الملعب واللاعبون أملاك خاصة!...

د. علي منير حرب

15/10/2020

لست هنا بصدد التنبؤ بمصير التكليف الهزيل الذي منحته بعض الكتل للرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة العتيدة (65 صوتًا)، بعد اعتذار السفير مصطفى أديب. فقد يكون من المبكّر رصد التحوّلات والتطوّرات والمواقف، المحلية والاقليمية والدولية، وانعكساتها على عملية التأليف.

ولكنني بصدد البحث عن تفسيرات موضوعية ومنطقية، (وأية موضوعية أو منطقية يمكن أن تنطبق على ما يجري في لبنان؟!)، للأحداث التي رافقت استقالة الرئيس الحريري بعيد انطلاق الثورة في 17 تشرين الأول 2019، وحتى تاريخ تكليفه في 22 تشرين الأول 2020.

في الوقائع:

غداة استقالة الرئيس الحريري، تمّ طرح الأسماء التالية لتشكيل الحكومة:

الوزير السابق محمد الصفدي، الرئيس السابق نجيب ميقاتي، سفير لبنان الأسبق في الأمم المتحدة، نواف سلام.

كما طرحت بعض الأسماء الأخرى على سبيل المناكفة أو التحدّي أو التفكّه، وذلك من لائحة لاعبي الاحتياط عند كل فريق (فؤاد مخزومي، عبد الرحيم مراد، مصطفى سعد، فيصل كرامي….).

جميع هذه الأسماء تمّ طرحها واستبعدت وأحرقت.

وبقي الرئيس الحريري على موقفه في عدم الترشّح.

عمد أقطاب الثامن من آذار، وبمباركة من الرئيس ميشال عون، الذي كان يترقّب “ردّ الرِجْل” للرئيس الحريري بسبب الاستقالة غير المتفق عليها معه، أو لمجاراة اللعبة في عملية حرق الأسماء المتوقّعة لتشكيل الحكومة، على تعيين الدكتور حسان دياب، بعد استشارات إلزامية مخفيّة دارت في الكواليس المظلمة.

وجاءت حكومة الرئيس دياب مع ما بها من عورات وما عليها من مآخذ.

وتحت الضغوط المتلاحقة بسبب كارثة انفجار مرفأ بيروت، تقدّم دياب باستقالة حكومته.

طرحت مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالتوافق، كما قيل حينها، بين جميع الكتل والأقطاب.

وبقي الرئيس الحريري أيضًا متشبّثًا بموقفه في عدم الترشّح.

ثم أقدم الرؤساء السابقون للحكومات على ترشيح السفير مصطفى أديب لتشكيل الحكومة.

وتعثّرت ولادة حكومة السفير أديب لإصراره على الحكومة المصغّرة من الاختصاصيين المستقلين والتي عارضها الجميع، وبالتحديد الرئيس عون والثنائي الشيعي.

وعادت اللعبة إلى مربّعها الأول.

تراجع الرئيس الحريري عن موقفه، وأعلن نفسه مرشحًا طبيعيًا لتشكيل الحكومة الجديدة، طبعًا بعد أن تمّ استبعاد أو حرق الأسماء الأخرى المتداولة وإسقاطها إما بالفيتو (نواف سلام)، أو بتهم الفساد (محمد الصفدي)، أو بالتفشيل والتبعية والعجز (حسان دياب)، أو بالاصطدام بجدار الأحزاب والكتل (مصطفى أديب).

وهكذا لم يتبق في “الميدان إلا حديدان”، سواء بالتوافق الداخلي، أو الاقليمي أو الفرنسي الأميركي السعودي.

وهنا يكمن سرّ القصيد في موضوعنا.

المسألة ليست في نوع الحكومات وشكلها ومواصفات أعضائها واختصاصاتهم، ولا في انتماءاتهم ومرجعياتهم، ولا في الخطط المزعومة والبرامج المعلنة لعملها، ولا في مضامين البيانات الوزارية التي تتقدّم بها لنيل ثقة المجلس النيابي.

كل هذه ديكورات لتجميل اللعبة وتنميقها وإخفاء أسرارها عن الجمهور.

المسألة هي في تناوب الأدوار وتبادلها بين أقطاب اللعبة السياسية في لبنان، بهدف إضفاء الزركشة الديموقراطية الزائفة عليها.

 (زعيم اللقاء الديموقراطي وليد حنبلاط يرفض استقبال المكلفين من قبل الرئيس الحريري للتشاور ثم عادت كتلته لتسميته أثناء المشاورات – كتلتا الوفاء للمقاومة والتنمية والتحرير يتمسّكان بعودة الحريري ثم ينفرد “حزب الله” بالامتناع عن تسميته – بعض النواب الأرمن والنائب إيلي فرزلي يخرجون على إجماع التيار الوطني الحر ويسمّون الحريري – إلخ….)

