القوّة والتمكّن

د. علي منير حرب

خاص: مجلة همس الحوار

عدد يناير – كانون الثاني 2025

 

مقدّمة

ثمّة ظاهرة متأصّلة في جذور المخلوقات جميعًا، تتمثّل في امتلاك عناصر القوة والسعي الدؤوب لتنميتها وتفعيلها من أجل تحقيق القدرة على التأثير والتحكّم، وبهدف التمكّن من الأوضاع، والسيطرة على الظروف والأحداث، وبلوغ الأهداف المنشودة.

القوة والتمكّن، عنصران أساسيان يتداخلان في طبيعة التكوين والخلق، على مستوى الكون كما على مستوى التجربة الإنسانية للأفراد والمجتمعات والكيانات. 

كل ما في الوجود خاضع في حركته وتغييراته لعامل القوة، سواء كانت ذاتية أو خارجية، مادية أو معنوية. ولا شيء يحدث أو يُستجد، إلا بفعل هذه القوة، المتحكّمة في كينونة حياة الشعوب، وثباتها واستمرارها وديمومة حضورها بنمط أو بآخر.

ويمكننا ببساطة أن نتلمّس حضور هذين العنصرين في سياقات مختلفة: في العلاقات الشخصية، والاجتماعية والدولية والاقتصادية والسياسية. 

تهدف هذه الدراسة إلى الإضاءة على مفهومَي القوة والتمكّن، وتوضيح تشابكهما وأهميتهما، وتبيان ما يحملان من احتمالات التآزر والتناقض، والبناء والتدمير، إضافة إلى علاقتهما بمفهوم الثقافة، ودورها في كبح جماح مسارهما وتعديله وتصحيحه، من أجل التنمية وخير الإنسانية والبيئة واستقرار الحياة. 

 

أولاً: تعريف القوة والتمكّن

  1. القوة

تعددت تعريفات القوة في اللغويات والآداب والفلسفة والكتب الدينية، سواء في معانيها أو مصادرها أو أسبابها، أو في نتائجها وأهدافها، أو في أنواعها وتشكيلاتها.

تُعرف القوة بأنها حجم ومقدار القدرة الفطرية أو المكتسبة، لتحصيل أسباب التمكّن من أجل إحداث التغيير والتحوّل والارتقاء، وحيازة وسائل وأدوات التحكّم والتميّز والتحقّق والغلبة والمنعة والعزّة.

ومن المعاني المختلفة التي تدور في أفق القوة وتنتج عنها نذكر التالي: ضمان البقاء، وتعزيز المكانة والكرامة، واكتساب النفوذ، والسيطرة على الأمور، والقبض على زمام السلطة، وتسييد القوانين، وبناء الهوية الوطنية والثقافية والمحافظة عليها…

قد تكون القوة ظاهرة أو خفية، إيجابية أو سلبية، حسب استخدامها. وتُمارس بعدة أشكال، مثل القوة الجسدية، أو النفسية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو السياسية.

منذ خَلْقِ البشرية، كان الصراع على التمكّن – عن طريق القوة – حاضرًا كأحد المحرّكات الأساسية للتاريخ الإنساني. ظهر هذا الصراع كوسيلة لتحقيق السيطرة والبقاء، حيث كان الإنسان يسعى دائمًا لاستخدام قوته، للتأثير في بيئته أو للتفوّق على غيره، وتوليد قابليته للتكيّف مع التقلّبات المناخية الحادة، وترويض الوحوش المفترسة، وتطويع الأرض لمنافعه وخيراته.

ومنذ لحظة وقوع آدم في الخطيئة الأولى، برزت لدى هذا الكائن البشري، نزعة التحدّي والطموح إلى امتلاك سرّ القوة الفاعلة.

في القصة القرآنية المرتبطة بخلقِ بشرٍ والاحتفاء به وتكريمه،{إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرًا من طين.} (ص:71)، {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة.} (البقرة:30).

