصطلح في الأدبيات الفكرية، فإننا لا نكاد نعثر على تحديد دقيق يقع الاتفاق عليه بين الباحثين والمفكّرين حول مصطلح النهضة…ولم يرد لفظ «النهضة» في القرآن، وانما وردت ألفاظ أخرى تدلّ على بعض المعاني الموجودة في لفظ «النهضة» وهي: (التمكين والاستخلاف والإعمار والإصلاح والتغيير…) وهي ذات صلة وثيقة بمشروع النهضة.»[4]

ويقول (محمد عابد الجابري): «قد لا يستطيع الباحث أن يحدّد بالضبط تاريخ ظهور مصطلح «النهضة» بمعناها المعاصر في اللغة العربية، ولكن من المؤكد أنه راج ابتداء من النصف الثاني من القرن الماضي – على الأقل – في الخطاب العربي الحديث، إذ نجد مادة «نهض» وبعض مشتقاتها كـ«نهوض» و«نهضة» تتردّد على لسان كثيرين من الروّاد أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.[5]

***الفصل الثاني***

من النهوض إلى النكوص فالتعثر

                                 «إن أسوأ ما أخشاه أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، وأن ننتصر على

                                   المستغلين ونخضعهم، ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا.»

                                                                                                   (سلامة موسى)

على الرغم من كثرة الأوصاف التي راوحت بين الصحوة واليقظة والتجديد، والتي أطلقها النهضويون العرب على تلك الفترة التاريخية الممتدة بين زمن حكم محمد علي باشا في مصر، وما أعقبها من إرهاصات تبشّر بولادة وعي جديد لدى روّاد «ثقافويين» ظهروا على مساحة العواصم العربية، إلا أن أيًّا من هذه التسميات لم يتبلور ليشكّل تيارًا ثقافيًا نورانيًا بنيويًا يشعّ على زوايا المجتمع وطبقاته جميعها، لأن هذه المبادرات بقيت في حيّز تنظيري ضيّق، دون أن تنعكس داخل كينونة المجتمع والإنسان العربيين، أو على طبيعة الأنظمة السائدة بهدف إعادة تشكيل الفكر العربي وتجهيزه وتمكينه لإحداث التعديل أو التغيير.

من هنا أرى أن تململ النهوض، الذي أحسّ به المجتمع العربي، لم يكن في الحقيقة مخاضًا طبيعيًا لولادة سليمة لإنسان عربي منتج، إنما كان نهوضًا ملتبسًا لأنه لم يتأت عن وعي وبقي في إطار نهوض النائم، أو نهوض المذهول المستيقظ هلعًا على وقع الصدمات، وبقي تحت تأثير هول الرعب المغيِّب للوعي، ولم يُحدث يقظة وصحوة حقيقيتين، يمكنهما أن تكملا مراحل النهوض الواعي المؤسّس للتغيير.    

 والدليل على ذلك، أن البذور الأولى الفتيّة لهذه اليقظة سرعان ما بدأت تتساقط براعمها تباعًا، حيث لم تتهيّأ لها أسوار إدارية وإرادية حامية وراعية لمنجزاتها، أي لم تستكمل تكوين البنية الأساسية لترفع عليها بناءها النهضوي الصحيح.

إن الصدمات المتلاحقة التي تعرّض لها عالمنا منذ غزوة بونابرت، وما أعقبها من استعمار ونكبات وهزائم وثورات مجهضة وحروب أهلية ضروس، لم تفلح في إطلاق أبسط شرارات الانبعاث لتوليد واقع متغيّر، ولم تتمكن من إحداث الهزّة المطلوبة في حدودها الدنيا لإنتاج نهوض طبيعي، إنما قادت إلى أزمة زلزال كارثي وليس إلى انتكاسة مرحلية، كما يحلو لبعض المنظّرين القوميين تجميله.

إن الإجابات المتنوعة على الأسئلة المقلقة التي تواجه الأمة في مسألة تعثّر ولادة الحدث النهضوي، والمسبّبات الكثيرة التي شخّصها المشتغلون بالفكر العربي المعاصر، والمهتمّون بهموم النهضة والتقدّم، تبيّن بوضوح «أن ما خطط له منذ أربعة عقود – على الأقل – لم يحقق ما كان يرجى ويُتوخى، وأن الجهود التي بذلت مسّها قصور كبير في جوانب مهمّة من هذا المسار الفكري …. وبقيت دون المبتغى ولم ترق إلى مستوى التحوّل العميق في الأطر المرجعية ومنطلقات التأسيس والبناء. »[6]

***الفصل الثالث***

في الثقافة والمثقفين

                  قال سقراط لأهل أثينا: «أنا النحلة التي تقرص الحصان الأثيني الكسول.»

