نبحث عن ثقافة

د. علي حرب*

كندا في 15/09/2021

خاص: صحيفة الأمة العربية – الجزائر

استوقفني مصطلحان شاع ترويجهما في السنوات الأخيرة، “مهنة ثقافية” و”ثقافة المهنة”، وهما، كما يبدوان، نُسجا من خيوط الثقافة، ودخلا في سياق الخطط والبرامج التي تعمل وزارات الثقافة في بعض الدول على تنفيذها.

ما يلفت في هذين المصطلحين، أنهما، وقد انسلّا من روح الثقافة وعناصر تشكيلها، جاءا ليؤكدا، ما هو ثابت في اليقين النظري ومغدور في الممارسة الميدانية، من أن الانتساب إلى الثقافة والتلقّب بها هو مطمح المتطلعين إلى المرتقى والمحجّ الذي تتجه إليه النوازع، كما أنه مدعاة تكريم لشخص أو لعمل.

فالثقافة، بقدرتها الفائقة على استيعاب الحياة، ومكانتها العالية التي تهفو إليها الطموحات الإنسانية، وسعة صدرها لاستقبال الروافد المعرفية بأنواعها، تشبه في هذا المقام، ما يتّصف به الأدب من مزايا الجاذبية في غوايته لأصحاب المهن والحِرف الأخرى.

فالأديب والشاعر والفنان وغيرهم من المشتغلين في عالم الجماليات لا يمكنهم أن يقتحموا حصون الطب والمحاماة والهندسة، ولكن أبواب الفنون الأدبية تفتح ذراعيها لاحتضان أهل العلوم جميعًا.

هكذا هي الثقافة، بحر زاخر ثريّ ترتمي في أحضانه كل المتساقطات، وتصبّ فيه كل الأنهر القادمة من كل اتجاه.

الثقافة هي الشجرة العجائبية المعجزة التي تصمد بجذعها التاريخي المعمّر وتتباهى بأغصانها المثقلة بشتى أنواع الثمار والطيوب.

من الواضح أن مصطلح “المهن الثقافية” يرنو ويتشوّق لإضفاء صفة “الثقافة” على سلسلة طويلة من المهن التي تتحرّك كغيرها في ميدان الثقافة، لكنها ليست هي الثقافة بمفهومها وتكويناتها ومساراتها وأدوارها في عالم الإنسانية، مهما حاولت ان تتلبّس حلل الثقافة وتنتسب إلى فضائلها والشمائل.

قد تكون هذه المهن، على امتداد إشعاعاتها، محطات ثقافية منيرة، في المسرح والسينما والإعلام والرسم والإضاءة والتمثيل والإخراج… لكنها أبدًا ليست موّلدات شموس ثقافية قادرة على بثّ النور في أبعد الزوايا.

جميل ورائع أن ترتقي هذه المهن للانتماء إلى الثقافة والتحلّي بأزيائها، وهذا بحد ذاته مكسب ثقافي هام لها، لكنها تبقى قاصرة وحدها عن بلوغ مرامي الثقافة وأداء فعلها في إيقاظ الهمم وبثّ الوعي ونفخ روح التنوير والنهضة ونشر السلام والمحبة والعدل على هذه الأرض.

كما أن “الثقافة المهنية” هي أيضًا حاجة ملزمة وعضوية للارتقاء بأصحاب المهن المختلفة وتحديث خبراتهم  وتطوير وسائلهم بناء على معطيات العصر وتقانته، والتقدّم بمهاراتهم والارتفاع بإمكاناتهم العملية والمعرفية، وكل هذا عن طريق التثقيف والتدريب والتأهيل. لكنه يبقى أيضًا وأيضًا دائرًا في المحيط الثقافي دون أن  يخلق روحًا ثقافية خلاّقة لتجذير القيم والمثل وزرعها في النفوس والعقول.

