العرّافة ذات المنقار الأسود

تقديم

إنها العرّافة ذات المنقارين القاني والأسود التي جالت شواطئ البشرية واستقرّت في حنايا ذاكرتها.

بين “بداية الهمس وآخره، ترقد حكاية “بني تراب” بكل ما فيها من حب وحسد وغيرة وعنصرية، وما يرافقها من صراعات وخيانات ودسائس ومؤامرات وترويع وإرهاب، لتحقيق الأطماع الشيطانية التي تراود الماديين السفلة للقبض على رقاب الدنيا بمن وما فيها.

هي رواية “بني دجاج” تنقل “شيفرات” الجنس الإنساني بكل طلاسمه وخفاياه.

هي قصّة “الوعد” الحيّ الذي لا يموت، المنقوش على جبهة “سهم الأكبر” وفي جينات أحفاده الأوفياء، بزعامة الديك الذهبي: “الذي بدأ يجمع الشتات على أرض الوطن” (ص:٣)، والذي ما زالت ارتدادات قصصه الزلزالية “الآلاف ليلية” تتدحرج جيلًا بعد جيل، وتفتك بمصائر الخلق ومَواطنهم وهوياتهم. هي لعبة الأمم والشياطين الزرقاء الدائرة خلف جدران الزمان، والأصابع والأحابيل الموتورة الساعية لتحديد مراكز الآلهة بين الأرض والسماء.

هي حكاية القرابين الدموية “المرفوضة والمقبولة” التي فجّرت بؤر الانتقام وأسالت أنهار الدماء المسفوحة، وحفرتها نقوشًا أزلية على أكفّ المهووسين والمخدوعين المتسلّقين الظهور والأعناق، رغبة في دخول النادي الدنيوي الواسع، وإعلان عبوديتهم لذلك المارد المتربّع فوق قمة “الوعد” الحَكَم: “تحت رايتكم سنصل إلى الغاية المنشودة ونصبح من روّاد هذا الكوكب قاطعين صلتنا بالدجاج الملوّن الذي يكتنفه الغباء والجبن…ما دوّنه الزعيم الأكبر وقال بأن الأرض التي حباه الله فيها نعمة الذكاء هي الوطن الأزلي لصفوة الدجاج ونحن تلك الصفوة” (ص: ١٨).  هي النزاع الأبدي الذي حملته العرّافة فوق أجنحتها وطارت به عبر جهات الخلق الأربع، مثيرة زوابعه المدمّرة التي اقتلعت الكائنات وحصدتها من جذورها وجَبَلتْها في خليط من نار ودماء، لتعيد إنباتها من صنف واحد فريد مالك المقرَّ والمستقرَّ دون مثيل أو منازع.

هي الصراع المشبوبةُ نيرانُه المتجدّدة بأجسادٍ وأرواح مقبلة على قدميها لتسفح نفوسها أضحية على بلاطات العرف والمذابح المقدّسة.

مَن “سهم الأكبر والأصغر”؟، ومَن “الزعيم المؤسس الذي أكرمه الله بالذكاء المميز”؟، ومَن”ضجّاج”؟ ومَن “ودّان”؟ ومن “أبو نبوت الثالث عشر”؟ ومَن ومَن…؟ غير وجوه وأسماء تلبّست جلدًا وريشًا ومناقير، وتدرّبت على مهارات قفز الجنّ لالتقاط خيوط الصوت الفالت من بين الطبقات السبع، لتدخل به السيرك العظيم، برقصات بهلوانية خارقة وعروض فولكلورية مذهلة، معلنة انتصار “الوعد” الحق، ليس فقط في مملكة وَرَثة المؤسس الأكبر، ولكن على امتداد المزارع “العشوائية” المتناثرة غفلة على جوانب الوادي المطهّر، غير مدركة بأن البراكين حبلى بالموت من تحت أرجلها وحول حدودها الوهمية.

تلفّت حولك في الزوايا والأركان ودقّق وقارن، فسوف تجد أمامك وخلفك وفي طبق طعامك، وأحدًا من هؤلاء الشرسين يتربّص بك ويعدّ خطواتك ويسجّل حسناتك وسيئاتك في إضبارة المخابرات ليصدر حكمه عليك في دخول سطح جهنّم أو قعرها.