كلما بحثنا في شأن من شؤون التنمية المجتمعية الشاملة والمستمرة، لا بدّ من أن نجد العامل الثقافي حاضرًا وفاعلًا في كل مجالات هذه التنمية.

لذا نجد أن مصطلح الثقافة يبرز خلف كل النهْضَات التي حصلت شرقًا وغربًا، ويعمّ كل تفاصيل الحياة الإنسانية، فشاعت مسمّيات الثقافة الصحية والأسرية وثقافة التنمية والحوار والتسامح… ولهذا فإن أي خلل يصيب أجهزة المجتمع التنموية سببه بالتأكيد حدوثُ عيبٍ أو عطالة ثقافية في بنيته.

فالثقافة كما تمّ الإجماع عليها هي الرافعة التي تحمل النهضة، لأنها، بطبيعة تكوينها، تتضمّن شمولية المعارف والقيم الإنسانية، التي تُعنى بتوليد الوعي انطلاقًا من النواة الاجتماعية الصغيرة وهي الأسرة، وانتهاء بالنظام العام وأجهزة إدارات المجتمع.

إن طَرحَنا لموضوع الثقافة في هذا الفصل يتناولها من حيث وظيفتها الأساسية في التنمية، ودورها الجوهري في توليد الوعي.                                             وبهذا المعنى تتبلور أهمية بعض المزايا البنائية العضوية للثقافة، والتي تفسّر طواعيتها وقدرتها على التكيّف الإيجابي مع المتغيّرات المتلاحقة، زمانًا ومكانًا، بفضل امتلاكها للجينات المتجدّدة التي تؤهلها لذلك، لأن مفهوم الثقافة لا يتوقّف عند حدود جمع وتخزين المعارف، إنما يتجاوزها بعيدًا إلى استثمار هذه المعارف في تنشيط عملية التنمية الشاملة، وهذا ما أجمع عليه علماء الاجتماع في تأكيد العلاقة بين الثقافة والمجتمع.                                     وبالتالي، فإن الثقافة تدخل ضمن مفهوم السلطة الأولى، وأعني بذلك الثقافة الحرّة التي ترتفع بأصحابها المفكرين النقديين الذين يملكون الرؤية ولا ينساقون إلى أبواب التكسّب المادي أو السلطوي، ولا يتخلّفون عن أداء دورهم الرسالي في توليد الأنوار الهادية من أجل خلق إنسان جديد لعصر جديد.

إن ما يشهده العالم من الصراعات، وما يرزح تحته عالمنا العربي من مآس وتخلّف، ما كان ليحدث لولا تغييب الثقافة قسرًا عن ورشة البناء والتنمية. وإن انحسار أو تهميش دور المثقف، أو ما يصفه بعضهم «بموت المثقف»، على حدّ قول المفكّر المغربي الدكتور (عبد الإله بلقزيز) في كتابه «موت الداعية»[7] ، كانا من أهم الأسباب التي عمّقت ظاهرة التجهيل في المؤسسات والإدارات ومراكز القرار، وتركتها نهبًا للمحسوبيات والتبعيات، فانتشر الفساد وساد القهر والظلم، وضاعت التنمية على وقع تهجير الطاقات المؤهلة والعقول المبدعة، ما ساهم في تأصيل علّة النكوص المعرفي والحضاري التي أصابت بُنية الوعي الجماعي، وعطّلت مسارات النهوض العربي.

