وطن في الغربة: التنوّع والتعدّدية الثقافية
كندا أنموذجًا
المنتدى الثقافي الأسترالي
مؤتمر: “وطن في الغربة: شؤون وإنجازات”
أكتوبر / تشرين الأول 2021
بحث بعنوان:
[وطن في الغربة…التنوّع والتعدّدية الثقافية – كندا أنموذجًا –]
المغترِب المستهدَف في هذا البحث هو اللبناني.
وطن الغربة المقصود في هذا البحث هو كندا.
إعداد: الدكتور علي حرب
كندا في 01 / 04 / 2021
***ثبت المحتوى***
الموضوع الصفحة
المقدّمة: ………………………………………………-٣-
الهجرة وتحوّلاتها: …………………………………..-٥-
بين الوطن والدولة:………………………………….-٩-
الاغتراب اللبناني:……………………………………-١١-
وطن الغربة: …………………………………………-١٣-
وطن الغربة شؤون وإنجازات: ……………………..-١٥-
حصن التنوّع والتعدّدية الثقافية (كندا أنموذجًا): ……-١٨-
قائمة المصادر والمراجع: ……………………………-٢٢-
***المقدّمة***
دأَبْنا في أغلب أدبياتنا على تناول موضوع الهجرة والاغتراب من زاوية رومانسية وجدانية عاطفية، فيها من الأسى والحسرة واللوعة والحنين، فائضٌ يطغى على ما تحمله هذه القضية من عناصر التغيير والتحسين لواقع مأزوم من جهة، ومن مكتسبات ومحصّلات اقتصادية واجتماعية وثقافية من جهة أخرى.
من المؤكّد أن ما تثيره قضية الهجرة من معاناة وضنى في نفوس المهاجرين وذويهم يصعب جدًا تحمّله، وأن ما يتكبّده الوطن من خسائر بابتعاد أبنائه، مع ما يمثّلون من طاقات ومهارات وكفاءات، يكون فادحًا للغاية، وأن عملية النزف المستمرّ في دم شباب الوطن مدعاة حتمية لإصابته بفقر الدم التنموي الشامل.
أطرح في هذا البحث قضية الهجرة، كظاهرة تاريخية رافقت البشرية منذ آلاف السنين، وظروفها ودوافعها الشخصية ومسبّباتها الاقتصادية والسياسية، وما طرأ عليها من تطوّرات وتحوّلات بعد أن فقدت صفاتها الفردية والارتجالية، وأضحت مؤسسة منتظمة لها قواعدها وأصولها وقوانينها، مستهدفًا بالتحديد هجرة اللبنانيين عبر التاريخ.
كما سأحاول الإجابة، بمنطق وعقلانية، على السؤال الطبيعي: هل لا زالت معضلة الهجرة وآثارها ومعاناتها، على حدّتها وقساوة مرارتها، على مستوى الطرفين المغترِب والمقيم؟
في غمرة غرقنا في لجّة الظلم والقلق التي سقطنا فيها في أوطاننا، وأطلقنا بسببها صرخات الوجع واليأس، غشت أبصارَنا غمامةٌ سميكة أضاعت من بعضنا بوصلة الاتجاه، وقادتنا إلى الخلط بين مفهومي الوطن والدولة، الوطن ككيان جغرافي وهُويّة وانتماء، والدولة ككيان سياسي إداري يرعى شؤون الوطن، فعَمَدْنا إلى كيل الاتهامات وتحميل الوطن مسؤوليات وتبعات ما نعانيه.
فلذا كان لا بدّ من تسليط الضوء الكاشف على مفهومي الوطن والدولة، كي لا نسحب ظلامتنا على الكيان الوطني نفسه، وحتى لا نتمادى في تكرار اتهاماتنا بأننا طفشنا هائمين من ويلات الوطن.
ثم تعرّضت بإيجاز إلى حكاية طويلة عن الاغتراب اللبناني التي بدأت فصولها منذ مئات السنين وما زالت حلقاتها تتوالى وتتصاعد، بوتيرة عالية، حتى يومنا هذا، ودائمًا للأسباب والدوافع الطاردة نفسها، وللأهداف المتوخاة في البحث عن بديل آمن وكريم نفسها أيضًا.
كما تناولت مفهوم وطن الغربة وما يعنيه هذا المصطلح الذي يتّخذه مؤتمركم هذا عنوانًا رئيسًا، أي أنه هو القضية البارزة التي تنضوي تحتها قضايا متفرّعة قد لا تقلّ أهمية عنها.
وعرضت بعدها ما تتضمّنه قضية الهجرة من شؤون وشجون وما فيها من مفارقات وتناقضات وتحدّيات بالنسبة للمهاجر، الجديد بخاصة، والاختلافات التي تواجهه. كما ألقيت الضوء على مجمل الإنجازات التي تحقّقت في وطن الغربة لصالح الأطراف الثلاثة: المهاجر والوطن الجديد والوطن الأم.
وحاولت أن ألخّص ما أسميته “حصن التنوّع والتعدّدية الثقافية”، الذي يعيش ضمنه المهاجر في كندا مع مزيج عالمي من الشعوب والأعراق والتراثات المختلفة وغير المتوقّعة أحيانًا، وما لهذا العامل من انعكاس وأثر فعّال وواضح في تعديل وتشذيب الكثير مما علق من تشوّهات في نظرتنا وأفكارنا وعلاقاتنا وأحكامنا نحو الآخر من ناحية، ونحو الكثير الكثير من مفاهيم الحقوق والواجبات والممارسات والسلوكات والشعارات التي نجحنا في رفعها وفشلنا في تطبيقها، وما لهذا العامل أيضًا من دور هام في كسر حواجز العزلة الاغترابية إذا أحسنّا التعامل معه بدراية وشجاعة، وبادرنا إلى خوض فاعليات التثاقف وحوار وتبادل المكتسبات والتفاعل التام مع قضايا الوطن الجديد والانخراط في جمعياته ومنظّماته المدنية ومؤسساته البلدية والبرلمانية، ونشاطاته الثقافية العامة، لأن هذا العامل يشكّل حصنًا منيعًا للمهاجر يساعده على خلق “وطن الغربة” في ظلّ دولة عادلة، ويحميه من انتكاسة الشعور بالاغتراب ومن السقوط في كابوس الغربتين في وطنه وفي المهجر، ويفتح أمامه آفاقًا رحبة لممارسة مهاراته وكفاءاته وتأكيد حضوره على مختلف الصعد التي تمنحها له القوانين، وتنقذه بالتالي من مغبّة الوقوع في النار فيما كان يحاول الفرار من الرمضاء. وقد اخترت كندا أنموذجًا في هذا المجال لأسباب عدّة أهمّها:
أولًا: أن انتقال اللبناني إلى أي بلد عربي بقصد العمل أو غيره، قد لا يشكّل تحدّيًا ومواجهة نفسية وثقافية واجتماعية وحتى سياسية، مع بيئة وظروف متباينة أو متناقضة، لأنه يشعر وكأنه لا يزال يعيش في مناخ ثقافي متشابه، وبإحساس دائم بقربه من وطنه وبالعودة إليه في غد قريب ما دام لا يحمل أملًا ولو ضئيلًا، في اكتساب الجنسية أو حتى الإقامة الدائمة أو التمتّع بحقوق المواطنية.
