غزة تُشعل الأمل وتُخمد الحرائق
قصيدة الافتتاح لراعية اللقاء، مؤسسة ورئيسة صالون هتاف الشعر الثقافي، شاعرة الأرز السيدة هتاف السوقي صادق.
هتاف السوقي صادق
مونتريال – كندا في 2024/04/20
“إخلع نعالك واسجد سجدة الحرمِ”
بسم الله الرحمن الرحيم
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ ﴿9﴾ إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ﴿10﴾ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ ﴿11﴾ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ﴿12﴾ سورة طه.
إخلع نعالك واسجد سجدة الحرم
واحشد عديد الدُّعا في قلب مبتسم
وعدُ الإله تجلى وانتضى حممًا
تبركنُ الأرض .. جندُ الله لم تنمِ
لأنت في حرمة الأبطال .. لا دنسٌ
أرضٌ يهل صباها والمهر نهر دم
إخلع نعالك واسجد سجدة الحرم
في غزة اليوم وعدُ الله في القسم
****
يا غزة الحسن .. يا حسناء أمتنا
يا درّة البحر يا زيتونة الشمم
أعمامُكِ العُميُ خانتهم رجولتهم
أضحوا سبايا بني صهيون في الظُلَم
نسغ التهود نسغ العار نسغهمُ
ماتت مروءتُهم في سالفِ العَمم
****
تشرينُ أيقظنا من وهمنا وغدا
شهرًا يسنُّ سيوف البرق في الهمم
أمطارهُ حممٌ والرعد قصف عِدا
والعاتياتُ أعاصيرٌ من النِّقم
يا زارع الثأر ذاك الثأر شبَّ لظًى
في الأرض في النبت في الأطفال في الهَرِمِ
فالنطفة انتهضت تغذو على ألمٍ
والصرخةُ البكر تُصدي غضبة الرّحِم
****
لا تعجبنَّ شعوب الأرض من بطلٍ
في قلبِ غزة نبض العزِّ والقيم
كتابهُ مصحفُ الإعجاز زان به
روح الشهادة يا أكواننا انتظمي
هذي الدماء لوجه الله يدفعها
فدى المسيح فدى الإسراء والحُرُم
يا طفل غزة يا عنوان أعيننا
أنَّى التفتنا نرَ الرايات في القمم
أنتم نصرتم إله الكون .. لم تهنوا
فللشهيدُ حياةٌ يا دما احتدمي
************
كلمة الباحث المؤرخ الأديب أسامة كامل أبو شقرا
أسامة كامل أبو شقرا
مونتريال /كندا 2024/04/20
وأعزَّ اللهُ غزّة وفلسطين
أخواتي وإخواني، أسعدتم مساءً،
منذ بلوغي الخامسة من العمر، كنت كلما نظرت تُجاه الجنوب، من نوافذ منزلنا في جديدة مرجعيون، أرى المُطلّة، تلك القرية الفلسطينية على الحدود التي اصطنعها مع لبنان، إجرام اتفاقية سايكس – بيكو.
ولما بلغتُ الثامنة اصطحبني المرحوم والدي، في إحدى زياراته إلى الحُولة والخالِصة مرورًا بالمُطلّة.
وفي العام 1948، شاهدت قوافل، تمر أمام منزلنا ذاك، من المشاة والسيارات والدواب تحمل النساء والأطفال والعجزة، من الذين طردهم باتجاه لبنان، بطشُ وحقدُ وإجرامُ شذّاذِ آفاقٍ استوردَهم المستعمر البريطاني، ومنحهم حق إقامة دولةٍ على أرضِ فلسطين، التي لا حقَّ له في ذرّة واحدة من ترابها، فأعلنوها في الخامس عشر من شهر نوّار، من ذلك العام، بالتواطؤ مع دول الغرب، شركاءِ بريطانيا في الجريمة، والتي تسابقت إلى الاعتراف بها.
ولم تزل تلوح أمام ناظريَّ تلك الصورة، على صفحة إحدى الجرائد اللبنانية، في ذلك العام، يظهر فيها جنديٌّ صهيونيٌّ، في قرية دير ياسين الفلسطينية، يوجه حربة بندقيته نحو بطن امرأة حامل، يريد بَقْرَهُ، لقتلها مع جنينها.
