من حكايا مدينتي
الوحوش تفتك بالمدينة

من حكايا مدينتي (١)

اغتيال الفرح

د. علي منير حرب

06/06/2020

في اليوم السادس من أحد أشهر كورونا العجاف، تسللت إلى أحد الأسواق الشعبية في غفلة عن أعين الحرّاس.

شاهدت بعض الباعة يعرضون بضاعتهم وقد أحاطوها بالمشاعل، وزيّنوها بالرياحين، وعطّروها بالمسك والعنبر، وراحوا ينادون عليها بالأشعار والأغاني وتصفيق الأكفّ وإيقاعات الصحون النحاسية الساحرة،

فيما كان آخرون يُشهرون بضاعتهم على شفار السكاكين والعصيّ والسواطير، وينادون عليها بنباحات وعواءات وفحيح وضباح.

تقدّمت من أحد حرّاس السوق أسأله عما يجري.

نفض ثوبه بين يديه وقال: لا شان لي في ذلك، كلّ يغنّي على ليلاه بأدواته وصوته ولغته.

عدت حزينا مكسورًا خائفًا من اغتيال الفرح في مدينتي.

******

 

من حكايا مدينتي (2)

 

القبض على رأس الفساد

08/06/2020

بينما كان عسس الحاكم يجوسون في أحد الأحياء الفقيرة والمقهورة والجائعة من مدينتي، بحثًا عن الفاسدين والناهبين ومصادري لقمة الناس وحقوقهم، سمعوا همسًا من وشوشات الريح صادرًا من شجرة معمّرة، عتيقة تاريخية، كانت تظلّل الحيّ والأحياء المجاورة منذ 1441 عامًا.

استنفر العسس وطلبوا مزيدًا من القوى للمؤازرة.

طوّق العسس الشجرة، وشنّوا هجومًا عليها من جوانبها كافة.

فتّش العسس الشجرة وما حولها ولم يعثروا على شيء.

لمعت في ذهن قائدهم فكرة خارقة: لماذا لا تكون هذه الشجرة موئلاً للفساد ومصدرًا له؟

أمر القائد جنوده فأعملوا فؤوسهم في أغصانها الوارفة. وتحفّظوا على الأغصان اللصوص وهم يتدثّرون بأثواب مموّهة من بقايا قماشات الزمن القديم، وأعلنوا للملأ أنهم عثروا على كل أدوات التجويع والإفساد، ومبالغ طائلة من الأموال التي تمّت سرقتها.

سرعان ما ذاع الخبر في الأنحاء، فتسارعت الجماهير لتشهد إحدى أكبر جرائم التاريخ.

وفيما كان العسس يقودون الأغصان اللصوص إلى مقرّ القاضي، أركبت الجماهير اللصوص على ظهر حمار ووجوهها إلى الخلف وأمطروها شتمًا وقذفًا ونحرًا بأسنّة الرماح.

وفي اليوم التالي، وفي محكمة الأمور المستعجلة، وتنفيذًا لأوامر السلطان الذي أطلق تعليماته بأن مسؤولية حمل ميزان العدل تحتّم على القاضي ملاحقة من أوصلوا البلاد إلى هذا الدرك الخطير،عُلّقت على باب قصر العدل يافطة عريضة كتب عليها باللون الأحمر: اطمأنوا أيها الناس، فعين الحاكم لا تنام، ولصوص الفساد والتجويع أصبحوا في قبضة السلطة. وتيمّنًا بقوانين القياصرة فقد تمّ إصدار قانون أبي جهل الذي قضى بإعدام اللصوص حرقًا واقتلاع الشجرة التي آوتهم من جذورها.

ولمّا تساءل الناس عن أسماء اللصوص أجابهم القاضي: لا علاقة لكم بالأسماء، ما يهمّنا جميعًا أننا أنهينا أسطورة الفساد التي أنهكتكم ومنعتنا من بناء الوطن.

******

من حكايا مدينتي (٣)

 

“الطنبر” القاتل

11/06/2020

كان “الطنبرجي” في مدينتي أيام زمان هو سائق سيارة النقل “الطنبر”، التي تتولى حمل البضاعة وتسليمها، كما تقوم بحمل الأشخاص المسافرين، في بعض الأحيان، ممن لا يملكون حمارًا أو بغلاً.

هكذا أخبرني والدي نقلاً عن أجداده الأول، والثاني، والثالث، والأخير.

وحدّثني أيضًا انه كان في قريتهم الفقيرة “طنبرجي” عجوز يملك “طنبرًا” يجرّه بغل قوي.

كان فرحان “الطنبرجي” يضع فوق “طنبره” صندوقًا خشبيًا كبيرًا مخصصًا لتكديس البضاعة التي يتولى نقلها من مكان إلى آخر.

ذات يوم، وفيما كان فرحان يجول في أنحاء القرية باحثا عن رزقه، استوقفه رجل غريب ليس من أهل القرية الذين كان يعرفهم جيدًا.

طلب منه الرجل الغريب أن ينقله إلى دارة شيخ القرية لأمر هام، ووعده بنقده مبلغًا طائلاً لقاء خدمته.

حاول فرحان التملّص متذرّعًا أن “طنبره” مخصص لنقل البضاعة فقط ولا مكان لجلوس الأشخاص فيه.

ألحّ الرجل راجيًا مستعطفًا عارضًا المزيد من المكافأة واستعداده للدخول في الصندوق والجلوس فيه.

أصرّ فرحان على التمنّع والرفض، لكنه ما لبث أن أذعن أخيرًا لإلحاح الرجل ووعوده المغرية بأجر كبير.

دخل الرجل في الصندوق وانطلق فرحان يحثّ بغله على السير.

في طريقه إلى دارة الشيخ استوقفه رجل آخر، كانت مفاجاة فرحان به أكبر مما واجهه من الرجل الأول، وطلب منه نقله أيضًا إلى دارة الشيخ الذي استدعاه لشأن هام يعود بالنفع على القرية وأهلها.

ولم تفلح محاولات فرحان للتخلّص منه فصعد الرجل ودخل الصندوق متربعًا أمام صاحبه.

ولم يكد فرحان ينطلق أمتارًا عدّة حتى استوقفه ثالث ثم رابع وخامس وعاشر، احتشدوا داخل الصندوق وناء البغل بحمولته.

تابع فرحان طريقه نحو هدفه، وهو يمنّي النفس بحيازة كنز ينقذه من هذه المهنة الشاقة، ويحسّن من أحواله وأوضاع عائلته الغارقة في الفقر والتعاسة.

توقف فرحان أمام دارة الشيخ واستدار من فوق بغلته ليفتح الصندوق ويخرج الركّاب القابعين بداخله.

وما كاد يفعل حتى فوجئ بعاصفة هوجاء من العقارب المتوحّشة والصراصير المفترسة والافاعي السامّة التي قفزت في وجهه وتشبثت بجسده وشبعت من دمه ولحمه وعظامه، ولم تتوقف قبل أن تكمل وليمتها بطبق البغل الشهيّ.

شاع خبر فرحان بين أهل القرية، فسارعوا إلى تحطيم صناديق “طنابرهم” وإحراقها والامتناع عن حمل الأشخاص عليها.

لكنهم ما لبثوا بعد حين، أن نسوا مأساة فرحان، وعادوا إلى حمل الناس على أكتافهم، لا سيما الذين يقصدون دارة حفيد الشيخ، التي تناسخت بيوض حشراتها لتتحوّل إلى ديناصورات عملاقة تمنع عن القرية النور والهواء. 

******