ثانيًا: نظرًا لما تتمتّع به هذه البلاد من مزايا التقدّم والرقيّ والعدل والحقوق والفرص، جعل منها مقصدًا جاذبًا للمهاجرين، ولما تجمعه في أرضها من تنوّعات ثقافية عالمية جعلت منها بحق قرية أممية خصبة وزاخرة بكل الأعراق والأجناس والألوان. ولما حقّته من نجاح، بفضل أنظمتها وقوانينها ومبادراتها، في مجال التعايش الإيجابي بين مكوّناتها وأقلّياتها العرقية والثقافية، والانفتاح البنّاء الذي رعته ورسّخته بين عناصر مجتمعها المشكّل أساسًا من المهاجرين. على الرغم من بعض الشوائب التي تعتري مثل هذه الأنظمة الرأسمالية.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنه على ضوء التعديل الذي أقرّه القائمون على المؤتمر والذي طال عنوانه الأساس، فقد اضطررت إلى تعديل بعض الجوانب في فصول البحث ودمجت بعضها بآخر كي أبقى منسجمًا وملتزمًا بموضوع المؤتمر.
ولا يسعني ختامًا إلّا أن أوجّه تحية تقدير وشكر للمنتدى الثقافي الأسترالي، وراعيته الصديقة الدكتورة أميرة عيسى وفريق إدارته، لهذه المبادرة البحثية الهامّة والمطلوبة، وإلى جميع الزملاء الباحثين الذين يغنون بمشاركاتهم هذه القضية، التي أعتبرها من أخطر ما يهدّد مستقبل أوطاننا العربية بسبب تفريغها المتمادي من أغلى وأعزّ ثرواتها، كما أعتبرها في مقدّمة التحدّيات التي يتعرّض لها المهاجرون إلى بلاد غريبة.
***الفصل الأول***
الهجرة وتحوّلاتها
الهجرة رفيقة الإنسان
تتبدّى قضية الهجرة ظاهرة ملازمة للجنس البشري منذ بدء التكوين حتى يومنا هذا، ونظرًا لهذا التلازم اللصيق فقد احتلت الهجرة جزءًا هامًّا من المورِثات أو الجينات الأساسية للكائن البشري مذ تمّ أول نفي لأبينا آدم وأمّنا حواء بطردهما من مسقط تكوينهما ونزع جنسيتهما السماوية عقابًا على عصيانهما لأوامر الخالق، فعادا إلى جنسيتهما الترابية التي تكوّنا منها، وهبطا إلى الأرض يعملان بعرقهما ويتكاثران ويضربان في أرجاء الدنيا الواسعة.
رافقت ظاهرة النزوح والانتقال والاغتراب، على اختلاف ظروفها ومسبّباتها ودوافعها، جميع الأنبياء والرسل، كما توارثتها أجيال الشعوب اللاحقة حيث امتلأت بهم أصقاع الجهات الأربع، فاصطادوا وزرعوا واستقرّوا وبنوا وشيّدوا وأحيوا الأرض الموات، وأنشأوا المدنيّات والحضارات.
قدرالإنسان أن يبقى أسير هذه المورِثة التي لم تنطفئ جذوتها عبر آلاف السنين، فتوالت هجراته ورافقته طوال مسيرته التاريخية.
ولا زالت الأسباب الدافعة للهجرة هي نفسها إما عقابًا كما يحصل مع المعارضين الذين يشكّلون خطرًا على أنظمتهم، وإمّا نجاة من أخطار وبحثًا عن مصادر الاطمئنان والعيش الأفضل وتحقيقًا لأحلام شخصية ونشرًا لدعوات إنسانية. لم تكن مسألة الانتقال والنزوح وهجرة المواضع والأمكنة في الزمان الغابر قضية مؤرّقة، بل ربما كانت حاجة وضرورة ومطلبًا حياتيًا وإعماريًا حيويًا لدى مختلف سكان هذا الكوكب. ومما لا شك فيه، أن عوارض الغربة المؤلمة المتأتية من الهجرة التي نعبّر عنها في أدبياتنا المعاصرة، في كثير من الأحيان، من زاوية مشاعر الأسى والأرق الوجداني ونوستالجيا الحنين إلى مساقط الرأس وملاعب الطفولة ومرابع الشباب، ترتبط أساسًا بمسألة المتغيّر المكاني الذي تغلغل زمنيًّا، مع ما يحمله وما يحيط به في حنايا النفس الإنسانية، وشكّل عناصر هامة وأساسية من هوية الفرد، ولكن لا بدّ أن نؤكد في الوقت نفسه، أن حركة الهجرات التاريخية كانت سببًا رئيسًا وعاملًا أساسيًا في إعمار الأرض وتكوين الأمم ونشأة وتطوّر الحضارات الإنسانية عبر التاريخ. فلولا هجرة الشعوب وزحفها من منطقة إلى أخرى، ونزوحها من هنا واستقرارها هناك، لما شهدنا دولًا وأوطانًا وكيانات سياسية كما نعرفها اليوم. ولولا الهجرات وتلاقي الثقافات والحضارات وتلاقحها في ما بينها لما عرفنا تقدّمًا ولا تطوّرًا ولا تحديثًا في حياتنا الإنسانية، وبقينا نعيش حياة جدّنا الأول في المغاور والكهوف.
صحيح أن بعض هذه الهجرات كانت اجتياحات واكتساحات كارثية حضارية كبرى في مراحل تاريخية مختلفة، لكن الصحيح أيضًا أن جلّ هذه الهجرات أسّس وحمل تغيّرات حضارية هامة في الحياة الإنسانية، ومثالنا القريب ما قام به الأوروبيون من تعمير للعالم الجديد. وللدلالة على الأهمية التاريخية للهجرة لا بدّ أن نذكر أن التقويم السنوي المعتمد حاليًا في العالم الإسلامي هو التقويم الهجري المرتكز على حدث الهجرة النبوية من مكة الى المدينة والذي كان بشيرًا لنشر الدين الإسلامي وانتشاره في العالم.
يؤكد الباحثون الإيكولوجيون والاجتماعيون والاقتصاديون أنه من الصعب، وربما من المستحيل، أن نجد بلدًا خاليًا من المهاجرين واللاجئبن، مع ما قد يحمله هذا الواقع الذي يفرض التثاقف والتبادل بين الطرفين، الأصلي والطارئ، من أسباب الرفض والقلق والتوتر من جانب، ودوافع الاقتباس والتحديث والتطوير من جانب آخر.
عصر الهجرة
يشير التقرير الصادر[1] عن المنظمة الدولية للهجرة لعام 2020، أن عدد المهاجرين الدوليين في العالم حتى شهر حزيران / يونيو من عام 2019، بلغ 272 مليون مهاجر (5.3 % من سكان العالم)، منهم52 % من الذكور، و48 % من الإناث، و74 % من جميع المهاجرين الدوليين هم في سنّ العمل (ما بين 20 سنة و64 سنة). كما بلغ مجموع عدد اللاجئين في العالم 9.25 مليون لاجئ في عام 2018 تقلّ أعمار 52 % منهم عن 18 سنة. ووصل عدد المشرّدين داخليًا بسبب العنف والنزاع إلى 3.41 مليون شخص. هذا التصاعد الكبير في أعداد المهاجرين واللاجئين في العالم، وتزايدهم بشكل ملحوظ قياسًا بالعام 2018 حيث لم تتجاوز نسبة المهاجرين حوالي 3.5%، دفع العديد من علماء الاجتماع إلى الاستنتاج أن عصرنا هو عصر الهجرة بامتياز.
التحوّل في قضيتي الهجرة والغربة
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال: هل ما زالت الهجرة مغامرة في المجهول تكلّف الفرد والدول الخسائر والتكبّدات الجسيمة؟
وهل ما زالت الغربة محافظة على حدّتها وتوقّد جذوتها لإثارة الأسى واللوعة وإضرام نار الشوق والتسبّب بالمعاناة والقلق؟
إن واقع الأمور، والنظرة العقلانية الهادئة لهذا الجانب النفسي المؤثر في حياة المغترب المغادر لأرضه وأهله كما في نفوس ذويه، تدفعنا لأن نستلهم الإجابة على هذا السؤال في ظلّ عوامل ثلاثة:
1- ما يشهده العالم منذ انطلاق الثورة الصناعية من تطوّرات وتحوّلات وتحديثات في مجال تكنولوجيا السفر والمواصلات بين بلاد الانتشار والأوطان الأم.