ومنذ ذلك الحدث المشؤوم، وعلى مدى ما قارب الستة والسبعين عامًا، وعلى الرغم من أنّ كثيرين ممن صمدوا ولم يغادروا فلسطين، أصبحوا لاجئين في بلادهم، فلم يكفّْ أولئك المغتصبون عن الاعتداء عليهم قتلًا وتعذيبًا وإذلالًا وسجنًا، وبتهديمِ منازلهم وإحراقِ بساتينهم، بغية إرغامهم على هجرِ بلادهم. ولم يكفِهم ذلك كلُّه، بل عمدوا إلى منع المسلمين من الصلاة في المسجد الأقصى، والمسيحيين من الصلاة في كنيسة المهد، حتى في أيام الميلاد.
ولكنّ التعلّق بالأرض التي ورثها الفلسطينيون عن آبائهم وأجدادهم منذ آلاف السنين، غرَس في نفوسهِمِ الصمود مهما كان الثمن. فلم ينثنوا عن الجهاد في سبيل استرداد حقوقهم وحريتهم، فشكلوا المنظمات والمجموعات المسلحة، وأشعلوا الثورات ونظّموا انتفاضات أطفال الحجارة، التي واجهها الصهاينة بالقنابل والرصاص، فأسقطوا منهم آلاف الشهداء، بمن فيهم الأطفال. ولم يزل، ماثلا أمام أعيننا، مشهد اغتيال الطفل محمد الدُّرّة وأبيه الذي كان يصطحبه من المدرسة، أمام كاميرات الصحفيين.
هذا الصمود أذهل الصهاينة، فعمدوا إلى ارتكاب المجازر، وكلِّ ما يؤدي إلى الإبادة الجماعية بغية إفراغ الأرض من أهلها. فبدأوا باجتياحاتٍ متكررة لغزّة، لأنها كانت الشوكةً الأولى في أعينهم التي تمنعهم من سرقة ثروات شواطئها من البترول والغاز، وطمعًا بموقعها الاستراتيجي، لتنفيذ مشروعهم بحفر قناة بن غوريون، بين البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، علّها تحلّ محل قناة السويس المصرية.
أمام هذا الواقع، أيقنت غزّةُ أنّ عليها الاختيارَ بين أمرين، فإمّا الحريةُ وعودة الحقوق لأصحابها، أو الموتُ بكرامة، تشبُّهًا بقول عنترة:
لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ
ماءُ الحَياةِ بِذِلَّةٍ كَجَهَنَّمٍ وَجَهَنَّمٌ بِالعِزِّ أَطيَبُ مَنزِلِ
ولهذا، حفروا الأنفاق المعجزة، وأعدَّوا لعدوّهم ما استطاعوا صنعه بأيديهم وبأساليب بدائية، فصنعوا صواريخَ «القسّام» من عبوات الغاز (البوتاغاز) المستطيلة، المستخدمة في الأفران والمطاعم وغيرها، وحشوها بالبارود المطهوِّ بطريقة بدائية، تقولها طبخةَ شوكولاتة في طنجرة قديمة. هذه الصواريخ التي كان مداها في البدء، ألفي مترٍ، ثم طُوِّرت ليصبح مداها مائةً وخمسين كيلومترًا، لتطال تل أبيب (تلّ الربيع الفلسطينية)، أرعبت الصهاينة فبنَوا القُبّة الحديدية لعلها تحميهم من خطرها. كما سبقوا، دولًا عديدةً في إنتاج الطائرات المسيّرة.
وفي السابع من شهر تشرين الأول / أكتوبر 2023، خرج المارد الغزّاويُّ من تحت الأرض ليثبت لبني صهيون وللعالم أجمع، أنّ فلسطين للفلسطينيين، سيسترجعونها مهما طال الزمن.
فكانت ردة فعل الصهاينة همجيةَ العنفِ والوحشيّةِ والحقدِ المشبعةُ به نفوسُهم، ما قد يفوق كثيرًا مما سجلته كتب التاريخ، فوجهوا كلّ ما يملكون من أسلحة الفتك والدمار نحو جميع معالم الحياة على كل شبرٍ من أرضِ غزة، ولم يستثنَوا مستشفًى أو كنيسةً أو مسجدًا أو مدرسةً أو حتى دارَ حضانة، إلّا دمروها. وقتلوا عمدًا آلاف الأطفال والنساء؛ بالإضافة إلى العديد من الأطباء والمسعفين والممرضين.
وما يحزُّ في النفس، وقوفُ معظم دول الغرب إلى جانب الظالم المغتصب بحجة حقِّه في الدفاع عن النفس، وكأنّ الفلسطينيَّ ليس إنسانًا كي تحقَّ له المطالبة بحريته وكرامته وإنسانيته، وبحقوقه المغتصبة منذ ما يقارب القرن من الزمن. والمضحك أنهم اتهموا الغزاويين أيضًا بانتهاك القوانين الدولية.