لا شيء يجري خارج دقّات الساعة المسيّرة بإرادة القادر على تنفيذ الوعود بأسلحة ظاهرة على الخشبة أو مرفوعة في وجه اللاعبين المحرّكين للدمى من خلف الكواليس. “الرعاع يجدون مقولة الحكماء متعارضة مع ما يبثّه المشعوذون ومأجورو السلطة …ويستغل بعض المشعوذين وحاشية الحكّام هذه المقولات الشاذة عن طبيعة الوجود لتخريب وبرمجة عقول الرعاع لنيل مآربهم” (ص: ٣٥).

كل شيء بقَدَر. نولد وننمو ونعيش بقَدَر حافِظِ “الوعد”، وفي ظنّنا وهمٌ كبير أننا صانعون لحاضرنا وغدنا ما لم يتمكن السابقون من صنعه لماضيهم “لو حدث أن اكتشف هؤلاء الأوغاد ثروة ما بين ظهرانيكم لأزالوكم من الوجود ترهيبًا وتنكيلًا إن لم يستطيعوا استعبادكم من أجل الاستيلاء على ثرواتكم” (ص: ٧٢).    هي الراوية لمعركة!… بل معارك صدام الحضارت والثقافات والمذاهب والطوائف ونهاية التاريخ الذي يحتفظ مهندسوه بلحظة القبض على روحه كما حدّدوا بدقة لحظة ولادته. 

معركة الوجود التي تولد ملتحمة بحبل السرّة وتترعرع تحت المسام من غير إرادة منّا ولا تدخّل، ولا يلبث أن يشتعل أوارها وتدور رحاها صراعات متنوّعة في مصدرها ونشوئها، متفاوتة في حدّتها ومداها، لكنها بالتأكيد واحدة لا تنفصل عن أصلها في أم المعارك، ولا تحيد قيد انملة عن غاياتها ومراميها، وكيف لها ذلك وقد ختمتها “العرّافة” وشمًا لصيقًا كالبصمة، لا يفارق حتى بالموت؟ …إنها لعبة “الروليت” الدائرة على مسرح الحياة. لا علاقة لها بالروليت الروسية التي يخوضها المغامر ليحايل حظ مقتله، لكنها لعبة الكرة الصغيرة الراقصة على صحن الملعب بخفّة ورشاقة دون أن تدرك الرقم المحدّد لها سلفًا للتوقّف عنده، وإعلان الرابح الأكبر (المختار) الذي سيكنّس ما على سطح الأرض من رهانات وثروات.

“العرّافة ذات المنقار الأسود”، عجينة التاريخ البشري، تشكّلت على هيئة رواية بين يدي صانع حاذق ماهر، يمتلك لاقطات المستور ببراعة نادرة ليعيد تدويره ويطلقه فضائح من عمر الزمان والمكان.

قد تكون رحلة شاقة وخارجة عن مألوف رحلاتنا الأدبية السائدة، لكنها بكل جدارة، رحلة شائقة مثيرة مبهرة، دعانا إليها كاتب حرّ نوراني، تسلّح بعقله ومنطقه وعلمه وبصيرته، فتجرأ على تمزيق غشاوات الزيف والأوهام، ورفعِ الستائر الحاجبة للحقائق، وغاص حتى آخر الأعماق في الاستقراء والتقميش وسبر بواطن الأجندات الغامضة، بهدف إحداث الرجّة في العقول المستسلمة، وطرف العيون المسدِلة جفونَها بأمان، حتى تنهض وتعي واقع الكارثة التي تنام على وسادتها، وما يحيط بها وما يحاك لها من مصير صار محتومًا.

