"خبطة قدمكم عالأرض هدّارة"
د. علي منير حرب
21/11/2019
حملتني ذكرى الاستقلال إلى أوائل الستينيّات من القرن الماضي.
كنّا لا نزال نتمتّع بعمر مراهقتنا في مدرسة البلدة الرسمية المتوسطة.
كان من عادتنا أن نفتتح يومنا الدراسي بالنشيد الوطني، كلّ يصرخ على هواه. ولكن، عندما كان يبدأ الناظر ومدرسو الرياضة، بمتابعة أصواتنا وزجرنا لتحسينها، كنّا ندرك أن عيد الاستقلال قد اقترب.
كان مدرّس الرياضة، وهكذا كانت تسمى في تلك الأيام وليست التربية البدنية، يحرص قبيل عيد الاستقلال، على تنظيمنا في صفوف متراصة، ونحن في لباسنا الرياضي الجميل، ليخرج بنا إلى الشوارع المحيطة بالمدرسة، ويدرّبنا على نظام السير المرصوص طالبًا منّا أن “نخبط” قدمنا اليمنى في الأرض عند عدّ الرقم أربعة.
وكان المدرّس يتعمّد مرورنا امام مدرسة البنات المتوسطة القريبة من موقع مدرستنا.
فرح كبير كان يغمرنا ونحن نقترب من تلك المدرسة، حيث تتجمّع الطالبات أمام النوافذ لرؤية الشباب الجنود وسماع وقع أقدامهم التي ترجّ الأرض، فيما كانت المدرّسات يتجمعن أمام بوابة المدرسة الخارجية.
ما أن نصل مشارف المدرسة حتى تزداد صفّارة المدرّس زعيقًا وتزداد أقدامنا “خبطًا وتلبيطًا”.
كان كل منّا يزهو ويمدّ عنقه وهو يرمق بخفية وجوه الصبايا وهنّ يلوّحن ويصرخن ويضحكن.
وتصبح وجوهنا مسمّرة بتلك النوافذ، فمنّا من يشرد يمينًا ومنّا يسارًا كالعنزات التائهة عن أعين الراعي.
كنا ننتظر حصّة الرياضة بفارغ الصبر لنحظى، دون عقاب أو وجل، بضحكة من هذه وابتسامة من تلك، لا سيما صبيّة كانت تسكن أحلامي وتلوّح لي بأطراف أناملها من بين أيدي زميلاتها، فأشعر حينها أنني ملكٌ متوّج يستعرض شعب مملكته ورعيته.
لكننا اكتشفنا بعد ذلك، أننا لم نكن وحدنا مراهقي ذلك الزمان، إذ عرفنا أن مدرّسنا الكريم كان على علاقة غرامية بإحدى المدرسات وكان يتعمّد قيادتنا إلى مدرسة البنات لاستعراض عضلاته وفتوّته أمام محبوبته، وذلك بإطلاق العنان لصفّارته وهدّ الأرض بقدمه لنتمثّل به.
ويوم الاستقلال، كانوا يجمعوننا في صفوف منتظمة، وكنت اتقدّمهم، نظرًا لطول قامتي، حاملًا علم لبنان، لنمرّ أمام منصة الاحتفال، ملزمين بتنفيذ الأوامر بإدارة وجوهنا وتثبيتها نحو اليسار لتحية محافظ المدينة والمسؤولين.
أما أنا فكنت أتباهى بحمل العلم كي تراني “معذّبتي” التي حشرت نفسها بين الصفوف فتصفّق لي بعينيها ويديها فأشعر بفخر يستغرقني أسبوعًا كاملًا من الإعجاب والآمال، أقضيه وأنا أكرّر تمثيل المشهد أمام المرآة “خابطًا” بقدمي اليمنى على الأرض، لا استفيق بعدها إلا على ضحكات أهل البيت وهم يرمقونني بفرح قائلين: ألم ينته الاستقلال عندك بعد؟
سقا الله أيام البراءة وأيام الفرح باستقلال وطننا الغالي.