وما أعقب ذلك من استكبار إبليس وعصيانه لأمر الله بالسجود لآدم المخلوق من «طين»، إذ قال:{أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.} (الأعراف:12)، وقوله: {لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون.} (الحجر:33).

ثم ما اقترفه آدم نفسه من مخالفة أمر ربّه وارتكاب الخطيئة الأولى بالأكل من الشجرة المحرّمة، التي أدّت إلى طرده من الجنة وهبوطه إلى الأرض.{وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو.} (البقرة:36).

في مجمل أحداث هذه القصّة تتبدّى، أصول وجذور نوازع الاستعلاء والتحدّي والرفض، أو بمعنى آخر، الترجمة العملانية السلوكية، لمفهوم القوة واستخدامها من أجل تثبيت مكانة الكيان وتعاليه وتفوّقه على من يحيط به، ( مثال إبليس)، أو في سبيل تحقيق النزوع لاستخدام الإرادة من أجل الرفض والرغبة في الاكتشاف والتغيير والتحقّق (مثال آدم).

وتتوالى فصول الحكاية وحلقاتها منذ الألفيات البعيدة والمتعاقبة للوجود الإنساني على هذه الأرض، بكل ما طرأ على هذا الوجود من تطوير وتحديث، لتتشكل ثوابت الصراع المتواصل من دون فتور أو توقّف، بين قوتين: الإنسان ومحيطه الطبيعي والبيئي، وبينه وبين أخيه وجيرانه وشركائه القريبين والبعيدين، مجسّدًا لرموز القوة بأوضح تجلياتها، والتسابق لامتلاك القدرات والإمكانيات، وتنمية المهارات والأدوات المختلفة من أجل امتلاك أسباب التمكّن واحتكارها.

ولو أنعمنا النظر في خلفيات التعريف (الراقي) الذي أطلقه علماء الاجتماع على الإنسان بأنه «كائن اجتماعي»، لوجدنا فيها كُمُونَ كلّ أسرار التنافس والتنازع والسيطرة والهيمنة وإشعال الحروب والتقاتل…وأن المراهنة على تحوّلات الأزمنة، ما هو إلْا اتكال ضمني على تطوير القوة الذاتية، بمختلف الطرق والوسائل، لتوظيفها في أهداف التحقّق والتحكّم. وما مفهوم الصراع، في منشئه الأصلي، إلا أنه بأبسط معانيه، محاولة للتدخّل في برنامج القوة العظمى – المتمثلة في الآلهة والأرباب – ومشاركتها في صنع الحدث وإدارته، وإن ظهرت بدائية مع أسلاف البشرية، ثم تطوّرت وتعاظمت مع تقدّم العلوم والمعارف والاكتشافات والثورات الزراعية والصناعية والتكنولوجية.

في المجتمعات البدائية، اعتمد الإنسان على قوته الجسدية لمواجهة تحديات البيئة، كالحيوانات المفترسة أو الحصول على الموارد الطبيعية. وكانت هذه القوة وسيلة أساسية لضمان البقاء.

ومع تكوين المجتمعات وظهور الدول والإمبراطوريات، برزت الحاجة إلى السيطرة على الموارد والمجموعات البشرية الأخرى، وسعت النخب إلى الاحتفاظ بالقوة والتمكّن لتثبيت الهيمنة، سواء بالحرب، أو الاقتصاد، أو السياسة. واستخدمت الأنظمة الحاكمة القوة العسكرية والدينية لترسيخ سلطتها وتمكين نفسها. ولم تقتصر القوة على الجانب المادي، بل تمّ استخدام الفكر والثقافة أيضًا كأدوات للتمكّن والسيطرة، وهيمنة سياسات فرض اللغات أو الثقافات أو الأيديولوجيات.