2- التقدّم الهائل في مجال تكنولوجيا التواصل ما بين قلبي الوطن المقيم والمغترِب.
3- التطوّرات التي طرأت على مفهوم الهجرة والاغتراب وتحوّله إلى مؤسسة منظّمة لها قواعدها وشروطها وهيئاتها على مستوى الدول المودِّعة والمستقبِلة، كما على مستوى الهيئات الدولية الراعية لحقوق الإنسان والتنمية الشاملة والمستدامة.
في العامل الأول، نجد أن ما يشهده العالم من تقدّم كبير في مجال السفر والطيران المحطِّم للمسافات، يؤكد لنا بما لا يقبل الشك أن موضوع الهجرة والسفر لم يعد، كما كان سابقًا، مجازفة ومغامرة في المجهول. فالمسافر الذي كان عليه أن يتحمّل مشاق الرحلة وتكاليفها ماديًا ونفسيًا وجسديًا، والتي كانت تمتد أشهرًا على متن سفينة ترميه على شاطئ غريب من شواطئ العالم، دون أن يعلم شيئًا عن مصيره ومن دون أن يلتقط ذووه خبرًا عن أحواله، أصبح هذا المسافر اليوم قادرًا على عبور المحيطات والآفاق في غضون ساعات وبتكلفة معقولة وبشعور آمن له ولذويه. ففي حين كان الأهل ينتظرون رسالة أو خبرًا عن مغتربيهم على مدى أشهر أو سنوات، قد يصل أو لا يصل، أصبحوا اليوم، وبفضل التقنيات الهائلة يتابعون لحظة بلحظة مسار الرحلة وأحوالها ومحطّاتها ولحظة وصولها إلى البلد المقصود.
وفي العامل الثاني، فإن ما نتمتّع به اليوم من مزايا فائقة السرعة والدقة والاتقان في وسائل التواصل عبر أجهزة صغيرة تشبكنا مع العالم كله وتضعنا في لحظة الحدث فور ولادته، وتجمعنا وجهًا لوجه مع أهلنا وأصدقائنا لنتبادل معهم تفاصيل حياتنا اليومية دقيقة بدقيقة، كان له أثر كبير جدًا على تحوّل تداعيات الهجرة والأعراض الناتجة عنها. أضف إلى ذلك، أن الإنجازات الهامّة التي تمّت على مستوى العلاقات الديبلوماسية بين الدول، والشروع في فتح السفارات والقنصليات في أغلب دول الانتشار ساهم أيضًا وبشكل كبير في التخفيف مما كان يعانيه المغتربون لمتابعة شؤونهم في الوطن الأم، كما لعبت الدوائر التي أنشئت لرعاية شؤون المغتربين دورًا مساعدًا جدًا في هذا الاتجاه الإيجابي. وجاءت موجة العولمة التي عمّت العالم بأسره في مختلف الميادين لتضمّ تأثيراتها هي الأخرى إلى هذا الشأن لاسيما في موضوع فتح الآفاق الاقتصادية والتبادلات والتحويلات المالية التي تعتبر من أولويات هموم المغتربين.
أمّا في العامل الثالث، والذي يعتبر من أبرز العوامل الهامّة جدًا في التحوّل الذي طرأ على واقع الهجرة، فهو مبادرة المجتمع الدولي، إلى التعاطي مع هذه القضية باعتبارها ظاهرة دولية وواقعًا محتومًا يدخل في صميم الحياة الإنسانية ويمسّ مصالح وحقوق الدول والشعوب كافة، ولم يعد أمرًا طارئًا خاضعًا للظروف الطبيعية أو الاقتصادية أو السياسية أو الخاصة، فبادرت منذ العام 1951 إلى تأسيس “المنظمة الدولية للهجرة”، المعروفة باسم “IOM” وهي مؤسسة تابعة للأمم المتحدة مُلتزمة بمبدأ “أنّ الهجرة الإنسانيّة والمنَظّمة هي هجرة مفيدة للجميع، للمهاجرين والمجتمعات على حدّ السواء”.
“تكرّس المنظمة الدولية للهجرة جهودها لتعزيز الهجرة الإنسانية والنظامية للجميع، وذلك من خلال تقديم الخدمات والمشورة للحكومات والمهاجرين على حدّ السواء. ويبلغ عدد أعضاء المنظمة 172 دولة بالإضافة إلى 8 دول أخرى لها صفة مراقب، كما تملك المنظمة مكاتب في أكثر من 100 دولة حول العالم. وتعمل المنظمة الدولية للهجرة على ضمان إدارة منظّمة وإنسانية للهجرة وتعزيز التعاون الدولي بشأن قضاياها والمساعدة في البحث عن حلول عملية لمشاكلها وتقديم المساعدة الإنسانية للمهاجرين المحتاجين واللاجئين والنازحين داخليًا.
يقرّ ميثاق المنظمة الدولية للهجرة بالصلة بين الهجرة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وكذلك الحق في حرية التنقل.
تعمل المنظمة الدولية للهجرة في إطار هذه المجالات الأربعة المتعلقة بإدارة الهجرة: الهجرة والتنمية – تسهيل الهجرة – تنظيم الهجرة- الهجرة القسرية. تشمل أنشطة المنظمة الدولية للهجرة التي تندرج في إطار المجالات الأربعة المذكورة أعلاه، تعزيز القانون الدولي للهجرة ومناقشة السياسات والتوجيهات وحماية حقوق المهاجرين بالإضافة إلى العمل في إطار الجوانب المتعلقة بالصحة والنوع الاجتماعي في مجال الهجرة. ويغطي الاتفاق الدولي بشأن الهجرة جميع أبعاد الهجرة الدولية بشكل شامل. كما يشكل أساسًا لتحسين الإدارة والفهم الدولي للهجرة، والتصدّي للتحدّيات المرتبطة بها اليوم، فضلًا عن تعزيز مساهمة المهاجرين في التنمية المستدامة[2].”
“لم نعشْ أبدًا في عالم من دون هجرة” في خطابه الذي ألقاه في الجلسة 108 للمنظمة الدولية للهجرة (نوفمبر / تشرين الثاني 2017)، تحت عنوان “لم نعشْ أبدًا في عالم من دون هجرة”، قال “ميروسلاف لايتشاك” الديبلوماسي السلوفاكي والرئيس السابق للجمعية العامة للأمم المتحدة: “الهجرة هي جزء من إنسانيتنا، ولن يكون من الممكن جعلها تختفي، كما أننا يجب ألّا نحاول ذلك. فهي أغنت مجتمعاتنا، وأتاحت للكتّاب والفنانين والموسيقيين وغيرهم، تطوير معارفهم وفنونهم. والهجرة شهدت علماء وباحثين يستكشفون آفاقًا جديدة، ويتبادلون الأفكار حول الاكتشافات والإبداعات، وهي أغنت وأثّرت في الثقافات واللغات، وحتى في فنون الطبخ.
