"قناديل ملك الجليل"
شِعريّة الرواية وروائية الشعر

رواية “قناديل ملك الجليل” للشاعر والروائي ابراهيم نصر الله

د. علي حرب

(ورقة مقدمّة أثناء الندوة الافتراضية على زوم في كندا بتاريخ 27/11/2020)

شِعرّية الرواية وروائية الشعر

أودّ أن أبدأ حديثي بالاعتذار عن عدم تضمين قراءتي نماذجَ وأمثلةً من النص لتكون شهودًا على أحكامنا، وذلك لضيق الوقت من جانب، ولأنني أعتبر أن الرواية من غلافها إلى غلافها هي شاهدٌ حيٌّ لذلك.

سوف أحاول في هذه العُجالة من الدقائق المتاحة، أن أعبُرَ حدودَ الجليل وأسلُكَ دروبَ فلسطين لأستضيء بالشعلة المتراقصة في قناديل الملك، وأكشِف بعضًا مما أظنّه متفرّدًا في شعرّية الرواية وروائية الشعر لدى إبراهيم نصر الله.

اعتدنا في قراءاتنا الأدبية الروائية أن نؤخذ بموضوع الحكاية، بأحداثها، بأبطالها، بحبْكة عقدها العصيّة على التوقّع أو الانفراج، بمفاجآتها التي تنتظرنا خلف الجدران وبالمواقف العاصفة بالتشويق والمثيرة فينا الشغفَ والانبهارَ والسفرَ إلى ميادين الفرسان، كما إلى الكره والثورة والنقمة.

واعتادت الرواية من جانبها أن تأسرنا بما لديها من قوّة الإغراء، في جوانبَ محدّدةٍ مما يسكن أجهزتنا العصبية ويشعل ميلنا ونزعتنا وإدماننا على البحث والتنصّت على خفايا الناس وتمليحها وتبهيرها بالحادق والحارق.

في قناديل ملك الجليل، شبّت عادتنا على الطوق وتخلّت الرواية عن عاديّتها النمطية فأضافت إلى كل المؤثرات السابقة أدواتٍ وعناصرَ غيرَ مألوفةٍ حوّلتها من قصّة روائية إلى رواية شعرية تحمل، فوق أحمال الرواية، طوفانًا من السرد الشعري القصصي الفني الرفيع، تجده يانعًا متفتحًا صورًا وخيالات ولوحات في كل محطة وموقف ومشهد، وفيضًا من الرموز الإنسانية وغير البشرية، تتجسّد في شخصيات النساء والأبطال واليتامى والفقراء، كما في الخيول العربية الأصيلة والشريفة.

وتشدّنا في الرواية معارج شاهقات من المواقف البطولية الوطنية والقومية، ونمط خاص وفريد من التعامل مع التاريخ وشخصياته وأحداثه، واندماج بارع ما بينه وبين جراح الذات ومآسي الحاضر في النكبة والتهجير والحنين المشتعل إلى الأرض المفقودة اغتصابًا وتآمرًا.

أولًا: الشعر سلطان الرواية

كل الشعراء والروائيين يغرفون وينحتون.

إبراهيم نصر الله هو وحدُه نسيجُ نفسه، فإما أن يتنفس الشعر أو يختنق. نادر هو في استخدام اللون والحرف والريشة والإيقاع والصورة واللوحة.

مع إبراهيم نصر الله، في رواياته ودواوينه ولوحاته التشكيلية، علينا أن نوطّن أنفسنا لكي نخوض تجرِبةً استثنائية مبتكرة في فنّ الغوص، ليس بحثًا عن حدث أو فكرة أو موقف أو نهاية سعيدة أو حزينة فحسب، إنما لجمع اللآلئ من الصور الخلّاقة الساحرة التي تنهمر مطرًا وتزيّن المعاني لا أجمل ولا أرفع.

معه لا نصعد في قطار يومي تعرِفنا مقاعدُه ونعرفُ ركابَه ومشاهدَه المتدفقةَ عبر النوافذ في رحلة روتينية مملّلة ألفنا وجوهها وصورها وأصبحت كأفلام الدمى المتحرّكة لا دمَ فيها ولا حياة.

مع خيالية نصر الله المولّدة للصور والمعاني والأفكار الفاتنة، نكسر تحسّر عنترة في “هل غادر الشعراء من متردّم”، فمهما قال السابقون ومهما أجادوا ومهما أكثروا، ففي جعبة نصر الله، وبين ثنايا ريشته، يرتاح نبع فوّار يتحفنا بالجديد المبهر والمدهش دون أن يعرف انحسارًا أو نضوبًا.

هو واحد، وهو فريق، في محترف فني راق يغدق علينا نعم الجمال، جمال اللفظة وجمال الفكرة وجمال الصورة وجمال اللون واللوحة والروح.

مع إبراهيم نصر الله علينا أن نألف إتقان رواية القصيدة وفنّ إلقاء الرواية.

كما علينا أن نعتاد عشرة الرجالات المجبولين بالشهامة والمروءة والنخوة والعنفوان، أولئك هم أصحاب القلوب الكاسرة كمخالب النسور، والوديعة العفيفة كمناقير الحمام، البارعون برفع السيف في وجه الطغاة والخاضعون لرفعة البكاء أمام الضعفاء والمظلومين.

Read more