ونظرًا لأن فرض القيادة يعتمد على أساس المعرفة، فإنه يمكن اعتبار المعرفة من أعلى وأهم سُبُل اكتساب القوة، ويتجلّى هذا العامل واضحًا بقيام السلطات المهيمنة على قتل وإلغاء الكثير من الفلاسفة والمفكرين والعلماء والمبدعين والفنانين، خوفًا مما تمثّله معرفتهم من تهديد لسلطتهم، حيث شكّلت قوة التفكير والعقل لديهم، وقوة الكلمة والتعبير، تهديدًا أقوى من قوة الأسلحة وأدوات الحروب. ويبدو مثال إعدام الفيلسوف سقراط، والحرب التي شُنّت على الفيلسوف العربي ابن رشد، واتهامه بالكفر وإحراق كتبه، أوضح الشواهد على ذلك. وبهذا لا يمكن فصل المعرفة عن السلطة، وهو ما عبّر عنه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (1926 – 1984)، في  كتابه «نيتشه، الجينيالوجيا والتاريخ» مبينًا أن «المعرفة لم تخلق لأجل الفهم، وانما لأجل التكسير والحسم»، كما أوضحه أيضًا زميل فوكو، عالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو (1930 – 2002)، بتحليله أنّ فكر فوكو هو «استكشاف طويل للانتهاك، وتجاوز الحدود الاجتماعية المرتبط دومًا بالمعرفة والقوة.»  

وقد تناول العديد من الفلاسفة – قديمًا وحديثًا – موضوع القوة، فاعتبر سقراط أنّ «القوة الحقيقية تتمثل في قدرة الفرد على التحكّم بجسدهِ وروحه، وفرض النظام عليهما، إلى جانب تبنّي العدالة والإنصاف فيما يصدر عنه من تصرفات.»

والقوة من وجهة نظر الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1677 – 1632)، هي «قدرة الإنسان على البقاء، وهذا البقاء يتمثّل في إدراك الإنسان لحقيقته، وتمكّنه من فهم الأمور.» 

أما الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1704 – 1632)، فإنّه يرى أنّ «القوة هي شيءٌ يجب أن يمتلكه الناس لتغيير الحكومات في حال لم يتوافقوا معها.» 

وذهب الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز بتعريف القوة على أنها «قدرة الشخص على تأمين المصالح، والمنافع، ومصادر الرفاهية، التي تساعده في تحقيق بعض الخير لنفسه في المستقبل.»

وتحمل القوة في صلب تشكيلها وجهين متناقضين تمامًا، فهي  في وجهها المعرفي التنموي المشرق، عامل للبناء والتنمية والإصلاح وتثبيت الاستقرار وبسط القوانين وقيام الحضارات. وفي وجهها الآخر هي المسبّبة للاضطراب والظلم والفساد والخراب والموت.

وبقدر ما تكون هذه القوة متوازنة ومحكمة، تصبح فاعلة ومؤثرة وإيجابية، وعلى عكس ذلك، كلما أصبحت مفرطة وجامحة، تحوّلت إلى فوضى واستبداد وتدمير.

 -2    التمكّن

كما تعدّدت معاني القوة وتعريفاتها، فكذلك تنوّعت معاني التمكّن الناتج عن القوة.

يُفهم التمكّن عادة بأنه نتيجة إيجابية لاستخدام القوة بشكل بنّاء.

التمكّن بتعريفاته اللغوية والاصطلاحية هو توظيف القوة المملوكة وتسخيرها لغرض تحقيق غايات الفرد أو المجتمع، أو السلطة، أو الدول، في التحكّم والمنعة والسيادة، لتأكيد الحضور والثبات والاستمرار، بصورة أفضل وأرقى. 

ويشير التمكّن إلى حالة الوصول إلى الموارد والمعرفة والمهارات اللازمة، لتحقيق السيطرة على الحياة الشخصية أو الجماعية. 

في الجانب اللغوي، التمكّن كلمة مشتقة من الفعل تمكّن…يتمكّن…تمكّنًا، فهو متمكِّن. يقال: تمكّن الشخص بالمكان أي استقرّ فيه ورسخ، وتمكّنت من الأمر أي ظفرت به، وقبضت عليه، وتحكّمت به، وصار عندي طائعًا، وتمكّن المرء عند الناس أي برز بينهم وملك طاعتهم وعلا شأنه عندهم.