وكوكبنا أصبح اليوم وطنًا لأعداد أكبر بكثير من البشر، وهذا يجعل من المحتمل أكثر أن يتنقل هؤلاء البشر ويهاجروا عبر العالم. وهناك تطوّر آخر أثّر في اتجاهات الهجرة، هو التكنولوجيا؛ إذ إن تكنولوجيا المعلوماتية والاتصالات تغيّر كل جانب من عملية الهجرة، من القرار بالانتقال إلى مكان آخر، وحتى الحياة في مجتمع جديد.[3]“
كل هذه العوامل مجتمعة كان لها الأثر الكبير في تأطير قضية الهجرة ضمن معايير قانونية، والتخفيف من وطأة النتائج المؤلمة النفسية والاجتماعية والاقتصادية الناجمة عنها، كما أنها أقامت مظلة واقية للأطراف المهاجرة والمستقبِلة، وأشاعت روح التسامح في المجتمعات، وخصوصًا ما يتعلق بمسألة اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين، التي لا زالت حتى يومنا هذا تكبّد الدول والأسر آلاف الضحايا والخسائر.
لا أزعم أبدًا أن كل هذه العوامل وغيرها، قادرة على أن تطفئ حرقة الشوق والحنين إلى الوطن، إلّا أنها بالتأكيد نجحت في التخفيف من لسعاتها المؤلمة عن طريق التواصل الدائم مع الأهل وسهولة زيارة الوطن مرّة أو مرتين في العام وقضاء الإجازات الطويلة لا سيما بالنسبة لكبار السنّ أو ما يعرف بالجيلين الأول والثاني من المهاجرين.
***الفصل الثاني***
بين الوطن والدولة
لا أرمي في هذا الفصل إلى تقزيم شأن الدولة والحكومة، إنما أقصد إعادة الاعتبار إلى مفهوم الوطن الذي أخشى أن تكون السياسة قد أغرقته بأنوائها العاتية، من جانب، ودفاعًا عن براءة الوطن الذي يحمّله البعض، وربما من غير قصد، تبعات ما أقترفته الحكومات من مآسٍ بحقوق شعوبها، وتحديدًا ما يخصّ العرب واللبنانيين، ودفعتهم قسرًا للبحث عن منافذ الخلاص في المهاجر والمغتربات، من جانب آخر. الوطن بالتعريف والمصطلح الجغرافي والسياسي هو الكيان الجغرافي، ماءً ويابسة، بحدوده المعترف بها دوليًا، والذي يحتضن شعبًا وتاريخًا وتراثًا، وله علمه ورمزه ونشيده وجيشه ونظامه السياسي ومؤسساته وسلطاته. والوطن بالتعريف الإنساني هو مسقط رأس المرء وصانع انتمائه وولائه وهُوياته ومخزن ذكرياته ومجال حياته ومآل رُفاته. الدولة تحمل في معناها التكويني حتمية المداولة والتغيير والتبديل، أما الوطن فهو ثابت مهما تغيّرت الدول وتبدّلت وتعاقبت في ما بينها. الوطن ليس الدولة، بل هو أبو الدول بسياسييها وسياساتها، الوطن مكانه في القلب والوجدان والضمير، فيما الدولة والسياسة هي خارج هذه المناطق الدافئة والحميمة. الوطن جوهر ثابت والدولة معاملات عابرة. تقول الحكمة السياسية: “لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك”، إنها حقيقة الحكم والدولة والسياسة. إنما الأوطان تتجاوز هذه الحكمة، لأنها تدوم وتتصل إلى الجميع، جيلًا بعد جيل، وعلى مدى آلاف السنين، لأنها تقوم على معادلة إنسانية خالصة بين التاريخ والجغرافيا والناس الذين يصنعون باستقرارهم، حضارتهم وتراثهم وثقافاتهم وقيمهم المشتركة. الوطن كامن داخلك، تحمله كما تحمل عمرك ودمك. أما الدولة، فهي خارجة عنك، هي طارئة عليك ولا تسكنك، لأنها فقط موكلة بحماية الوطن وأهله، ورعاية مصالحه ومصالحهم.
الدولة لا تمنحك هويتها، لكنها تمنحك هوية الوطن. الدولة لا تهبك الشعور بالفخر والاعتزاز والكبر، وإن فعلت فإلى حين، لكن الوطن هو الذي يفعل. الدولة لا تُدرج أصولك في سجلات المواطنية، إنما الوطن هو الذي يفعل، وتبقى دائمًا وأبدًا، وأينما حللت ورحلت، كنديًا من أصل لبناني، أو أميركيًا من أصل لبناني، أو سويديًا من أصل لبناني…الوطن هو الأصل والنسب. الدولة هي التي تغدق مزايا وألقاب الآلهة على رجالاتها، من صاحب الفخامة إلى صاحب الدولة والسيادة والعطوفة والزعامة، فيما الوطن يشرّف جميع أبنائه فيساويهم بإسم المواطن، ولا لقب فوقه أو دونه. الوطن لجميع أبنائه، حقوقًا وواجبات، وعلى رجال الدولة أن يطبّقوا هذا المبدأ بالقسطاس والعدل، وهنا هنا تحديدًا، مقتل الدولة أو نجاتها، فإن نجحت ارتفعت مع الوطن والمواطنين، وإن فشلت سقطت ورمت مواطنيها في أتون القهر والظلم وألجأتهم حتمًا إلى الهجرة أو اللجوء أو الانتحار في لجج التهجير غير الشرعي. عندما نتظلّم فإننا نرفع شكوانا ضدّ الدولة والحكومة والنظام وليس ضدّ الوطن. وعندما نحصد العاصفة فإننا نلعن من زرع الريح وليس الأرض التي أنبتتها. وعندما نبذل أرواحنا ودماءنا فداء في وجه الغزاة والمعتدين، فإننا نقدّمها بعزّة وفخر عربون وفاء وتضحية من أجل الوطن وليس من أجل الدولة والحكم. وعندما نبتعد فإن ما نعانيه من حرقة الشوق ولوعة الحنين يكون من أجل الوطن وليس من أجل الدولة والحكّام. وعندما نحاكم الخائنين والعملاء فلأنهم غدروا وخانوا وطنهم وليس الدولة أو الحكومة. وعندما نتغنّى بجيشنا فلأنهم حماة الوطن وحدوده وتاريخه وسيادته وليسوا جند الدولة، ومن خرج للقتال في غير هذه الأهداف يسجّل في خانات العملاء والمرتزقة. وعندما نصدح بالنشيد الوطني فإنما نعبّر عن اعتزازنا وفخرنا وولائنا لوطننا وعلمنا وليس للدولة. الوطن كبير وماجد مهما صغرت مساحته، والدولة تكبر أو تصغر بمساحة إنجازاتها للوطن. وقد تتشرذم الدولة ويتقاسم نفوذها كتل أو أحزاب، لكن الوطن واحد للجميع.
الوطن هو تلك التربة المتشقّقة اليابسة التي تحوّلت إلى كنوز من خصب وغلال وخير على أيدي الزارعين وعرقهم. وهو ذلك التراب الجاف الذي نُفخت فيه روح القدسية والطهر بعد أن أوى في أحضانه رُفات أحبابنا وأهلنا. هو تلك الجبال والسهول والأودية والقرى والمطارح الدافئة والعزيزة التي جمعتنا بالأهل والأصحاب والأصدقاء. الوطن هو كلّ ما فيك منه من عمر وتراث وهُويات. الوطن هو ذلك الرحم الذي تتحرّق للعودة إليه مهما طال غيابك.
***الفصل الثالث***
الاغتراب اللبناني
الشريان النازف
هي صرخة من قلب ملتاع تختصر رحلة الآلام التي عاشها ويعيشها الشعب اللبناني منذ مئات السنين. إنها صرخة الأم المفجوعة أمام أشلاء أبنائها التي تناثرت بانفجار مرفأ بيروت (آب/ أغسطس 2020)، مدوّية في سماء لبنان المحترقة بنيران الأمونيوم: “يا ربّ لماذا خلقتنا هنا؟!…” لم تكن هذه الصرخة الدامية الصاعدة من الأفئدة المكلومة، مستجدّة، إنما كانت صدى لملايين الحناجر الضاجّة بالأنين والآهات من عذابات عاشها اللبنانيون طوال قرون، أجابوا فيها على سؤال تلك الأم الحزينة، قائلين: إننا راحلون…راحلون حتى ولو كانت رحلتنا في طريق الجلجلة والموت، لأن موتنا مرة واحدة أرحم بكثير من موتنا كل يوم ونحن في أشداق الانفجارات والاغتيالات، والذل والفقر والظلم.