عندما بدأت أوروبا بطي صفحة القرون الوسطى، وتحديدًا في إيطاليا، فتح آل ميدتشي الأبوابَ لكبار الفنانين وقاموا برعاية الفلاسفة والكتّاب والمترجمين. وكذلك فعل هارون الرشيد عندما أراد أن يطلق العصر الذهبي للنهضة الإسلامية فأنشأ دار الحكمة وحشد لها أهل الفكر والفلسفة والأدب. والثورة الفرنسية ١٧٨٩ التي غيّرت وجه أوروبا قامت أيضًا على فكر الأنوار وعلى أصوات مونتسكيو وجان جاك روسو وآخرين. وحركتنا التنويرية التي شهدناها في القرن التاسع عشر قامت أيضًا على أكتاف المفكّرين والأدباء والعلماء. وإن أردنا أن نعطي المثقّف تعريفًا وظيفيًا دقيقًا، فهو أنه ملزم – إنسانيًا وأخلاقيًا – بألّا يقصر طموحه عند جمع المعارف المكتسبة، إنما ليحوّله إلى نسغ يحييه ويحيي مَن حوله باستخدام ثقافته ومراقباته الاجتماعية ليقرع أذهان الناس ويحرّك عقولهم. وإذا كانت الثقافة تمثّل رافعة النهضة في المجتمعات، فإن المثقّف هو ذراعها اليمنى.                                                       من هنا أرى أن من أبرز ما يميّز المثقّف المستنير عن سائر مخزِّني المعرفة هو الجهوزية والطواعية والكرم. لأنه بجهوزيته يكون مستعدًا لتلقّف الحدث، وبطواعيته يكون قادرًا على التفاعل معه، وبكرمه يكون فاعلًا في نشر فعل النهوض والوعي. وبذلك يصبح المثقف حارسًا واعيًا على بوابة التاريخ، ومرصدًا ذكيًا لأحداثه، ومحاميًا أمينًا للدفاع عن حق الإنسان في أي زمان ومكان.

***الفصل الرابع***

في معوّقات النهوض

                                                                     «العالم ليس في حالة جيّدة». (برتراند راسل) 

إن المتتبع لأوضاع الواقع العربي الحالية لا يحتاج إلى كثيرٍ من التمحيص والتدقيق ليكتشف تلك الهوة السحيقة من التخلّف التي يقبع فيها هذا العالم منذ نحو قرن ونيّف من الزمان. إنه عالم الأزمات المزمنة والمتناسلة، عالم غريب بانسلاخه عن واقعه وعن عقله ووعيه.

والأشد عجبًا، أن جميع القضايا التي كانت وراء عطالتنا النهضوية السابقة والراهنة ما زالت محطّ جدل وفذلكة لدى بعض مولّدي الأفكار عندنا، من غير أن يخرج عن تلاقح عقولهم حلٌ واحد أو خطة عملية يمكن الاستهداء بها لرسم خارطة خلاص تبيّن، بحدّها الأدنى، موضع الخطوة الأولى للعلاج المنتظر. وكل ما نتج عن هذا الصخب الفكري كان بمثابة عصف بلا مردود، حوّل الضائقة إلى أزمة «بابلية» معقّدة في تناقضاتها، رمت بأثقالها فوق أطيان دواهي المجتمع، لتزيد من عوامل انقساماته الهدّامة.

تحت عنوان «مشاهدات رجل من القرن الماضي» يقول (محمد عابد الجابري): «في مثل هذا الوقت منذ مائة عام كان مشروع النهضة العربية الحديثة قد تبلورت أهدافه وتمايزت أصوات المبشّرين به. ولو أن أحدًا من الروّاد العرب، الذين كانوا يقيمون آنذاك في باريس أو لندن، قد بُعث اليوم حيًا ليرى ما تحقق من ذلك المشروع لهاله الأمر واحتار في إصدار حكم عام على ما سيجده من فروق بين ما كان يحلم به روّاد ذلك المشروع والمبشّرون به، وبين وما آل إليه اليوم.»[8]

لا بد من الاعتراف أننا نعاني حالة قاسية من التردّي الحضاري، وأن أفضل ما نجحنا في تحقيقه، هو ضرب الأرقام القياسية في الازدياد السكاني، وفي تدني نسب النمو الحقيقي، والتطوّر الاقتصادي والتقني، وضعف إنتاجية الفرد العربي، وسوء إدارة الموارد البشرية والمادية، مقابل تحطيم الأرقام العالمية في أعداد الفقراء والعاطلين وضحايا الصراعات والمهاجرين والقافزين إلى لجج الموت هربًا من القهر والاستبداد، وبحثًا عن الحياة الكريمة.