نستدلّ مما سبق أن التمكّن في اللغة يدل على معاني القدرة والاستقرار، والعلو، وعلى ذلك يكون المراد به لغة: «إعطاء ما يصحّ به الفعل من الآلات والأدوات، وإزالة ما يمنع هذا الفعل…والصحيح أن مكّنت له جعلت له ما يتمكّن به. ومكّنته أقدرته على ملك الشيء في المكان. والفرق بين التمكين والاقتدار أن التمكين إعطاء ما يصحّ به الفعل، كائنا ما كان من الآلات والعدد والقوى، والإقدار إعطاء القدرة. والقدرة ضد العجز، والتمكّن ضد التعذّر.»

وفي الاستعمال القرآني فإن التمكّن يعني العون وتيسير السبل والأسباب للتحقّق والتكريم، كما يعني النصر والعزّة والظهور والاستخلاف، بهدف عمارة الأرض والبناء والإصلاح.

﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا.﴾ الكهف (84).

﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.﴾ يوسف (21). 

﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ.﴾ ص (26).

﴿ُوَالَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا.﴾ الفتح (28).

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.﴾ النور (55).

من هذا كله نخلص إلى أن التمكّن يعني اكتساب الأفراد والمجموعات الأسباب وإتقان استخدامها للتأثير في قراراتهم. وقد شاعت في العقود الأخيرة استعمالات مصطلح التمكين في مختلف الشؤون الاجتماعية بعامة، وفي التشريعات والسياسات، ولدى المنظمات والجمعيات، مما شكّل أسلوبًا تطبيقيًا في مجالات التنشئة وتعزيز المشاركة المدنية، على النحو الذي نلمسه في توجّهات تمكين المرأة والمهمّشين والفقراء….

وتظهر أهمية التمكّن في الجوانب التالية، على سبيل المثال وليس الحصر: يسهم التمكّن في دعم الصحة النفسية، وبناء الثقة وتنمية القدرات، والشعور بالسيطرة على الحياة، والقدرة على اتخاذ قرارات مستنيرة، مما يعزّز العدالة والمساواة  والتنمية البشرية، فتزدهر المجتمعات وتقل النزاعات. 

 

ثانيًا: بين (الثقافة) و (القوة والتمكّن)

جميع هذه المعاني والدلالات، اللغوية والاصطلاحية، التي أوردناها في تعريفات القوة والتمكّن، نجدها أصيلة متداخلة في صلب مفاهيم الثقافة، لغة ومجازًا، تكوينًا ووظيفة.

فإذا كانت القوة تتلخّص بامتلاك القدرات والمهارات والمعارف والأدوات والوسائل والأسباب، لأجل تحقيق التمكّن من الحصول على الموارد ومصادر الغلبة والنفوذ والقيادة والسلطة، وإحداث التغيير والتنمية…

فإن الثقافة، في منبع ولادتها وفي التطوّرات التي طرأت على مفاهيمها، تجسّد وتتضمّن جميع هذه المعاني والأبعاد. 

وكلما بحثنا في شأن من شؤون التنمية الذاتية أو المجتمعية، الشاملة والمستدامة – التي هي على رأس غايات القوة والتمكّن – لا بدّ أن نجد العامل الثقافي حاضرًا وفاعلًا في كل مجالات هذه التنمية.

في اللغة العربية، إن كلمة «الثقافة» التي هي أصيلة في جذورها العربية، وليست مجلوبة ولا مترجمة عن أية لغة أخرى – كما ينظّر البعض – هي اشتقاق من جذر معروف وشائع في التداول اللغوي، ما قبل الإسلام وبعده، كما أنه مثبت في المعاجم القديمة، ومتكرّر في استخدامات وأشعار العرب، وفي آيات القرآن الكريم. وأصل هذا الجذر من فعل ثقف، ومصدره المثاقفة والتثقيف. وهي تعني الحذق والمهارة  والفطنة والتقويم وتسوية الاعوجاج، كما تعني الدربة والتهذيب ومصادفة الأمر والظفر به.» 