إذ تتحوّل الحياة في الوطن إلى محرقة لأبنائه ومقبرة لأحلامهم ووحش ضار يلتهم شباب الوطن وخيراته، يصبح عندها قرار الفرار من وجه البركان أمرًا مبرّرًا وشرعيًا. وأظنّ أنه عندما تنعدم الفرص لمواجهة نظام تحوّل إلى عدو لدود لأبناء الوطن، يصبح البقاء ضربًا من الجنون ورميًا للنفس في التهلكة. هكذا باختصار شديد يمكننا أن ننظر إلى مأساة الهجرة اللبنانية التاريخية المترافقة مع مراحل الأعمار. إنّها وبأبشع صورها القاتمة حكاية الشريان النازف في قلب لبنان.
قبل سبعين سنة وأكثر، تحدّث الشاعر والأديب اللبناني “فؤاد سليمان” عن غربتين. غربة الإنسان الذي ترك بلده سعياً وراء طموح “إلى غابات الزمرد والياقوت” حتى بات الناس في بلادي يقولون “بيننا وبين البحر تارات يا ولدي” لأن البحر فتح الباب لهجرة لا تنتهي ولخيبات لا تحصى، والغربة الثانية غربة الإنسان في وطنه “حيث لا يجد فيه رغيفًا يأكله وماء يشربه وقميصًا يلبسه. ماذا يفعل الإنسان في وطن تتنازعه الطوائف والأحزاب والعائلات، فلا يبقى للشعب غير التراب اليابس؟ ماذا يفعل الإنسان في وطن يبصق الدم فيه ليعلم أولاده، أو ليلبسهم حذاء في يوم عيد[4]“.
لا ننكر أبدًا أن أجدادنا الفينيقيين جابوا الأرض وغامروا بركوب البحار وأسسوا الممالك والمدن ونشروا الأبجدية ونور المعرفة. لكنهم فعلوا مغامرين طامحين للتنوير والاكتشاف ولم يهاجروا مدفوعين تحت وطأة الظلم أو القهر أو العوز، كانوا يخوضون المحيطات وهم يحملون كرامتهم وفخارهم وكبرياءهم في تمدين الدنيا. أما حكاية الهجرة اللبنانية الطويلة، مع ما فيها من إنكسارات وآلام وأحزان وشقاء، ومن نجاحات وشموخ وإنجازات، فإنها لم تكن أبدًا وليدة الإرث الجيني الموروث من الأجداد، ولم تكن أبدًا رغبة في المغامرة، إنما كانت في أكثريتها، خشبة نجاة وخلاص وبحثًا عن كرامة مفقودة وغد آمن وعيش كريم. ودليلنا في ذلك، أن موجات الهجرة اللبنانية كانت عاتية ومتزامنة مع كل مراحل الأزمات والاضطرابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أحاقت بالوطن، بينما انخفضت نسبتها بشكل ملحوظ خلال فترات الاستقرار النادرة جدًا. ولو كانت قضية الهجرة اللبنانية مرتبطة بنزعة المغامرة المتوارثة من الأجداد لبقيت على الأقلّ محافظة على وتيرة مستقيمة وضمن أهداف ودوافع محدّدة.
وصف المؤرّخ اللبناني فيليب حتي، البدايات الأولى للاغتراب اللبناني في “كتابه لبنان في التاريخ[5]” قائلًا: “كان معظم الرواد المهاجرين أناسًا فقراء معدمين أميين يجهلون لغة البلاد التي كانوا يأتونها، وكانوا يلاقون ضروبًا من الشقاء، ويكابدون أنواعًا من شظف العيش، وكان الواحد منهم يحمل صندوقًا خشبيًا صغيرًا فيه طرائف وبضائع من البلاد المقدّسة وقطع قماش مطرّزة، وقد يصبح أحد هؤلاء الباعة المتجوّلين بعد حين تاجرًا يستورد ويورّد وينشئ المكاتب الكبرى في مختلف القارات.” وقال میشال شیحا، أحد واضعي دستور لبنان (1926)، عن الواقع اللبناني: “بدون ھجرة لا یمكننا الحیاة، لكن إذا أضحت الھجرة كبیرة فیمكن عندها أن نموت[6]“!
مواسم الهجرة الاغترابية “يصعب علينا ونحن تتأمل خريطة الانتشار اللبناني في العالم أن نجد بلدًا لم تطأه قدم مغترب لبناني في قارات العالم الخمس.[7]” لن أستغرق طويلاً في سرد أحداث هذه الحكاية، وسأكتفي ببعض المحطات وبعض الأرقام لتبيان حقيقة هذا الواقع الأليم الذي يكابده اللبنانيون منذ مئات السنين. تبدأ الحكاية من نهايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتتوالى فصولها وأحداثها وشخصياتها وعقدها دون أن نتلمّس نهاية لها حتى لحظة كتابة هذه السطور. تشير أحدث الاحصاءات إلى أن أعداد اللبنانيين المنتشرين في العالم تزيد عن 12 مليونًا، أي ما يوازي أكثر من ثلاثة أضعاف عدد سكان لبنان الحاليين. انطلقت قوافل الهجرة بعد الفتن الطائفية (1840 و1860) في لبنان، وفي عهد المتصرّفية، وتتابعت صعودًا وهبوطًا في زمن المجاعة (1914) وخلال عهود الانتداب والحربين الأولى والثانية والحرب الأهلية (1975 – 1990)، وحرب تموز 2006 وما تلاها من أزمات حكومية وسياسية واقتصادية وضائقة معيشية وفساد وبطالة وصولًا إلى انفجار مرفأ بيروت والأزمة الحالية المهيمنة على البلاد حتى اليوم. وفي متابعة لملف المهاجرين اللبنانيين، صنفت مجلة الشؤون الخارجية الأميركية لبنان منذ العام 2011 في دائرة “التحذير العالي جدًا[8]“. فالهجرة الخارجية تعد القضية الاجتماعية الأكثر بروزًا في المجتمع اللبناني، بعد أن “احتلّ لبنان المرتبة الأولى عالميًا في كثافة مهاجريه مقارنة بعدد سكانه.[9]“
***الفصل الرابع***
وطن الغربة
عندما قرات عنوان المؤتمر “وطن الغربة” راودني سؤال ذو شقين: هل يمكن للغربة أن تكون وطنًا؟ وهل يستطيع الإنسان أن يجعل لوطنه شريكًا آخر؟
سوف أحاول الإجابة على هذا السؤال بواقعية ومنطق كي أنزع عنه صفة الالتباس المحيطة به، متكئًا على تجربة اغترابية شخصية شملت أربعة أوطان، لا زال الحب والاحترام والتقديرعامرًا لها في قلبي وفكري. كانت أولى هذه التجارب في دولة الكويت للعمل والتي قضيت بها حوالي عشرين عامًا، وكانت الثانية في العاصمة البلجيكية بروكسيل للدراسة وإنجاز رسالة الدكتوراه ودامت نحوًا من سنتين، وكانت الثالثة في فريتاون عاصمة سيراليون الإفريقية للعمل أيضًا واستمرت حوالي سنتين، أما الرابعة فهي التي أقضيها عملًا واستقرارًا في كندا والتي سيأتي الحديث عنها لاحقًا. كل هذه الغربات لم تكن حبًا بالمغامرة، إنما كانت بحثًا عن حقّ وحلم وفرصة، ضاعت جميعها في وطني، وتعمّق ضياعها عامًا بعد عام، ما أفقدني الأمل بتحقيقها. وكلّ هذه الغربات لم تنزع مني حبي وحنيني لوطني، كما أنني لم أجد غضاضة ولا حرجًا ولا انفصامًا، في حبي وتعلقي وحنيني إلى جميع هذه الأوطان التي زرعتُ فيها بعض عمري ونجاحاتي. كل ما يجمعني بهذه الأوطان هو الحب والتقدير والوفاء، على حدّ قول شاعرنا “سعيد عقل”:
“ليس أرضًا ولا جبالًا وماء وطني الحبّ وليس في الحب حقد.”