أمّا حكّام الدول العربية والإسلامية، فكأنّ ما يتعرّض له أبناء غزّة يجري في كوكب المرّيخ، وكأنهم كائناتٌ غريبةٌ لا تربطهم بهم لغةٌ أو قوميّةُ أو دين، أو حتى إنسانيةٌ.
ولم نرَ الإنسانية إلّا من دولتي جنوب إفريقيا ونيكاراغوا بوقفتهما المشرّفة بجانب الفلسطينيين وحقوقهم.
فيا إخواني أبناء غزّة، يكفيكم فخرًا واعتزازًا أنّكم مرّغتم أنوف الصهاينة بأديم أرضكم المقدسة، ووقفتم شامخي الرؤوس، على مدى ما يزيد عن الأشهر الستة، أمام ما كان يصنّفُ بين أقوى جيوش العالم، في أطول حربٍ خاضها، وأنّكم جعلتم علم فلسطين يخفق عاليًا في جهات العالم الأربعة، وأعدتم قضية فلسطين إلى العلن ليعرف بها الصغير والكبير، البعيد والقريب، بعدما كادت تصبح في عالم النسيان، وبرهنتم للعالم أجمع أنّ فيكم إرادةً لما فعلت غيّرت وجه التاريخ.
﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة 249). (صدق الله العظيم).
كما كشفتم كذِب ونفاقَ حاملي رايات الحريات وحقوق الإنسان والقوانين والمنظمات الدولية، ومدّعي حمل قضية فلسطين، والقومية العربية والأخوّة الإسلامية. وأسقطتم الرداء عن كلٍّ منهم، فبانت عوراتهم أمام القاصي والداني.
كلًّ هذا يجعلني أرى نورًا يبزغ من نهاية نفقِ الظُّلم والاغتصاب والإجرام، في أنَّ وعد الله فيهم قد أصبح قاب قوسين أو أدنى، في قوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا *﴾ (الإسراء 4 -7). (صدق الله العظيم).
اللهم، يا نصير الضعفاء والمظلومين، انصر عبادك المظلومين في غزّة على أعدائهم الغاصبين الظالمين المجرمين.
اللهم انصرهم، اللهم انصرهم، اللهم انصرهم.
اللهم واجعلني أرى فلسطين محرّرة، قبل أن أغادر هذه الدنيا، وحقِّقْ لي أمنيتي في أن تطأ قدماي، في شيخوختي، أرضًا زرتُها طفلا لم يبلغ التاسعة، يا من هو على كل شيء قدير.
وعشتم وعاشت غزة وعاشت فلسطينُ عربيةً حرّةً أبيةً.
غزة تُشعل الأمل وتُخمد الحرائق
د. علي منير حرب
السبت 2024/04/20
خاص: ندوة صالون «هتاف الشعر الثقافي» حول «حرائق الأقصى وكنيسة المهد»
كم كنت أتمنى أن تجبّ أحداثُ ليلةِ السبت الماضي[1] ما دوّنته في هذه الورقة. ولكن…في فمي شوك وعلقم؟!…
لن أكرّر على مسامعكم وقائعَ «فوران الدم من تنّور غزة».[2]
بل سأحاول أن أنقل إليكم بعضًا مما حدّثتني به أشلاء الأطفال والنساء والشيوخ الغزيين، والضحايا الشهود من الإعلاميين والأطباء والممرضين وموظفي الإغاثة الدوليين، العائمة دماؤهم في البحر الصاخب في غزة.
في غزّة اليوم حكاية ولادة استثنائية عسيرة حانت لحظتُها الحاسمة، بعد مخاض طويل امتد آلاف السنين.
القصة في غزة، هي أبعد من هجوم طوفان الأقصى، وأخطر من اختراق خطوط الكيان الغاصب وأسواره، وأدهى من مجرّد الانتفاضة والثأر، وأخبث من محاولة إنقاذ بعض الرهائن المحتجزين في أنفاق حماس، وأوسع من حرب بين طرفين يتباعدان في القوة والجبروت بُعد الأرض عن السماء.
إنها حكاية أخرى من حكايا التاريخ، بل من حكايا الإنسان مع تاريخ وجوده.
حكاية خارقة ومزلزِلة لذاكرات الأزمنة، لتقتلع منها ما حُشيت به من الخرافات والأكاذيب والأضاليل، نسجتها شياطين خفية، وعجنتها بأقذع أنواع السموم والأوهام، وسوّقتها بأفضل العروض والمغريات، وحمتها بكل أصناف العقوبات والنوازل وآلات الدمار والفناء بعد أن جمّلتها بأروع مساحيق الزيف والكذب عن السلام والحريات والحقوق والديموقراطيات.