بلى، الكاتب حرب، أخذ بيدنا، إلى عرضِ طافح بالأوهام والأضاليل، يبدأ مع الأدعية الراجية لوضع الذكور من بني دجاج والنقنقات “السبع” القدسيّة المسجّلة حفرًا على جدران رجائنا، والتي تحوّلت إلى شعائر من نوع “كلمات المرور” التي أتحفونا بها لحفظ كنوزنا في خزائن سريّة فيما هم يقبضون على مفاتيح أقفالها للاستيلاء على محتوياتها وابتزازنا كلّما دعت الحاجة. “علينا أن نشعرهم بالحب والولاء وأن نقدّم لهم ما لا يحلمون به كي يبقوا مخلصين ما دمنا نحتاج إليهم…بعد هذا الجهد والتفاني في تدريسهم الولاء الكامل لن يفكروا إلا في مرضاتكم والتضحية بأرواحهم من أجلكم وأجل مملكة أبو نبوت” (ص: ١٧).

رواية تمثّل جرس الإنذار المدوّي يقرع آذان الغافلين الساجدين لأصنام آلهتهم الجدد والمسلّمين رقابهم لأتباعٍ تكبّلهم السلاسل وينتفخون كصولة الأسد ويستنسرون فوق الربى فيما هم بغاث في قفص محكم.

وتبهرنا حقًّا براعة الكاتب الفريدة في تحويل ما دُوّن من تاريخ البشرية، بوقائعه وأساطيره، بأبطاله ومحتشديه “الكومبارس”، وما لفّه من غوامض وأسرار، وإسقاطه في سرد حافل بالأحداث ومشبع بالرموز والإشارات، ليخرج من بين يديه سجّادة روائية خارقة في نسيجها وخيوطها وصورها وإيحاءاتها، بفنيّة إبداعية رفيعة لغةً وبلاغةً ولوحاتٍ وأفكارًا: “في الناحية الأخرى حيث يبسط عالم الوحدة القدسية على لوحة الطبيعة مترنّمًا بأغصان الشجر التي تعزف على أوتار الوجود لحن الريح والنسيم، فيما إيقاع العصافير المغرّدة يدغدغ مشاعر ودّان الهائمة في عالم الصوفية التي تقرّبه من الحقيقة التي تنير درب عُرفه المقدّس” (ص: ١٨٠).

وقفتُ مذهولًا أمام هذا الفيض الفوّار في ملكة التخيّل والخلق التي يتحلى بها الكاتب لحبك رواية رمزية طويلة، تتمدّد على مساحة ٣٢٥ صفحة، على لسان أهل الريش وفقّاسي البيض والنقّارين ونقّادي الحبوب والديدان، لا أظنّ أحدًا قد سبقه إليها، مع اعترافنا بأقاصيص كليلة ودمنة في آدابنا العربية، والتي لم تخرج عن نطاق الحكمة التي جاءت على ألسنة الحيوان، في مقطّعات قصصية قصيرة متنوعة دون أن يجمعها موضوع واحد.

إنه رائد ومجدّد في فن الرواية النفسية الرمزية في سردياتنا العربية، والتي تمثّلت في مجموعة رواياته السابقة لتترسّخ جذورها في هذه الرواية. كما أنه صاحب مدرسة فكرية متقدّمة في جسارتها وإقدامها على كسر المعتاد في الطرح والأفكار والتوجه الإنساني، وأنموذج ساطع للمثقّف الذي يتجرأ على اقتحام حقول الألغام من أجل الذين يدركون “إنسانيتهم قبل الفناء”. “لو كانت الآلهة كما يصفون فهي إذًا لا تستحق العبادة. لو كانت الآلهة تنتظر هفوة دجاجة في نور أو ظلمة لما استحقت مصاف الآلهة. أهٍ من آلهة لا همّ لها إلا التعذيب عوضًا عن إصلاح الأخطاء…لماذا عليّ أن أصدّق الأساطير…من جعل من حكاية سهم الزعيم أسطورة حقد…لماذا يصرّ أرباب الحكم وعلماء الدين على أن يستغلوا قطبي بني دجاجة في زرع الكراهية والحقد” (ص: ١٢٤ -١٢٥). ها هي الحكمة المشعّة محبةً وأخوةً وسلامًا، والمتلفّعة بعقل نيّر، تنساب من قلم مبدع نذر فكره وفنّه لخدمة الإنسانية. 

                                                        د. علي منير حرب 

                                                  كندا / شباط – فبراير 2022