في حياتنا كل موقع نجد فيه طعم سعادة يحتلّ ركنًا دافئًا في نفوسنا. وكل شخص نجتمع به ونلقى معه الودّ والمسرّة ومتعة الحوار والتثاقف يخصّص لنفسه مكانًا حميمًا لدينا. وكل حدث يحمل إلينا أملًا ووعدًا وسلامًا نفرد له حيّزا عزيزًا في قلوبنا. فإذا اجتمعت كل هذه العوامل معًا، في المواقع والأحداث والشخوص، يتكوّن وطن حميم بمعنى من المعاني. هكذا تشكّل وطننا الأصلي، وهكذا تتشكّل أوطان الغربة فينا، فلا عجب بعد ذلك من أن تتشارك في الحب أوطان عدة. إن المصطلح المعروف بـ”وطن الغربة”، قد لا يعبّر عن ماضيك ومكوّناتك الأصلية وقسمات ملامحك، لكنه بالتأكيد ينسجم ويتطابق مع الرغبات والطموحات التي استعصى تحقيقها في وطنك الأم، فتجلّت بين يديك في المجتمع الاغترابي الجديد الذي اخترته وطنًا ومستقرًا لك ولأسرتك. فالوطن هو الذي يصنع هوياتك الأولى وهذه حقيقة واضحة، ولكن يمكنك بما تمتّعت به من حقوق ومكاسب، وبما أنجزت وبما اندمجت وانخرطت فيه، أن تغني هذه الهويات بشريك لوطنك. ما أعنيه هنا بالتحديد هو أن هذا الوطن الجديد دخل علينا – نحن الجيل الأول – شريكًا من باب القانون والهجرة، لكنه بالتأكيد سيحلّ وطنًا أصيلًا لدى أبنائنا وأحفادنا، لا مجال فيه لترسّبات العمر ومتداخلات ماضوية تشاركه وتنازعه مشاعر الانتماء. حين أتحّدث عن الشراكة الروحية الوطنية، لا أبخس بهذه الصفة حقّ الوطن الاغترابي الجديد الذي استقبلنا بزهو وترحاب، وحضننا وآمننا من خوف وقلق ومرض، ومنحنا جنسيته الرفيعة، ووفّر لنا كرامة العيش ورغده، وأعاد إلينا الحقوق التي حُرمنا منها في أوطاننا الأم، وهيّأ لأبنائنا فرص التعلّم والتفوّق، وغرس في نفوسنا شعور السلام والأمان والاطمئنان على شيخوختنا. إن وفاءنا الوطني تجاه أوطاننا هو جزء أصيل وثابت من شعورنا بالوفاء والانتماء إلى وطن آخر. وهذه العلاقة وهذا الحنين هما من مزايا الوفاء الذي نكنّه ونظهره نحو وطن الاغتراب. وهذا الشعور الوطني الدفين في أعماقنا سيكون مثيله في أعماق قلوب أبنائنا لوطنهم الأصلي الذي اعتبرناه جديدًا نحن – الجيلين الأولين – وهو نفسه الذي سيتولّد في نفوس أبنائنا من غير مشاركة. وكيف لنا أن نتردّد لحظة في الانتماء إلى وطن الغربة بعد أن انتقل الوطن بأجمعه إلى هذا المجتمع المهجري المؤسس على المهاجرين، عربًا أو هنودًا أو إفريقيين أو باكستانيين أو إيرانيين أو …؟ إذ يتسنى لأي مهاجر ومن أي أصل أو عرق، أن يجد من أبناء جلدته طبيبًا، أو ممرضًا في المستشفى، أو وسيطًا عقاريًا، أو موظفًا في مصرف أو في أي دائرة رسمية أو خاصة، أو أي محل تجاري، أو في أي قطاع من قطاعات الخدمات العامة، أو أن يجد مطعمًا أو مقهى، أو جارًا أو أصدقاء، أو نائبًا أو وزيرًا أو رئيس بلدية أو مستشارًا أو محاميًا أو كاتبًا في العدل أو ميكانيكيًا…وحتى أن يقضي سهرة سعيدة مع أحد المطربين من بلاده، أو يشهد ويشارك في مهرجان سنوي أو احتفال رسمي أو اجتماعي لأبناء جاليته. وطن الغربة قد لا يكون المدينة الفاضلة المنشودة لكنه بالتأكيد أفضل من دولة الوطن التي ألجأتك للاغتراب. فالوطن ليس أرضًا وترابًا وعَلَمًا ونشيدًا وأهلًا وصحابًا وذكريات فحسب، صحيح أنه كل هذه العناصر، لكنه أيضًا وقبل كل ذلك، هو كرامة المواطن كإنسان وحقّه الطبيعي والأساسي في العيش الكريم حاضرًا ومستقبلًا. وإن تكريم المرء لا يكون في دفنه بعد موته في تراب وطنه، إنما في تكريمه كمواطن جدير أثناء حياته. والسؤال الذي أرى وجوب طرحه ها هنا ليس عن حقيقة وجود “وطن الغربة”، إنما عن كيفية تشيكله ومدى نجاحنا في هذه التجربة. وهذا ما سوف نفصّله في الفصول اللاحقة.
***الفصل الخامس***
وطن الغربة: شؤون وإنجازات
1- وطن الغربة: شؤون
الحديث عن الشؤون في وطن الغربة، وتحديدًا في العالم الغربي، ذو هموم وشجون، لاسيما لأمثالنا القادمين من دول العالم الثالث كما يصنّفوننا.
من المؤكد أن الهجرة الحديثة التي خضنا غمارها، ربما تتلاقى مع الهجرات القديمة بالدوافع والأهداف، لكنها لا تشبهها بشيء من حيث الأسلوب وآلية التنفيذ.
هجرتنا لم تكن ضربًا في المجهول نترك فيه مصيرنا بين يدي القدر. بل أضحت، بفضل التطوّرات التي طالت هذا القطاع الإنساني الحيوي، والتي تحدّثنا عنها في الفصل الأول من هذا البحث، أمرًا منظّمًا بين المهاجر والدولة التي قبلت طلب هجرته. فهو يدرك تمامًا مآل رحلته، والدولة المضيفة تعلم عنه الكثير الكثير من تفاصيل سيرته الذاتية والعملية، كما تعرف أكثر وأكثر عن طبيعة بلاده وثقافته ونظامه.
ومع ما تقوم به الدول المستقبِلة من جهود بنّاءة وترتيبات ولقاءات وتعليمات توجيهية وإرشادية للمهاجرين قبل وصولهم إليها، إلا أن ذلك،على الرغم من ضرورته وجدواه، يبقى غير كاف لوضع المهاجر، واقعيًا وحسّيًا، أمام التحدّيات والمفاجآت والمستجدّات غير المتوقعة التي تنتظره في حياته الجديدة.