يصف (حسن حنفي) حالة المجتمع العربي الراهنة فيقول: «يواجه الوطن العربي خطر التجزئة والتفتيت والتحوّل إلى فسيفساء عرقي طائفي، ودويلات سُنيّة وشيعية وكردية وعربية وبربرية وزنجية وإسلامية وقبطية ونجدية وحجازية، حتى تصبح إسرائيل أقوى دولة عرقية، وتجد شرعية جديدة لوجودها من طبيعة الجغرافية السياسية للمنطقة.»[9]

حار الطب في تحديد العلة الأساسية لأمراضنا، كما حار في تشخيصها علماؤنا ومفكّرونا. فمنهم من نسب العلّة إلى بنية المجتمع الأبوية التي تكرّس منطق السلطوية، وجعلها المرض العضال وأمّ العلل جميعها. فقد أرجع الدكتور (هشام شرابي) أزمة المجتمع العربي «إلى بنيته الأبوية التي تكرّس منطق السلطوية في أشكالها المختلفة، بدءًا بالسياسة ونظام الحكم، مرورًا بالنظام الأسري والنظام التربوي والتعليمي، وانتهاءً بسيادة منطق القبيلة والعشيرة على مستوى البنية الاجتماعية»، معتبرًا «أن إشكالية التخلف الذي يعيشه الوطن العربي كامنة في أعماق الحضارة الأبوية، والأبوية المستحدثة، ويسري في كل أطراف بنية المجتمع والفرد، تنتقل من جيل إلى آخر كالمرض العضال.»[10]

ومنهم من نسب العلة إلى مسألة التراث والحداثة، أو الأصالة والمعاصرة، أو الإسلام والعروبة. وطرحوا الأسئلة المضنية حولها: هل بالعودة إلى الماضي وتقديسه، أو بضرورة وضع قطيعة مع الماضي وتصحيح أخطائه؟

ويعرّف الأديب والمؤرّخ (أمين الريحاني) النهضة بقوله: «هي الثورة على القديم الذي أمسى عقيمًا، والقديم الذي صار باليًا، والقديم الذي كان منذ البدء فاسدًا، إن كان في الأحكام أو في الآداب أو في العقائد أو في العلوم». ومن جهته يعتبر المفكّر (إسماعيل مظهر)، أن النهضة «هي التغّير في الأساليب على مقتضى الحاجات العامة التي تحيط بالجماعات، وأن تغيّر الأساليب في مجموعها وجزئياتها يجب أن تساير سنن النشوء والارتقاء حتى يصبح أساس النهضة ثابتًا بعيدًا عن الطفرة القائمة على أساس طبيعي».[11]  

ومنهم من تحدّث عن غياب التعدّدية الثقافية والحوار الثقافي، وعن مسألة الهوية والمجتمع المدني، وفساد الأحزاب والسلطات السياسية، وغياب الدولة الحديثة، والتبعيّة الخارجية، ومسلسل المؤامرات والتدخّلات في شؤوننا ومصائرنا، والعولمة وسيادة ثقافة الاستهلاك التي ربطَت العالم بانفتاح الاقتصادات وهيمنة منطق السّوق.

وبوَصفٍ مختصر لحالة العالم العربي اليوم، هي أنها فوضى عارمة نتخبط فيها على كل المستويات، فلا إدارة حازمة، ولا إرادة صادقة، ولا حكم رشيد صالح وعادل. هي إضراب عن النمو، ومقاطعة للتنظيم، وانسحاب من سيرورة التطوّر والتقدّم، وغياب عن الوعي التاريخي.

***الفصل الخامس***

خلاصة وتوصيات

قالت الحكمة: «إذا أردت قتل شعب فاقتل ثقافته».                                                                                                                                                  وأقول: «إذا أردت بناء مجتمع فاجمعْ شتات مثقفيه وضعِ المعولَ في أيديهم».

على ضوء ما قدّمت عن واقع الأزمة، وموقع الثقافة والمثقفين منها، أخلص إلى التأكيد أن مجتمعنا العربي يقع تحت وطأة وباء عضال مزدوج أصاب الثقافة والمثقفين في آن واحد. لقد تعطّل قطبا التنوير فكيف يمكن لتيار النهوض أن يولّد الطاقة؟

إننا وبدون شكّ، غارقون في معمعة صاخبة من الصراعات السياسية والطائفية والمذهبية والعرقية، ومبتلون بأورام العصبيات والهيمنات المزمنة للأحزاب والسلطات الفاقدة للرشد والإرادة وحسّ الإدارة، وقابعون في تجمّعات بشرية مفكّكة وعارية من أبسط أستار التشاركية الاجتماعية الإنسانية.

إن عَطَب الثقافة ليس في الثقافة نفسها، إنما في طبيعة أجهزة القرار التي نجحت في تقزيم هذا العامل وتحييده وشلّ قدراته عن العمل.

إن الثقافة في أوطاننا مهدورة ومستبعدة من مجمل الخطط والبرامج، وإذا وجدت فعلى سبيل تدبيج الخطابات لا أكثر.