وبحسب تعريف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، فإن «الثقافة تشتمل على جميع السمات المميزة للأمة من مادية وروحية وفكرية وفنية ووجدانية…كما وتشمل تطلعات الإنسان للمثل العليا ومحاولاته إعادة النظر في منجزاته، والبحث الدائم عن مدلولات جديدة لحياته وقيمه ومستقبله، وإبداع كل ما يتفوّق به على ذاته.» 

وكلمة الثقافة بمفهومها الغربي، وُلدت متحدّرة من التداول اللاتيني القديم «cultura»، والذي كان يعني رعاية الحقول المهيّأة للزرع والإنبات، والماشية الحاضرة الموفّرة للغذاء. وفي الشأنين معًا، العناية بالأرض والماشية، تتجلّى الإرادة الإنسانية في الاهتمام باستصلاح منابت الرزق ومصادره، والرعاية (القيادة) – التي منها راعي القطيع أو الجماعة الإنسانية أو الشأن العام – لغاية الاستثمار بما يؤمّن عائدًا أفضل لمعيشة الإنسان وتلبية حاجاته وضرورات حياته.

ومع بدايات القرن الثامن عشر، واتساع حركة التنوير والدعوة لسيادة العقل والعلم، هيمن لفظ «الثقافة» بمدلولاته المتطوّرة ومفاهيمه الحديثة، وعكس مؤثراته على الشأنين الفكري والاجتماعي، ودخل معجم الأكاديمية الفرنسية ليفرض وجوده عنصرًا أساسيًا في التنمية والقيادة.

ويعتبر المؤرخون الغربيون، المتابعون لتحوّلات الثقافة، أن العالِم الأنثروبولوجي الإنجليزي إدوارد تايلور 

(1914 – 1832)، هو من أعطى أول وأشهر تعريف وصفي وموضوعي للثقافة، حيث قدّمه بمعناه الاصطلاحي، في كتابه «الثقافة البدائية» (Primitive Culture)، في أواخر القرن التاسع عشر (1871)، وأصبح مرجعية لمعظم المشتغلين والباحثين في هذا الشأن، نظرًا لقيمته التاريخية، ولما يتّصف به من شمولية واتساع، ويقول فيه: «إن الثقافة هي ذلك المركّب الكلّي الذي يتضمّن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات، وأيّ قدرات وخصال يكتسبها الإنسان نتيجة وجوده عضوًا في مجتمع.»

وعندما بدأت أوروبا بطي صفحة القرون الوسطى، وتحديدًا في إيطاليا، أشعل آل ميدتشي مصباح العقل، وفتحوا الأبواب لكبار الفنانين وقاموا برعاية الفلاسفة والفنانين والكتّاب والمترجمين، لتحفيز قواهم الفكرية والفلسفية والأدبية للتمكّن من مواجهة قوة سلطة رجال الدين وكسر هيمنتهم على البلاد والعباد.

وكذلك فعل هارون الرشيد عندما أراد أن يطلق العصر الذهبي للنهضة الإسلامية، فأنشأ دار الحكمة، وحشد لها أهل الفكر والفلسفة والأدب، لإعلاء شأن دولته والتمكّن من إحكام سلطاتها ونشر ثقافاتها على أكبر مساحة جغرافية.

والثورة الفرنسية (1789)، التي غيّرت وجه أوروبا، قامت أيضًا على فكر الأنوار وعلى أصوات مونتسكيو وجان جاك روسو وآخرين. 

وفي معرض الحضّ على ضمّ بعض المهارات والاختصاصات إلى ميدان الثقافة، من أجل تعزيز قوى العاملين والمهتمين، وتمكينهم من تجويد إنتاجهم، بدأ يروج في السنوات القليلة الماضية، مصطلحان بارزان هما: «مهنة ثقافية» و«ثقافة المهنة». وما يلفت في هذين المصطلحين، أنهما، جاءا ليؤكدا، أن الانتساب إلى الثقافة والتلقّب بها، هما مطمح المتطلّعين إلى ارتقاء الكمال والتميّز. كما أنه من الواضح أن مصطلح «الثقافة المهنية» هو أيضًا حاجة ملزمة وعضوية للارتقاء بأصحاب المهن المختلفة وتحديث خبراتهم وتطوير وسائلهم والارتفاع بإمكاناتهم العملية والمعرفية.