غزة اليوم، وقد «تلقّتِ الأمر وفار تنّورها»، هي «الذبح العظيم»، هي «المعلّقة على الخشبة» منذ مئة عام وأكثر، هي المطعونة والمحروقة، فداء عن العالم المغشوش والمخدوع والمضلّل.
هي ملحمة الأصفياء مع «النماريد» والطغاة، لتحطيم أصنام الدجل الكبرى والصغرى، وكشف الحقائق الموؤودة والمغيّبة، وفتحِ العيون على أكبر خديعة تحكم العالم كله، وتقوده، بغطرستها وكراهيتها وأحقادها، إلى جهنّم.
لم تعد غزة وطنًا أرضيًا للغزيين ولا للفلسطينيين ولا للعرب.
غزة اليوم هي واحدة من السماوات السبع التي هبطت من عليائها لتلقّن العالم درسًا أمميًا جديدًا، يعيد اختراع اللغات والتعريفات والمعاني والقيم، ومفاهيم المنظمات والهيئات والقوانين الدولية التي تعفّنت وانتشر نتنُها أوبئة وكوارث.
هل عرفتم الآن سرّ هذه الإبادة الجماعية والكاملة التي تتعرّض لها غزة، شعبًا وأرضًا وتاريخًا وثقافة؟ وسرّ أطول حرب في تاريخ إنشاء هذا الكيان «البولفوري»، وحجم الخسائر التي تكبّدها في جنوده ومستوطناته وآلته العسكرية وسمعته ومكانته وحقيقة وجوده في هذا العالم؟
هل أدركتم لماذا يقطعون نسل الأطفال الغزيين الفلسطينيين؟ ولماذا يبيدون الأصول ويبقرون بطون الحوامل؟
هل عرفتم لماذا يقتحمون المشافي، ويفجّرون الأبنية، ويزيلون المساجد والكنائس؟
هل عرفتم لماذا يسمّمون الهواء والماء، ويمنعون الخبز والدواء، ويستبيحون كل المحرّمات التي نصت عليها تعاليم وقوانين السماوات والأرض؟
وهل عرفتم لماذا هرع زعماء العالم مذعورين يركعون على أبواب تل أبيب، خوفًا عليها من الانهيار؟
هل كانت غزة، تحتاج إلى كمية القنابل والمتفجرات التي أسقطت عليها إبّان الأشهر الأولى، والتي فاقت أوزانُها 70 ألف طن، أي ما يوازي 3 قنابل نووية، وهي أكثر مما استخدمه هتلر أثناء الحرب العالمية الثانية، وأكثر مما استخدمته روسيا لقتال أوكرانيا على مدى عامين كاملين؟
هل كانت غزة بحاجة إلى قصفها بالقنبلة الذرية، كما طالب عضو الكونغرس الأميركي عن الحزب الجمهوري «تيم والبيرغ»؟
ذات يوم، قال «جوزيف غوبلز»، بوق الإعلام النازي وذراع هتلر القمعية «اكذب ثم اكذب حتى يصدّقك الناس».
وها هي غزة، الذبيحة، تفضح اهتراء هذه المقولة، لتعلن الحقيقة التي يمكنها أن تعيد للبشرية إنسانيتها وأخلاقها.
غزّة تخبرنا اليوم أن مقولة «حدودكِ يا إسرائيل من الفرات إلى النيل»، كانت أكبر كذبة في التاريخ، فما كشفته غزة، أن حدود إسرائيل هي العالم كله، كل شبرٍ من حدودِ الكيان الصهيوني هو امتدادٌ جغرافي لحدود العالم، وأن الدول التي تتربّع على الكراسي الأولى لمنظومة الدول الحرّة، ليست أكثر من دمى تحرّكها خيوط الصهيونية التي تسود العالم، وها هو رئيس حكومة الكيان نتنياهو يصرّح اليوم بالذات، بأن مدّ إسرائيل بالأسلحة هو للدفاع عن الحضارة الغربية.[3]
تخبرنا غزة أن العولمة التي اجتاحت الدنيا لم تكن أميركية ولا غربية، إنما كانت بضاعة صهيونية بامتياز.