وسرّ اللعبة، مهما اختلف دور اللاعبين فيها بين مهاجم ومدافع وحارس “هيكل”، وحتى بين حكام الأساس والوسط والأطراف، هو تطويق الملعب وتحصينه وتسويره منعًا لأي طارئ أو دخيل أو طامح، من دخول أرضه المحرّمة والمكرّسة للآلهة المرسلين.

دروس للشعب

إنها في الحقيقة دروس واقعية مرّة، على الشعب اللبناني أن يحفظها عن ظاهر قلب.

صحيح أن الدستور اللبناني يعترف بحقّ أي لبناني بتولي مناصب الدولة حسب التقسيمات الطائفية والمذهبية المرسومة والملزمة، لكن عليه أن يفهم أيضًا ألا يطمح يومًا لخرق السقف المرفوع فوق رأسه وألا يرنو بنظره إلى فوق ما تسمح به أسوار الرؤية للمستقبل.

هل تذكرون حرق كل الأسماء التي كانت مرشحة لرئاسة الجمهورية قبل الرئيس ميشال عون، الذي أتقن اللعبة منذ الثمانينيات وخاض غمارها بسادية دموية جامحة؟

وهل تراقبون جيدًا كيف يمكن حرق كل الوطن كرمى لـ”تركيب” وليّ العهد جبران باسيل ولو على جثث المؤسسات والشعب؟

وكذلك الأمر بالنسبة لرئاسة مجلس النواب، مع ندرة الطامحين لهذا المنصب في وجه الرئيس نبيه بري، شيخ البرلمانيين العرب، القابض على الكرسي دون منازع منذ العام 1992.

(يلاحظ بوضوح مساحة الطموح المسموح بها عند الطائفتين المارونية والسنية، مقابل انعدامها عند الطائفة الشيعية).

الساحات فارغة إلا لأصحابها، حتى ولو تمّ التضحية بأقرب الناس إليهم، أو باسترضائهم عن طريق ضمّهم أو أحد أتباعهم إلى فريق اللاعبين، (فاستبعد سليمان فرنجية، وهو من أهل البيت) وأسقط دياب وحكومته وهو من فروة العباءة)، و(ألزم مصطفى أديب بالعودة إلى سفارته خائبًا، وهو أيضًا من أهل بيت الحريري وزملائه).

والمفارقة المدهشة بامتياز أن كلمة  واحدة من كتاب أديب لم تتغيّر في الكتاب الذي حمله الحريري الآن.

من أي ريح شرقية أو غربية أتت كلمة السرّ الموحية؟ فالجميع من دون استثناء، سارعوا إلى إعلان، ليس موافقتهم فقط، إنما مطالبتهم بحكومة اختصاصيين من غير الأحزاب أثناء المشاورات غير الملزمة مع الرئيس الحريري.

فلماذا إذن رُفض العرض المقدّم من أديب ورجع بخفيّ حنين؟

ولا أستبعد أبدًا أن تكون تسوية التأليف، وبمباركة وإشراف الماسكين بخيوط اللعبة من الأطراف الخارجية، على حساب الوطن والشعب كما في كل مرّة، بحيث يتمّ تعويم العهد المتهالك لقاء تمرير شروط الترسيم مع العدو الإسرائيلي، وعلى إيقاع نغمة الغزل الإيراني للشيطانين الأكبر والأصغر، وتجاوز العقوبات المفروضة على بعض الأحزاب والشخصيات والشركات، وبحيث يتمّ ترقيع ما أفرزته الأحداث بعد الثورة، دون المساس بالكوارث الأساسية التي أدّت إلى اشتعالها، فتخفّض مثلًا بعض الإجراءات تسهيلًا لسحب الأموال من البنوك، أو بالتضحية ببعض البنوك، أو الإطاحة بحاكم مصرف لبنان، أو بتخفيض أسعار الدولار أو الأدوية أو السلع بصورة توحي بإنجازات محقّقة لحكومة التسوية، ولإيهام الشعب بتحقيق مطالبه بالعدالة، لتعود مسيرة اللعبة إلى عادتها السابقة وبنكهة جديدة جامعة هذه المرّة لحكومة حسان دياب ولكن بمشاركة لاعبين كبار.

مسكين شعب لبنان، والذين يمكن أن يراودهم يومًا حلم دخول اللعبة أو الأمل بإصلاح ما. فالملعب مغلق والمقاعد محجوزة.