لا أرمي أبدًا في هذا المقام إلى بخس أي مهنة حقوقها وأهميتها وموقعها، كما لا أهدف أبدًا إلى الاستهانة أو التقليل من شأن أي مهني أو محترف، لكنني أطمح إلى أن تعي وزارات “الثقافة”، في أوطاننا العربية المثقلة بالتخلّف والتردي والانهيار، حقيقة مهمتها وجوهر مسؤولياتها، واستلهام الأهداف السامية من اسمها “الثقافي” كي ترسم من وحيه سياساتها وخططها وبرامجها المتعاقبة، بهدف تعميم وغرس مبادئ وقيم الثقافة على مجمل المؤسسات والمراكز والمواقع في الدولة، وابتكار واحتضان ورعاية كل ما من شأنه أن يضيء شمعة ثقافية في دروب المواطن العربي المسلوب في إرادته وحقوقه وأمنه واطمئنانه، ناهيك عن حريته وعزّة نفسه وعيشه الكريم.

الثقافة في أوطاننا مهدورة ومغدورة وموؤدة. والمثقّف الحقّ إما مقموع وإمّا مستسلم.

المطلوب من الطبيب ومن المهندس ومن رجل القانون وسائر أصحاب المهن أن يكونوا كفوئين وماهرين وحاذقين ليؤدوا مهامهم  بنجاح وتميّز، والمطلوب من أهل الأدب والفن أن يجيدوا نتاجهم ويبدعوا فيه، لكن المطلوب منهم جميعًا أن يكونوا أيضًا مثقفين، كي يكملوا رسالتهم في المجتمع.

والمثقّف الحقّ، ليس شرطًا أن يكون طبيبًا أو عالمًا أو شاعرًا محلّقًا، لكن عليه أن يكون، بمحصلاته المعرفية الشاملة، رسول تنوير ووعي وإرشاد لكل العلوم والفنون، في أيام الشدّة كما في أيام الرخاء.

إننا نبحث عن وزارة “ثقافة”، هي برأيي أمّ الوزارت جميعًا، تفجّر تيارًا ثقافيًا معرفيًا شاملًا، ينبع من معين أخلاقي صاف، ويروي بمائه شرايين الأرض التي تيبست ظلمًا وجهلًا وقهرًا، ويتغلغل إلى مفاصل الوزارات الأخرى لاسيما في التربية والإعلام والشؤون الاجتماعية والعمل والصحة…

نبحث عن وزير “أول” مثقف يمكنه أن يقود سائر الوزراء في موكب نوراني ليضع البلاد تحت “الحماية الثقافية” ويحمل المعول ليباشر في هدم المدينة الفاسدة.  

نريد طبيبًا مثقفًا يداوي الناس قبل مرضهم، وقاضيًا مثقفًا يحمي الميزان قبل انكساره، ومحاميًا مثقفًا يدافع عن الحقوق قبل استلابها …

هل سمعت وزارات “ثقافتنا” عن الدعوة القائلة “ثقفوا أولادكم قبل الولادة”؟

هل سمع واحد من وزرائنا بالدعوة القائلة “ربّوا آباءكم وأمهاتكم قبل أبنائكم”؟ وبالنداءات المطالبة بتعليم المدرسين قبل الطلاب؟

هل سمع الساسة والحكام في بلادنا عمّا يسمى بتثقيف المجتمع سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وأسريًا…؟

هل تناهى إلى رجال الدين في أوطاننا أن الدين هو المعاملة؟

نحن، في بلادنا العربية “الجاهلية”، لم نعد بحاجة إلى حشود من المتعلمين الأميين، بل فقط علينا أن نطلق نسور الثقافة لتستعيد لنا ثروات عقولنا الهاربة والمهرّبة الموزّعة في أربع جهات الكون.

نبحث عن ثقافة حرّة لم تبعْ بعد شرفها في أسواق النخاسة السياسية والاقتصادية.

ونبحث عن مثقّف حرّ لم يقدّم رقبته للطوق طوعًا وطمعًا.

نبحث عن مثقف مارد طال انتظاره، يطلق جيوش النور من معاقلها لتزيح عن بلادنا غيوم الليل الطويل السامة والموبوءة.

نبحث عن حبة ملح غير فاسد نملّح بها عمرنا المهدور وأرضنا المحروقة.

*- كاتب وباحث في شؤون الثقافة

 – مدير مكتب كندا في “الاتحاد العالمي للمثقفين العرب”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.