في اختيار الهجرة إلى الغرب فإن الفوارق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تبدو بارزة إلى حدّ المواجهات القاسية بين الموروث التاريخي العام في جميع أبعاده، الذي يكون المهاجر معبأً ومشحونًا فيه، وبين ما سيواجهه من اختلافات جذرية في مجتمعه الجديد.
فقد أتينا متخمين بكمّ ثقيل من الموروثات، منها ما هو إيجابي صالح ومقبول، ومنها الكثير مما هو مشوّه وغريب ومرفوض.
اختلافات عميقة على مختلف الصعد والمستويات وفي مختلف التقاليد والعادات، كما في مختلف مظاهر السلوك والتصرّفات وطرق التعامل والتعاطي مع الآخر ومع الأجهزة الإدارية وسائر الدوائر المنظّمة للحياة، بدءًا من المدرسة ونظام والتعليم، مرورًا بحقوق المرأة والطفل ونظام العمل ونظام السير ونظام العلاقة مع المؤسسات، وانتهاء بالقوانين المرعية في السياسة والاقتصاد.
هذه الأجواء الغريبة لا بدّ أن تشكّل لنا صدمة قوية في الأشهر الأولى لإقامتنا في بلاد الاغتراب، وقد تكون عنيفة ومحبطة عند الكثيرين، لكنها لا تلبث أن تفقد قساوتها شيئًا فشيئًا مع توالي الأيام، وبفضل الاحتضان الحار الذي توليه مؤسسات الدولة للمهاجرين الجدد وسياستها وبرامجها الفاعلة في عملية إدماج المهاجرين في البيئة الجديدة، وإدراكها العميق لما يتعرّضون له من صعوبات وضغوط نفسية وأسرية مرهقة.
لن أدخل طويلًا في مجال التحليلات النفسية والاجتماعية، ونظريات منشأ الصراعات الديموغرافية الاجتماعية وأزمة الهوية الثقافية للمهاجر، فهذا ما يستوجب بحثًا قائمًا بذاته، ولكن سأكتفي بإيراد أبرز هذه التحدّيات والتي تشكّل عاملًا مشتركًا ومصدرًا أساسيًا للتوتر.
أولى هذه المواجهات التي سوف يتعرّض لها المهاجر الجديد هي موضوع اللغة التي تعتبر المفتاح الأهم والأساس للتواصل مع عالمه الجديد، ومن غير امتلاك هذا المفتاح لا يمكننا الدخول والتعايش.
أما مسائل الثقافات والمعتقدات والعادات والممارسات والسلوكات العامة، فحدّث عنها ولا حرج، فهي مصدر من مصادر المصادمات اليومية الدائمة سواء ما يتعلق منها في موضوع النظام العام أو الحريات والحقوق وتربية الأطفال وعلاقتك مع الجيران ومع دوائر الخدمات وأدبياتك في المجمّعات التجارية ووسائل المواصلات العامة وقيادتك على الطرقات وأسلوب تعاملك مع المؤسسات الرسمية.
ولعلّ من أكثر التحدّيات صعوبة هي مسألة تربية الأطفال في المنازل وتدّخل السلطات في هذا الشأن الذي كنا ننظر إليه على أنه مسألة خصوصية داخل الأسرة ما بين الزوجين وأبنائهما.
وكل هذه الشؤون تبقى قابلة للتأقلم والتكيّف معها بصورة أو بأخرى، ولكن ما يعتبر أشدّ تعقيدًا واستعصاء على القبول وما يشكّل صراعًا نفسيًا وعصبيًا حادًا هي تلك المسائل المتعلقة بموضوع الطلاق الشائع بين الأزواج، والمساكنة غير الشرعية بين الرجل والمرأة، وحرية تغيير الجنس والزواج المثلي وتأجير الأرحام والإجهاض، وشرعنة تعاطي المخدّرات وإباحتها في الأسواق ولدى الشباب، وكل ما يمكن أن يدخل تحت تهم التحرّش والتنمّر والتمييز والعنصرية وغيرها.
وإذ نستعرض هذه الأسباب الداعية إلى القلق والتوتر أحيانا، علينا ألّا ننسى أبدًا، أن الدولة، بمؤسساتها وبرامجها وخططها المواكبة لكل أوضاع مجتمعها القائم على هؤلاء المهاجرين، حاضرة باستمرار لمساعدتهم في تجاوز هذه العقبات وتسهيل عمليات اندماجهم الإيجابي بها والتكيّف معها بسلاسة وتدرّج، فكل ما يحتاجه المواطن من معاملات مع الدوائر الرسمية، وكل ما له من حقوق وما عليه من واجبات، وكل ما يستجدّ من أنظمة وقوانين وتعليمات، موجود في صندوقه البريدي أمام منزله أو في مركز البريد المجاور له أو إلكترونيًا عبر الوسائل التقنية المتوفرة بسهولة.
2- وطن الغربة: إنجازات
ما يدعو إلى الارتياح وهدأة البال هو أنه بقدر ما تطول لائحة الشؤون والشجون في دنيا الاغتراب بقدر ما تبدو ضئيلة وعابرة أمام السجّل الحافل بالإنجازات الشخصية الذاتية المتعلقة بأمور العادات والسلوك ومراعاة القواعد العامة والتأهيل الثقافي والاجتماعي، أو العائدة إلى النجاحات والإنجازات المحقّقة على صعيد الأعمال والطموحات.
منذ اللحظة التي تطأ فيها أرض وطنك الجديد تحيطك حفاوة حارة من قبل الموظفين المكلّفين باستقبالك وإنهاء أوراقك، لاسيما ذلك الاهتمام البالغ بالأطفال والأولاد.
وسرعان ما تنتهي هذه الإجراءات ليخاطبك المسؤول قائلًا: أهلًا بكم في وطنكم الثاني (كندا)، لن تنتظروا طويلًا فخلال أيام معدودات سوف تصلكم على بريد إقامتكم بطاقات إقامتكم الدائمة وتأمينكم الصحي ورقم ضمانكم الاجتماعي.
أجل، كل ذلك يتمّ في فترة وجيزة، من غير استجوابات ولا مراجعات متكرّرة من مكتب إلى مكتب ومن غير حمل الأوراق والانتقال بها للتوقيع من هذا المسؤول أو ذاك، ومن غير استعطاف واستذلال ورشاوى ولا حتى في عناء البحث عن الطوابع الأميرية!…
وهذا أول إنجاز تشعر بتحقيقه حيث استعدت قيمتك الإنسانية وكرامتك واهتمام الدولة بك كونك عنصرًا هامًا من العناصر المساهمة في خطط تنميتها وليس عالة وعبئًا على موظفيها ومؤسساتها.
ما أن تستقرّ بك أمور السكن حتى تنهال عليك اهتمامات الدولة ومتابعاتها الحثيثة من أجل تأمين حقوقك الكاملة، بدءًا بالمساعدات المالية العائلية للأطفال، مرورًا بإرشادك إلى مدارس أبنائك المجاورة لسكنك، ومراكز التأهيل اللغوي، ومتابعتك للحصول على المساعدات الاجتماعية ريثما يتمّ عثورك على فرصة عمل مؤقتة أو دائمة تتناسب مع كفاءاتك وخبراتك عن طريق محاولاتك الخاصة أو بوسطة المكاتب الرسمية المولجة بذلك.
كل ذلك يجري بسلاسة وتنظيم واحترام وسرعة، من غير الوقوع في دهاليز الروتين الإداري العفن والمنتهِك لكرامتك وحقّك الطبيعي. ومن أجل إشعارك بالاستقرار والتخفيف من معاناتك في غربتك.