 

ثالثًا: التمكّن بقوة الثقافة

ثمّة مفهومان اثنان يحكمان توجهاتنا في مسألة الثقافة:

– في المفهوم الأول، تطبيق معادلة متلازمة بين ثلاث غايات تُبنى على فعل الثقافة ومفعولها، وتترجم بالمخرجات التالية: 

١-التنوير والوعي

٢- تعزيز القوة

٣-التمكّن من توظيف هذه القوة لتحقيق التنمية والنهضة، وتأكيد الحضور الهوياتي الثقافي بين سائر الشعوب الأخرى.

– وفي المفهوم الثاني، أن الثقافة المنتجة للنماء والقائمة على امتلاك القوة، الفكرية أو الجسدية، من أجل التمكّن من الإصلاح والإعمار، هي براء مما يتمّ تسويقه من مفردات ومصطلحات هجينة غريبة، تلصق في روحها ونقائها. فلا صلة البتة بين الثقافة، بمعانيها القيمية الأخلاقية الرفيعة، وما يطلقونه من شعارات عن (ثقافات الفساد والكراهية والقتل والإقصاء…) لتفريغ الثقافة من مضامينها، على غرار ما يسود من عمليات القتل والتدمير والتوسّع باسم القوة والتمكّن…

ومن هذين المفهومين، تتجلّى العلاقة الوثيقة بين الثقافة، كمصدر أصيل لتحصيل القوة والتمكّن، وبين المجتمع، المحلي أو العالمي، المتطلّع إلى مستقبل تعمّ فيه التنمية والحقوق والعدالة.

فإذا كانت الثقافة مشتقة من الفعل ثقف لتقويم الرماح وتمكينها من الهدف، فإن القوة إذا لم تُقوّم وتُهذّب بالثقافة، فلا أمل في بلوغها التمكين المتوخّى لتحقيق آمالها المنشودة. 

لا قوة فاعلة ومؤثرة من غير معرفة أو ثقافة، ولا قيادة ناجحة من غير قوة معرفية نزيهة.

القوة بمفردها، لا يمكنها أن تحقق التمكين، إذا لم يؤازرْها ترشيد وترويض وتقويم وتدريب وتنظيم وإدارة، وإلّا فإنها أمام منزلقين خطيرين، إما أن تصاب بالتشتّت والضعف والفشل، وإما أن تتحوّل إلى قوة جامحة وحشية ضارية تملأ الدنيا بطشًا وغطرسة وقتلًا ودمارًا.

جاء في مقدّمة كتاب نظرية الثقافة: «تقوم العلوم الاجتماعية على حقيقتين أساسيتين إحداهما أن الإنسان كائن اجتماعي، أما الأخرى فتتصل بالسلوك الإنساني الذي يصدر في أشكال أو أنماط منتظمة، وفي صورة على قدر كبير من الاطراد والتواتر.»

فإذا كان التمكّن هو الغاية القصوى والأعلى لأية قوة، فإنه لا جدوى من هذه القوة في الوصول إلى غاية التمكين التنموي والعمراني، مهما بلغ حجمها ونوعها وشكلها، إذا لم تكن نزيهة ورشيدة وعادلة. ومثالنا ما يجري حول العالم من تفاقم الأزمات والصراعات والحروب المستندة إلى القوة الغاشمة بهدف التسيّد والسيطرة والهيمنة.

وما الدعوات التي تتواتر حول صراع الحضارات والثقافات، والتطوّر المذهل في تقنيات صناعة الأسلحة المدمّرة والانجراف المزلزل نحو التفلّت من ثوابت الأخلاق، إلّا دليل واضح على جموح أصحاب القوى، ليس من أجل التمكين المسالم إنما من أجل التفرّد في التحكّم بمصائر الشعوب والدول، وفي تثبيت نظرية قانون القوّة مقابل إلغاء قوة القانون.