وإن المتحكّمين بالقرار، حكّامًا وأحزابًا وجمعيات ورجال دين، أمعنوا في تغييب الوعي الثقافي لتخلو لهم الساحة في التفرّد بإدارتها ومنع أي مؤثّر يمكنه أن يشكّل تهديدًا لمصالحهم ومصالح أتباعهم واستمرارهم في الحكم، واحتكروا كل منافذ الضوء الثقافي وأحلّوا التابعين الجهلة في المواقع والمراكز.

فلذا لا نعجب إن فشلت كل المحاولات والانتفاضات، وخمدت كل الأصوات المطالبة بإنتاج مواطن صالح واع لحقوقه وواجباته، وقادر على النقد واختيار ممثليه على أسس النزاهة والكفاءة. وكانت «النتيجة، تاريخيًا، هي أنّ الثّقافة في عالم اللغة العربيّة تحوَّلت إلى أشكالٍ من التكَيُّفات والمُرونات والتبَعِيّات، فقدت فيها الاستبصار والجذريّة، وتمَّ اختزال الحياة بالسّلطة، وبالصّراع وحولَها وعليها. وفي هذا تبدو الثقافة العربيّة كأنّها دَغَلٌ بلا حدود».[12]

والمثقّف هو الآخر، إما مقموع يائس، أو قابع وراء القضبان أو في مواجهة الموت أو التهجير القسري، وإما خائن لثقافته ورسالته متربع في برجه العاجيّ يمارسٌ نزعات نرجسيته، أو ملحق بأذيال قوى القمع سعيًا إلى الغنائم. فوقعنا في أدهى مصيبتين: خواء في الثقافة وغربة في المثقّف. وهذا التردّي السحيق أدّى إلى إنتاج ثقافات مدمّرة مضادّة: ثقافة الفساد والنفاق والاستغلال والتخوين والإقصاء والتبعية العمياء…

وأخشى ما أخشاه، إن تتهاوى بعضُ المظاهر والمنجزات الاستعراضية التي تشهدها بعض مجتمعاتنا، كما تهاوت محاولات النهوض السابقة، إذا لم يرافقها صناعة الإنسان المتنوّر والمنتج الذي بإمكانه التعاطي مع هذه الإنجازات والبناء عليها وتطويرها.

في حديثه عن «الدولة والثقافة» يقول الدكتور (حسن حنفي): «يبدو أنه لا يوجد حلّ للأمة العربية الراهنة على الأمد القصير، فالأزمة تتفاقم يومًا بعد يوم، والسكون العربي لم يتغيّر، ووهم العجز العربي ما زال مستمرًا…ولم يبق إذن إلا العمل على الأمد الطويل، واستعداد لمرحلة قادمة قد تكون أشد وأصعب…وهو العمل الثقافي: إعداد وجدان الأمة للنهوض عن جديد على إحداث ثورة فكرية ثانية.»[13]

 

التوصيات

لذا أدعو إلى:

  • تشكيل لجنة طوارئ ثقافية عربية جامعة، تضم مختلف المفكّرين في أرجاء الوطن العربي والمنتشرين في العالم، وتسعى إلى تجييش الإبداع الثقافي فلسفةً وعلومًا وفنونًا وتربية وإعلامًا…ووضعه في خدمة تحرير مناهج التفكير في الوطن العربي، بهدف إعادة الاعتبار لهذا العامل الأساس في توفير اللَقَاح الآمن ضدّ وباء التخلّف.
  • المباشرة بتصحيح الموقف الذاتي الهادف إلى نشر الوعي حول الشؤون التالية:

١- تطبيق الدعوة: «ثقفوا أولادكم قبل الولادة»، و«ربّوا آباءكم وأمهاتكم قبل أبنائكم»، و«علّموا المدرّسين قبل الطلاب»، و«أن الدين هو المعاملة».

٢- نحتاج طبيبًا مثقفًا يداوي الناس قبل مرضهم، وقاضيًا مثقفًا يحمي الميزان قبل انكساره، ومحاميًا مثقفًا يدافع عن الحقوق قبل استلابها.

٣- في عصر «جاهليتنا» الحديثة، لم نعد بحاجة إلى حشود من المتعلمين الأميين، بل علينا أن نطلق نسورًا ثقافية حرّة لتستعيد ثروات عقولنا الهاربة والمهجّرة الموزّعة في أربع جهات الكون.