تخبرنا غزة أن الأمم المتحدة، المكلّفة بحماية سلام العالم وأمنه وحقوقه، لم تكن أكثر من هيئة للأمة الصهيونية الإسرائيلية المتحدة، التي لم تتورّع عن اتهام أمينها العام بأنه أكبر معاد للسامية، وأن موظفي هيئات الصحة والأونروا هم جواسيس ومتآمرون، ويستحقون القتل والإعدام.
غزّة أزالت كل الحدود وأحرقت كل الخرائط المعتمدة.
ماذا يعني كل هذا؟ يعني أن غزة فضحت المشروع الصهيوني العالمي والدرك الأخلاقي الشنيع الذي انحدر إليه الكيان المغتصب للعالم، والذي بات، لأول مرة في تاريخ وجوده، يواجه ما لم يخطر ببال شذّاذ الآفاق الذين قادوه واقتلعوا بذور الخير والسلام من الأرض.
غزة هي التي فجّرت دموع مسؤولة الشؤون الخارجية في مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان في الخارجية الأميركية، «أنيل شيلين»، التي استقالت لأنها لم تعد تحتمل الخيانة الأخلاقية وأنها متألمة على أميركا بعد أن تحوّلت إلى دولة مارقة.
وغزة هي التي حملت الطيّار الأميركي «آرون بوشنيل» على حرق نفسه خارج السفارة الإسرائيلية تنديدًا بمجازر غزة.
وغزة هي التي ألزمت محكمة العدل الدولية، بإصدار حكمها غير المسبوق بإدانة ومعاقبة إسرائيل لارتكابها الإبادةَ الجماعيةَ ضد الفلسطينيين.
أسقطت غزة آخر ورقة توت تستر عورات وعاهات ما يسمّى بالعالم الحر وجوقات إعلامه الفاجرة، وكشفت للملأ أن العالم لم يعد يتحمّل وجود النعاج بجوار غابات الذئاب والغيلان.
شدَّت انتباهي مؤخرًا لافتةٌ صغيرة تم رفعها ضمن إحدى المظاهرات المتضامنة مع غزة ضد آلة الإبادة الإسرائيلية المدعومة عسكريًا ودبلوماسيًا وإعلاميًا من الغرب، تقول: هل تعرفون من مات في غزة اليوم؟ إنها أسطورة الإنسانية والديمقراطية الغربية. لقد صارت كونية الحقوق في خبر كان!…
كم تبدو تهمةُ معاداة السامية، التي أطلقها ومارسها الغرب قاطبة، وألصقت زورًا بالعرب، تافهةً أمام حقيقة معاداة البشرية جمعاء التي كشفها تراب غزة وهو يحتضن عظام الضحايا من العالم كله.
غزة كشفت قناع «شايلوك»[4] وكل تجار الهيكل، وأشعلت آخر خيوط الأمل، وهزّت ضمائر العتاة والطغاة، ووضعت الإنسان في مواجهة أسئلة جوهرية تتعلق بالكينونة والهوية والحق بالحياة، في عالم مادي فائق التقنية وفاقد للروح والمعاني والأخلاق، ومصمّم على سقوط هيكل المثل والحقوق والحريات.
غزة هي الضحية التي أفرغت آخر رصاصة من مسدس الصهيونية العالمية، وهي آخر درجات السلم الدموي الذي صعدت عليه العقول الشريرة لتهيمن على العالم.
غزة هي البعوضة التي ستقتل «النمرود».
وإنني على يقين، أن دماء الفلسطينيين المسفوحة، سوف تكون قربانًا لعصر جديد تسجّل فيه غزة نقطة فاصلة في تاريخ ثقافة الإنسان الحديث، حتى يقال حقًا: إن ما بعد غزة ليس كما قبلها، ولكن ليس فقط لواقع غزّة، بل لمستقبل العالم.
ومن يعشْ يرَ زَلزلة العروش وانتصار العدل والمظلومين، وإخماد حرائق الهمجية.
سلام عليكم وعلى غزة صانعة ثقافة مقاومة العين للمخرز.
بسم الله الرحمن الرحيم: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.}
صدق الله العليّ العظيم.
[1] – إشارة إلى الردّ الإيراني على إسرائيل ليلة السبت – الأحد في 14/13 نيسان ـ أبريل 2024.
[2] – اقتباسًا من الآية 40 من سورة هود:{حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ.}
[3] – تصريح نتنياهو تعقيبًا على قرار الكونغرس الأميركي بتاريخ 2024/04/20 بمدّ إسرائيل بمساعدات عسكرية جديدة بمليارات الدولارات.
[4] – شايلوك: شخصية المرابي اليهودي الجشع في مسرحية “تاجر البندقية” للشاعر الإنجليزي الكبير وليم شكسبير.