بيتهوفن يعزف السمفونية العاشرة

“جبران” في رابطة “منتدانا القلمية”… وبيتهوفن يعزف السمفونية العاشرة

(مداخلة ألقيت أثناء الندوة الافتراضية التي أقامها تجمّع منتدانا في مونتريال – كندا، مساء يوم الجمعة في الرابع من كانون الأول / ديسمبر 2020، لمناقشة أحدث إصدارات الشاعر هنري زغيب: “لعازر وحبيبته- الأعمى لـ(جبران خليل جبران) – اعترافات بيتهوفن لـ(ألكسندر نجار)”، بحضور المؤلف هنري زغيب).

د. علي حرب

أريدكم أن ترحّبوا معي في هذه الندوة بالحضور البهيّ لمفخرة لبنان “جبران خليل جبران” الذي سبق الجميع لهذا الموعد وفاجأنا أمس الأول الأربعاء، بإزاحة الستار الذي تدثّر به، ليشهد احتفاليته من علياء الهضبة التي ارتقاها في مسقط رأسه في مدينة بشري الجبلية.  (تم في ذلك اليوم رفع الستارة عن النصب التذكاري لـ”جبران خليل جبران” في مدينته بشري).

أستهل مداخلتي باستسماح الصديق الشاعر والأديب هنري زغيب، أن أتناول في قراءتي لحواريتي “لعازر وحبيبته” و”الأعمى”، عمله هو كصائغ لهما، وليس لما ورد فيهما من مضامين ودعوات جبرانية روحية إنسانية.

أما بشأن “اعترافات بيتهوفن” فسيكون لي قراءة مغايرة بعض الشيء.

كثيرًا ما كنت أتردّد في مطالعة كتاب مترجم، إلا بدافع الاستزادة بجرعة ثقافية فقط، مستبعدًا سلفًا جرعة الاستمتاع بروح النصّ ومكنوناته الجمالية، مبنى ومعنى، شكلًا وجوهرًا، كما وُلد بدم لغته الأم.

وحين وردتني الكتب الثلاثة تهيّبت بادئ ذي بدء، ولكن ما أن ولجت الرحلة، حتى بدأت ناهلًا الجرعتين بشغف، ثقافة واستمتاعًا، حين وجدت نفسي أمام عمل قُطف من غصن دانِ، ثم نُقّي وصُفّي وغُربل، ليخرج بكامل أناقته شكلًا ومضمونًا.

ما أريد الإضاءة حوله

أولًا: موضوع الصياغة

ثانيًا: مسألة “الحواريتين”

ثالثًا: سمفونية الاعترافات

 

أولاً – في موضوع الصياغة:

ذيّل الشاعر غلاف الحواريتين بعبارة: صاغهما بالعربية، كما ذيّل كتاب “الاعترافات” بعبارة: صاغها تعريبًا.

قد يكون سهلًا على من يتقن لغتين، النقلُ والترجمةُ من إحداهما إلى الأخرى.

ولكن ليس من السهولة أبدًا أن تصوغ، فيما أنت تترجم. من هنا يتراءى لي إصرار الصائغ زغيب على وسم عمله بالصياغة وليس بالترجمة. فإذا لم تكن مسكونًا حقًّا ومشبعًا ومخمورًا بصاحب النص الأصلي وأسلوبه وحياته ودقائق منهاجه فلا طاقة لك البتّة على الصياغة، وإذا لم تكن مالكًا حقًا لزمام اللغة وفنونها وآدابها، كما هي حال الصائغ زغيب، فعليك أن تجلس آمنًا على ضفّة الترجمة دون مخاطر الغوص في لجّة صياغتها.

فزغيب بصياغته تحمّل أعباءً أربعة:

1- عبء الترجمة من الإنكليزية.

2- عبء تجاوز ما ورد في الترجمات السابقة لعملي جبران والارتقاء بها لغةً ومسحاتٍ شعرية. حيث ذكر زغيب ذك في حاشية الصفحة الثالثة عشرة من المقدّمة.

وهذه الترجمات هي:

1- ترجمة لجبران نفسه لمسرحية “لعازر وحبيبته” على حدّ قول الباحثة اللبنانية مريان محمد رمضان الغالي “إن جبران كتبها بالإنجليزية ثم ترجمها إلى العربية عام 1914.”

2- ترجمة لقيصر عفيف نشرت في الصفحة الثقافية لجريدة النهار عام 2000.

3- قراءة تحليلية للمشهد الأول لمسرحية “لعازر” صدرت في كتابين للدكتور كامل صالح.

4- ترجمة ليعقوب افرام منصور صدرت عن مؤسسة الانتشار العربي 2001.

5- ترجمة لطوني شعشع نشرت في مجلة “صوت داهش”، شتاء 2002.

6- ثمّة استجابة من بعض المشتغلين في العمل المسرحي لقيتها مسرحية المكفوف في مسرح مونو لوليد فخر الدين إعدادًا وإخراجًا. (أشار إليها زغيب في مقالته “جبران بين البنك والمسرح” في كانون الأول عام 2006).

وما دامت هذه الترجمات تكاد تكون كافية، فحبذا لو عكف زغيب على توظيف جهوده المبذولة في ترجمة ما لم يترجم أو يظهر بعد من نتاج جبران والمتمثّل في ثلاث مسرحيات أخرى قد تكون موجودة في حوزة ورثة النحّات خليل جبران، كما أشار طوني شعشع في تساؤله عن مؤلفات جبران الكاملة والمحقّقة وهي: (القرينة – الميرون الأخير – الأحدب أو الرجل غير المنظور)، وأجزم أن جميعها يندرج ضمن مسؤوليات زغيب الجبرانية التراثية.

3- عبء الصياغة بأرواح وأنفاس ثلاثة: جبران المؤلف، الكامنة جبرانيته في قلم وفكر زغيب ذخرًا ثقافيًا متراكمًا من ناحية، واسكندر نجار المعروك هو أيضًا بدنيا جبران وفضاءاته من ناحية ثانية، وزغيب الصائغ للترجمات والمتعمّد بإلحاح أن يسكُبَ رحيقّ الشعر ويرُشّ شهدَ مقارعة اللغة ومنحوتاتها مطيّبات على وجه الطبق الشهيّ، مع ما قد يثيره هذا الشهد أحيانًا من وخزات لطيفة في الفم جرّاء إقحام أو تمرير مقصود لبعض الألفاظ (حدّي – اقتبال – وميضة – أحدين – ناهدًا  – الهناك – تعبى – خلّني – قالوني – هاني- أتجاوزني – أقنعتُني – ألكانت – أشمئزُني…. ).

4- وهو الأهم بنظري، عبء الترجمة والصياغة لكاتب عربي كبير، وليس أجنبيًا، كـ”جبران”، اشتهر بكتاباته العربية قبل الإنجليزية، وذاع بها صيته، وبها تكوّنت شخصيته وأسلوبه وتفرّده باعتراف الكبار من المشتغلين بالأدب لاسيما ممن رافقه في الرابطة القلمية.

وهذا أمر يجب ألا يغيب عن بال أي مترجم لجبران، لأنه برأيي، يقيّد المترجم ويسجنه ضمن مناخ وطقوس جبرانية لا يمكن تجاهلها. 

وأرى أن الصائغ زغيب قد أفلح، أيّ فلاح، في تنكّب الأعباء الأربعة، وكان محقًّا غاية الحقّ بوسم أعماله بالصياغة وليس بالترجمة فحسب، وهذا فنح لم يسبقه إليه أحد.

Read more