حين يجري الشعر نهرًا من الهمس
قراءة قي ديوان “و…هَمَسَتْ” للأديبة الفنانة مي العيسى
د. علي منير حرب
2024/09/30
“و…هَمَسَتْ” “مي”، فأطلقتُ النفيرَ لأجهزتي استعدادًا لاستقبال ذبذبات هذا الهمس العابر لنهارات الوجود ولياليه، وفضاءات الزمان والمكان، مذ بدء التكوين.
أدركتُ للحظات أن صهوة “الهمس” كانت مطيّة “مي” ورفيقتها كلما عزمت على الترحال في دنيا خارجة على حدود الطبيعة المألوفة لديها، لتعبر مطمئنة إلى مدارات غريبة تزرع فيها علمًا، وتقطف منها هوية جديدة.
بين “همس الحوار”، الذي شدّني يومًا إلى عالمها وأدخلني أحياءها ودروبها الضيّقة وأسواقها الثقافية العتيقة والحديثة، و”هَمَسَتْ” في ديوانها الطارق على أبواب القلب، وشائج من عمرٍ ذابت فيه أعصاب الأديبة والفنانة والمترجمة والباحثة، في مشغل متنوّع الإنتاج يتزاحم فيه قماش التاريخ والجغرافيا، وساكنو المجرّات من الشموس والأقمار والنجوم والكواكب، مع مساكب العطر والدموع، ومقطّرات اللغة والصور والألحان، وتتعانق جميعًا لتنصهر في قارورة صغيرة بحجم همسة خاطفة، تتغلغل خفيفة لتحرّك كل أوتار الفرح والوجع، والعزم والصبر والأمل.
…وتناهتْ همساتُها إليّ، وطّنتُ نفسي ألّا أقرأ هذه المرة، خلعتُ كل حواسي، وشرّعتُ الصدر ليحتضن الوشوشات التي راحت تحطّ على حوافي الضلوع، وتتماوج مع النبضات صعودًا وهبوطًا، اضطرابًا وسكونًا، غناء ونحيبًا.
أصغيتُ وتأمّلتُ،، فإذا الهمس هديل حكايات، تُرندحُها شهرزاد، المتناسخة منذ الفجر الأول، طربًا وشجنًا، على مسامع شهريار السائس لمركبة جلجامش وأنكيدو، قبل أن تدعوه إلى الاستغراق في النوم على وسادات من شوك وزُعاف.
إنها حكاية الحياة المتكرّرة والمعجونة دومًا بالطين والعنبر، هي حكاياتنا نحن، أنا وأنتِ، هو وهي، آدم وحواء، قطبان ولدا للدفء والتنوير والهداية، فإذا بالطينة تنفجر بما فيها وعليها، ليعيد صانعا الحكاية جمع أشلائها وربط خيوطها مرة بعد مرة.
كان ما كان…في البدء كان “شمس وقمر”، هما أصل “الهمس” عندما نبض الخافق بين الضلوع، وتشكّل مشحونًا بالرمزية وإسقاطات الدهور وسقطات الأحداث، فأطلق حفيف أنفاسه في حوارية درامية ترتفع إلى كويكبات يسكنها “بريق الحلم” و”سلوى العاشقين” و”عطر الأرجوان” وأرواح الأنقياء الأصفياء، ثم لا تلبث أن تهوى متساقطة فوق “الحطام والحطب” تستنشق “فوح الدم” بعد أن أوغل الساديون والنرجسيون من “ذئاب الأرض المسعورة”، في “سلخ أنسها وجمالها، فداسوا مضجعها واغتالوا سلامها”، وتركوها أشلاء ممزقة متناثرة على خارطة الهباء.
ومن بين هذا الحريق والرماد، يتحشرج الهمس ليعلن إصراره على استكمال حياكة الحكاية، حكاية الأمل والحنان والأحلام. “فلنرقُص حول كوكبنا غُنوةَ الأمان، نغدُق عليهِ بدفء الحنان.” لتعود الحكاية إلى مسرحها الأول من جديد، وتجرّنا معها إلى قصة إنساننا الأول، ذي الأنياب القاطعة، ساكن الكهوف، ومتلحّف جلود الوحوش، وصانع آلهة الوهم، لتنتهي إحدى حلقاتها المتسلسلة كما بدأتها “وردتان وعصفوران ونبتتا عشق وقطرتا ندى” تعتلي المسرح لتجدّد عرض “الأسطورة الإغريقية” وأنين التراب المهال فوق البريئة العذراء العربية “الموءودة”.
وما بين فتح الستارة وإغلاقها، تندلق كل الشخوص من القمقم لتجترّ ما عبّأته في ذاكرتها من مؤونات الضيم واللعنات، ممزوجة بالزغاريد ومواويل الطموح، ريثما تتكسّر من جديد وتهرول مهزومة إلى قمقمها الصغير. ويأتيك الهمس ضاجًا من أنين “الوردتين في الفؤاد”، و”الرقصات” المتقنة على خطوات “المراوغة” وقفزات “تلاعب اللسان” الذي “يتماوج مع أنين مزمارٍ يحاورُ الحزن يتهزهز مع قرقعة طبلٍ ويتضاحك له …” فيما “العود الرنّان يداعب أوتاره ساخرًا من لمساته” و “من رياءٍ يحاصره حتى اختناق الروح؟”، وخناجر ال”لا” المغروزة في اللحم، التي “نجري معها ولا نجري.. ولا تقيمنا ولا تقعدنا”، و”دمعة” “سكنت في أذيال الليل تبرُق. تبتسم. تحترق. تتجمَّد”، حيث ينتظرك “الصبر” الذي انقلب “صبّارًا” ليغرز شويكاته “في روحك ومسامك”.
تعود من سفر الإصغاء تائهًا متعبًا ما بين الحرقة واللوعة، ما بين الغصّة واللهفة، باحثًا عن حبل خلاص تتشبث به، ولا تدري إن كان صديقًا أو عدوًا.
حين يصمت “الهمس”، يغيب المستمع عن الحضور، ويتغلغل في الدهاليز البعيدة، مكتفيًا بما التقطه من نثار نبضات شقت حواجز الخروج لتعلن أفصح ما يكون عليه البوح حين يصبح همسًا، وأوضح ما تكون الجملة حين تخرج ساخنة من احتراق الحقيقة والأماني، وأبلغ ما يكون الكلام حين يقرّر الصمت.
مع همس “مي”، تدرك أن كل جمالات الإبداع يمكن أن تحتويه وجبة أدبية تضمّ أشهى مقبّلات اللون والحرف والصورة والموسيقى وأنفاس الصائغ الماهر.
تتعلّم أن الشعر لا ينظم القصيدة فحسب، إنما تولد القصيدة منظومة من نفس شاعرة أحرقتها نار التجارب، فتضمخّت بنكهة الإحساس، وتعتقّت بخوابي الفكر، وارتدت أبهى حلل الثقافة والقيم والمثل، علّ الهمس يفلح فيما أخفق فيه هدير القوافي ووقع ضربات الخيول وقعقعات السلاح الزاعقة كالبوم في آذان التاريخ.
تتعلّم أن ما هو قاتل ومميت، هو ذلك النزيف الأخرس بلا ضجيج، يُفرغك من نسغ حياتك.
وأن ما هو باعث للحياة هو ذلك النهر الجاري سلسالًا هامسًا بلا صخب، وهو ذلك الجنين الهامس في رحم أمه مبشّرًا بالحياة، وحين يصرخ منعتقًا يبدأ رحلة زواله.