عقوبات باسيل
والنظام الرئاسي العائلي

د. علي منير حرب

09/11/2020

تمهيد لتذكيرمن ينسى:

ينصّ الدستور اللبناني في مقدّمته أن لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية تقوم على العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل.

وأن رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن.

مناسبة هذا الحديث هو ما صدر عن الرئيس اللبناني ميشال عون في أعقاب قرار العقوبات التي فرضتها وزارتا الخزانة والخارجية الأميركيتان على صهره ووزير خارجيته السابق ورئيس تياره الوطني الحرّ جبران باسيل، حيث طلب من وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال شربل وهبه، إجراء الاتصالات اللازمة مع السفارة الأميركية في بيروت والسفارة اللبنانية في واشنطن، للحصول على الأدلّة والمستندات التي دفعت بوزارة الخزانة الأميركية إلى توجيه اتهامات وفرض عقوبات في حق باسيل”.

في الوقائع، أن قانون “ماغنتسكي”، الذي أقرّته الإدارة الأميركية منذ عام 2012، ووقّع عليه الكونغرس الأميركي بجناحيه الجمهوري والديموقراطي، أيام الرئيس أوباما، وتلاه بعد ذلك قانون “قيصر” ايام الرئيس ترامب، يستهدفان، كما بات معلومًا، جميع الجهات والشركات والأشخاص التي لها أي علاقة مع “حزب الله”، الذي تعتبره الإدارة الأميركية حزبًا إرهابيًا، ومع نظام الرئيس السوري بشّار الأسد.

الأمر الملفت للنظر هنا، أنه سبق قرار العقوبات على باسيل، قرارات عدّة من هذا النوع، طالت شركات وشخصيات وأطراف أتهمت بخرق حيثيات القانونين، وكان آخرها فرض عقوبات على الوزيرين السابقين علي حسين خليل أقرب المقرّبين للرئيس نبيه برّي، ويوسف فنيانوس أقرب المقرّبين لرئيس تيّار المردة سليمان فرنجية.

إزاء كل تلك العقوبات السابقة، لم تتعد مواقف الرئيس عون عتبة باب “رفع العتب” أو مجاملة حليفه الأساسي “حزب الله”، حيث اكتفى بالتبرير المعتاد بأن “حزب الله” هو حزب لبناني ينخرط في الحياة السياسية اللبنانية ويمثّل شريحة واسعة من اللبنانيين، دون أن يصدر عنه أي موقف مستنكر أو معترض بتاتًا، ومن غير أن يلحّ على طلب “الأدلّة والمستندات” الدافعة لهذه العقوبات على وزيرين سابقين أقل ما يقال عنهما أنهما مواطنان لبنانيان أيضًا، مثل الوزير جبران باسيل، ومن المفترض أن يتمتعا بنفس الحقوق والنعم نفسها التي أغدقت على الصهر العزيز.

لماذا يا ترى أقدم الرئيس عون على هذه الخطوة؟ وما دلالاتها السياسية والدستورية؟

نكاد نزعم، أن الرئيس عون لم يتصرّف أمام عقوبات علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، إلا من باب الشماتة السياسية، ما دام الوزيران الاثنان يشكّلان خصمين لدودين لصهره باسيل، فالأول لم ينس لباسيل إلصاق صفة “البلطجي” بزعيمه السياسي، الرئيس نبيه برّي، إلى جانب حلقات المسلسل الاعتراضي الطويل الذي سجّله الرئيس برّي تجاه العهد، والثاني لما يمثّله زعيمه رئيس تيّار المردة، سليمان فرنجية، من عداوة سياسية متأصلة تجاه الصهر تتعلق بموضوع رئاسة الجمهورية والتمثيل المسيحي وغيره من الملفات.  

 فكل العقوبات السابقة كانت “في بيوت الجيران” ولم تصل الموسى إلى ذقن العمّ والصهر. أمّا وقد اقتربت النار من المداخل فعليّ وعلى أعدائي يا ربّ.

وفي الدلالات، فإن الرئيس عون، أضاف بهذا الإجراء، بما لايقبل الشكّ هذه المرّة، إثباتًا واضحًا وجليًّأ أنه لم يكن، لا قبل هذه العقوبات ولا بعدها، رئيسًا للجمهورية اللبنانية الديموقراطية، إنما كان وسوف يبقى رئيسًا لجمهورية رئاسية عائلية، تتكوّن من آل عون وأنسبائهم وأنصارهم، وهي، هذه الجمهورية، التي أقسم عليها في سرّه، عند أدائه اليمين الدستورية. فلا لبنان جمهورية برلمانية، ولا الرئيس هو رئيس الدولة ورمز الوطن، ولا المواطنون ينعمون بالعدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات، كما نصّ عليه الدستور. وإلاّ لماذا استنفر الرئيس للدفاع عن باسيل وضرب صفحًا عمّا عداه؟ ولماذا توجّه الأنصار بمظاهراتهم ومواكبهم السيّارة إلى قصر العائلة وليس إلى مركز السفارة الممثّلة لمصدر العقوبات؟

وعلى كل حال، فإن كل ما أدلى به الوزير جبران باسيل بعد العقوبات، سواء من زوايا التظلّم والتنمّر واستجلاب عطف الأنصار والمحبين، أو من زاوية الدفاع عن مواقفه “أدلّة الاتهام”، بما عرض عليه من إغراءات ووعود ومراكز، كل ذلك ارتدّ وبالًا سقيمًا عليه، حيث بدا أولًا وكأنه يتّهم نفسه بما اقترفت يداه، وثانيًا حين أتى الردّ سريعًا من قبل السفارة الأميركية، التي طلب منها عون الأدلّة والمستندات، حيث ردّت السفيرة دوروثي شاي على ادعاءات باسيل، على طريقة مخاطبة “الكِنّة لإسماع الجارة”.
فالسفيرة شاي، وبطريقة غير اعتيادية، نشرت مقطع فيديو لفتت فيه إلى أن حديث باسيل عكس عدم دراية بكيفية سير العقوبات، إضافة إلى “نقص في فهم السياسة الأمريكية وكيفية صنعها”.
ورفعت السفيرة من حدة ردّها بالقول “قد يظن باسيل أن تسريب معلومات انتقائية خارج سياقها حول نقاشنا المتبادل يخدم قضيته. هذه ليست الطريقة التي أعمل بها عادة”.
وأضافت: “هو نفسه، أعرب عن الاستعداد للانفصال عن حزب الله بشروط معيّنة. وفي الواقع، فقد أعرب عن امتنانه لأن الولايات المتحدة جعلته يرى كيف أن العلاقة هي غير مؤاتية للتيار حتى أن مستشارين رئيسيين أبلغوني أنهم شجعوا باسيل على اتخاذ هذا القرار التاريخي”.
ألا يكفي هذا المستند الأولي الذي ربّما جاء سريعًا بانتظار ما سيفتح لاحقًا من ملفات لا تتعلق بموضوع الارتباط بـ”حزب الله” الذي تعتبره أميركا وبعض الدول الأوروبية والعربية حزبًا إرهابيًا، إنما بفضائح أكبر وأكبر، تتعلق بأمور الفساد والرشاوى وسوء استخدام السلطة؟

وإلى متى تبقى جمهورية لبنان رهينة هذه الخروقات الدستورية الممعنة في صناعة الأعداء للوطن المقهور الذي يتكفّل بدفع تبعات سياسات خرقاء من لحم شعبه ودمائهم؟