إن ما يشهده العالم من الصراعات، وما يرزح تحته من مآس واختلالات في موازين السلام ومعايير العيش الكريم، ومواجهات إيديولوجية دينية وسياسية واقتصادية، تهدّد مستقبل البشرية ومصيرها، ما كان ليحدث لولا نزع القيم الثقافية من محتوى القوة والتمكّن، وإلغاء العامل الثقافي من الطموحات الآيلة للقيادة، وتعطيل آليات صناعة النخب، مما أتاح هيمنة أطماع المصالح والاستهلاك مقابل ضمور اشعاعات الثقافات الإنسانية ومبادئ الحقوق وترسيخ أسس الأمن والسلام.

فأي قوة أيديولوجية تلك التي تتلبّس معطف الثقافة لتشريع وتبرير قطع رؤوس العلماء والفلاسفة بذرائع الهرطقة والكفر؟

وأي «عقيدة اكتشافية» بنّاءة وتنموية تلك، التي تقود المجرمين وشذّاذ الآفاق من سجونهم، للتمكّن من إبادة ملايين البشر والقضاء على تاريخهم ولغتهم وحضاراتهم بحجّة الاكتشاف الثقافي؟

وأي قوّة قاهرة غاشمة تلك التي تزعم تحضير العالم، وهي تصف الشعوب المستعمَرة بأقذع وأشنع العبارات وأفظعها عنصرية واحتقارًا وإهانة؟ «انظر إلى اللغة التي يتكلمها المستعمِر حين يتكلم عن المستعمَر، تجد أنها اللغة المستعملة في وصف الحيوانات: إنهم يستعملون هذه التعابير: زحف العرق الأصفر، أرواث المدينة الأصلية، قطعان الأهالي، تفريخ السكان، تنمّل الجماهير، الخ…إن المستعمِر حين يريد أن يحسن الوصف وأن يجد الكلمة المناسبة، يرجع دائمًا إلى الألفاظ المستعملة في وصف الحيوان…وهذا بعض ما يجري على لسان المستعمِر من مصطلحات: هؤلاء السكان الذين يدبّون على الأرض، هذه الجماهير المستهترة، هذه الوجوه التي فرّ منها كل معنى إنساني، هذه الأجسام المترهّلة التي لا تشبه شيئًا من الأشياء، هذا القطيع الذي لا رأس له ولا ذنب، هؤلاء الأطفال الذين لا يبدو أن لهم أهلًا، هذا الكسل المستلقي تحت الشمس، هذه الحياة التي تشبه حياة النباتات الخ…» 

وأي تسويق لمفهوم القوة المهيمنة، التي يطلقها المحلّلون بتنظيراتهم المتنبئة بحتمية «صراع الحضارات والثقافات ونهاية التاريخ»؟ تأسيسًا على حسم الصراع السياسي والاقتصادي الذي كان، وما يزال مستمرًا بين ما يعرف بالكتلتين الشرقية والغربية، الناشطتين لتوسيع عولمتهما للإحاطة بالعالم.

وأمام هذه التحوّلات الجذرية التي تزحف على العالم، والتحدّيات الكبرى التي تواجهها البشرية بسبب استفحال الهجمة التكنولوجية المروّعة في صناعة آلات القتل والدمار، وطمس كل ما عرفته من مبادئ ومثل، تتكرّر فصول قصة الشعوب والدول، الرازحة تحت منطق «الحملان الوديعة والذئاب الضارية»، كما عرضها الأديب الفرنسي جان دو لافونتين (1695 – 1621)، في قصصه الخرافية، وحكمته التاريخية القائلة: «حجّة الأقوى هي الفضلى.»

كما لا يسعنا إلّا العودة إلى شواهد التاريخ التي لا تخطئ، والمؤكدة أن أعرق حضارات التاريخ ازدهارًا سرعان ما انهارت وبادت بعد أن غرقت في الطغيان والاستبداد.  

﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ.﴾ الأنعام: (6).