٤- تفعيل العمل الثقافي خارج الحدود ليكون رافعة مساندة للمثقفين المضطهدين في أوطانهم.

المراجع

أولًا: المراجع العربية

ابن منظور: لسان العرب. ج٦. دار المعارف. القاهرة.

أحمد بن فارس. معجم المقاييس. ج ٥. القاهرة.

أحمد المنياوي. جمهورية أفلاطون. دار الكتاب العرب. حلب. الطبعة الأولى ٢٠١٠.

حسن حنفي. عرب هذا الزمان (٢٠٠٨). مؤسسة هنداوي ٢٠٢١.

عبد الإله بلقزيز، موت الداعية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، ٢٠٠٠.

عبد الله أخواض، المنهج في الفكر العربي المعاصر – من فوضى التأسيس إلى الانتظام المنهجي، مؤسسة هنداوي، ٢٠٢٢.

عمر فاخوري. كيف ينهض العرب (١٩١٣). مؤسسة هنداوي ٢٠٢٠.

محمد اسحق الكندي. تصوّر العلم في عصر النهضة بين العلمانيين والتأصيليين. جمعية الدعوة الإسلامية.   ليبيا. ٢٠٠٩.

محمد عابد الجابري. المشروع النهضوي العربي. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت. ١٩٩٦.

ثانيًا: المراجع الإلكترونية:

حامد يعقوب الفريح. قيم النهضة في القرآن الكريم. وليد البحيري. موقع الألوكة. آذار ٢٠١٨.

سعيد مضنية. إشكالية التخلّف في المجتمع العربي. موقع الحوار المتمدّن. العدد ٢٩٢٩. ١٠/٠٨/٢٠١٨.

علي أحمد سعيد «أدونيس».. مقابلة خاصة. إبراهيم حميدي. موقع السلم الأهلي. ١٨/١٠/٢٠٢١.

 

ثانيًا: المراجع الإلكترونية:

حامد يعقوب الفريح. قيم النهضة في القرآن الكريم. وليد البحيري. موقع الألوكة. آذار ٢٠١٨.

سعيد مضنية. إشكالية التخلّف في المجتمع العربي. موقع الحوار المتمدّن. العدد ٢٩٢٩. ١٠/٠٨/٢٠١٨.

علي أحمد سعيد «أدونيس».. مقابلة خاصة. إبراهيم حميدي. موقع السلم الأهلي. ١٨/١٠/٢٠٢١.

[1]– ابن منظور: لسان العرب. ج٦. دار المعارف. القاهرة. ص:٤٥٦.

[2]– أحمد بن فارس. معجم المقاييس. ج ٥. القاهرة. ص: ٣٦٣.

[3] – عمر فاخوري. كيف ينهض العرب (١٩١٣). مؤسسة هنداوي ٢٠٢٠. ص: ١٥.

[4] – حامد يعقوب الفريح. قيم النهضة في القرآن الكريم. وليد البحيري (موقع الألوكة). آذار ٢٠١٨. ص: ١٦.

[5] – محمد عابد الجابري. المشروع النهضوي العربي. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت ١٩٩٦. ص: ٦١-٦٢.

[6]  – عبد الله أخواض، المنهج في الفكر العربي المعاصر – من فوضى التأسيس إلى الانتظام المنهجي، مؤسسة هنداوي، ٢٠٢٢، ص: ٩.

[7] – عبد الإله بلقزيز، نهاية الداعية، الفصل الثالث: الممكن والممتنع في أدوار المثقفين، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، ٢٠٠٠.

[8] – محمد عابد الجابري. المصدر السابق. ص: ٧.

[9] – حسن حنفي. عرب هذا الزمان (٢٠٠٨). مؤسسة هنداوي ٢٠٢١. ص: ١٣.

[10] – سعيد مضنيّة. إشكالية التخلّف في المجتمع العربي. موقع الحوار المتمدّن. العدد ٥٩٥٩. ١٠/٠٨/٢٠١٨.

[11] – محمد اسحق الكندي. تصوّر العلم في عصر النهضة بين العلمانيين والتأصيليين. منشورات جمعية الدعوة الإسلامية. ليبيا. ص: ٥٩-٦٠.

[12] – علي أحمد سعيد «أدونيس». مقابلة خاصة (إبراهيم حميدي). موقع السلم الأهلي. ١٨/١٠/٢٠٢١.

[13] – حسن حنفي. المصدر السابق. ص: ١٢٥.