أذكر ذلك ولا أبالغ في المقارنات والتداعيات التي تراودك أثناء كل هذه الأحداث، للتأكيد على إنجاز آخر يعيد إليك ثقتك بذاتك وقدراتك ودورك في المجتمع كإنسان فاعل وطموح، وللتأكيد أيضًا كيف نترجم عمليًا وواقعيًا الشعار المرفوع أن الدولة وموظفيها هم حقًا في خدمة المواطن الذي يتولّى دفع رواتبهم من ضرائبه.
وعبر كل هذه التحرّكات والنشاطات تجد نفسك، ومن غير عناء ولا إرغام، وكأنك عدت تلميذًا سعيدًا إلى مدرسة حديثة راقية تنفض عنك ما علق بك من عادات وسلوكات فوضوية مشوّهة، لتزرع فيك روح الحرية وروح الاعتدال والتسامح وروح الإبداع والمواطنة الحقة.
فتزهر فيك من جديد قيم ومفاهيم تعلي من شأنك وتنعكس على علاقتك مع الآخرين أفرادًا وجماعات ومؤسسات. فتتعلّم كيف تسامح وكيف تتقبّل آراء الآخرين وثقافتهم وكيف تحترم النظام وكيف تتخلّى عن أحكامك وتقييماتك المسبقة. وهذا ما سوف نفصّله في الفصل الخاص بموضوع التنوّع والتعدّدية الثقافية.
وسرعان ما يجد المهاجر نفسه متكيّفًا ومنسجمًا مع الأجواء العامة المحيطة به ومن غير أن يتخلى عن تراثه وتقاليده التي تحرص الدولة نفسها على الحضّ المستمر للحفاظ عليها.
وإذا كانت هذه المكتسبات والمحصّلات الذاتية والشخصية من أولويات ما ينجزه المهاجر باعتبارها عاملًا أساسًا في استقراره وأمانه النفسي والمادي، وحجر الزاوية الذي سيرتفع عليه بعد ذلك بناء إنجازاته ونجاحاته، فلا نعجب بعدها أن نقع كل يوم على اسم جديد من أبناء وطننا، كما هي حال المهاجرين الآخرين، يبرز ويسطع ويتفوّق في سماء البلاد الجديدة. ويكفي أن تلقي نظرة سريعة على مختلف المواقع لتدهشك المنجزات الرائعة التي حقّقها المهاجرون في وطن الغربة.
ابحث في أي شأن، صغيرًا كان أو كبيرًا، وفتّش في أي قطاع أو ميدان فسوف تعثر على الكثيرين ممن نبغوا وبرعوا وتميّزوا وأضافوا لمزايا أوطانهم الجديدة.
على الصعيد المالي والتجاري، في المجال الأكاديمي الجامعي والبحوث والعلماء والأطباء، في الكتّاب والشعراء، في فنون الرياضة والرسم والتمثيل والموسيقى، في رجال الأعمال، في السياسة والأحزاب ومجلسي النواب والشيوخ، في البلديات وقصور العدل والمحاماة، في الصحافة والإعلام….
آلاف وآلاف من المبدعين الباهرين ترصّع أسماؤهم عالم التميّز وتلمع بصماتهم في تطوير وتنمية وبناء وطنهم الجديد، وكانوا موضع تقدير وتكريم عاليين من قبل المسؤولين في كل مناسبة خاصة أو عامة.
ولكم تشعر بفخر واعتزاز وأنت تتأمّل أسماء الشوارع والمناطق التي تحمل اسم وطنك أو أحد رموزه الخالدين (شارع لبنان – شارع جبران خليل جبران – شارع الأرز…).
وإذا سألنا يومًا كيف ولماذا نجح هؤلاء في وطن الغربة؟ فلا تصعب الإجابة الفورية أن ذلك كان بسبب الاستقرار النفسي والاطمئنان أولًا، وثانيًا بسبب الحوافز والفرص التي أتيحت لهم دون الالتفات والاحتكام إلى انتماءاتهم.
فلذا حقّ لشاعرنا سعيد عقل أن يقول:
“ومن الموطن الصغير نرود الأرض نذري في كل شطّ قرانا نتحدّى الدنيا شعوبًا وأمصارًا ونبني أنّا نشأ، لبنانا.”
3- المغترب والوطن الأمّ
“أسألكم أن تذكروا على الدوام أن هناك على شاطيء البحر المتوسط وطنًا لنا يستحق أن يكون من خيرة أوطان الناس، وأن في إمكانكم أن تساعدوا ليكون كذلك[10]“. بهذه العبارات أشار أمين الريحاني الى أهمية لبنان الوطن في عالم المهجر. ومن هنا أرى أن إنجازات المغتربين على الصعيدين الشخصي والعملي، لم تكتفِ بذاتها إنما امتدت ويجب أن تبقى ممتدة أيضًا لتشمل أوطانهم الأم وبخاصة عند الملمّات والشدائد. فقد أبلى المغتربون بلاء حسنًا في توسيع رقعة الوطن الجغرافية وتوثيق عرى الصداقة مع بلاد الانتشار، فحملوا صوت لبنان إلى مواقع القرار في مغترباتهم، كما أفلحوا في حشد الجهود لحضّ حكوماتهم على مدّ لبنان بكل المساعدات المالية والاقتصادية والطبية والعلمية والاجتماعية كلّما نزلت بالوطن نازلة ملحّة. أضف إلى ذلك ما قام به المغتربون أنفسهم في تضافر جهودهم لرفد وطنهم وأهلهم بكل ما أمكن من مساعدات عينية ومادية على غرار ما شهدناه من خطوط متواصلة لهذه المساعدات إبّان الحرب الأهلية وخلال حرب تموز 2006 وإثر انفجار مرفأ بيروت، وهذا ما يمكن أن يشكّل أبهى وأجلى إنجازات المغترب تجاه وطنه وأهله. وإذ نشيد بكل هذه المبادرات علينا أن نذكّر أنفسنا بالسعي المستمر لنقل ما كسبناه في أوطاننا الجديدة من معارف وقيم وعادات وثقافات جديدة إلى أهلنا، وأن نحاول ما أمكننا أن نزرع فيهم روح المواطنية واحترام الأنظمة وتثبيت مفاهيم الحقوق والواجبات والحريات والديموقراطية لاسيما في أزمنة الاستحقاقات الانتخابية، وأن ننقل لهم عمليًا حصاد تجربتنا في التسامح والاعتدال وقبول الآخر لتثبيت أركان العيش المشترك، ومحاولة إنقاذهم وإنقاذ الوطن من الزلازل المتعاقبة التي تضربه وتهدّد كيانه بسبب التناحر المذهبي والطائفي البغيض.
***الفصل السادس***
حصن التنوّع والتعدّدية الثقافية
1- التنوّع سنّة الحياة:
كلّ ما في الحياة وكلّ ما في الطبيعة وكلّ ما في الكائنات الحيّة يقوم ويتّسم بالتنوّع والاختلاف. إنها سنّة الكون وطبيعته التكاملية في ما بين عناصره كي لا تعتصره الرتابة والتحجّر والسأم، وتسوده نزعات التطرّف والهيمنة والإقصاء والإلغاء والاستئثار. هم البشر متنوّعون في الجنس واللسان واللون والانتماء والشرائع وطرق الحياة والعادات والأعراف والميول والمهارات، إلى التنوّع في الفصول والمناخات والمناظر والمحاصيل… التنوّع سمة من سمات العقل الباحث عن الحقيقة. والتنوّع الإنساني هو تثبيت للحقيقة أنه لا يوجد إنسان مهما أوتي من قدرات يمكنه أن يمتلك أو يحتكر الحكمة كاملة، لو كان ذلك كذلك لاختفت فكرة المجتمع، ولأصبح كل فرد دولة أو أمة بمفرده.
2- التعدّدية الثقافية:
تؤكد التعدّدية في فلسفتها أن هناك عدة أنواع من الواقع والحقيقة مع ضرورة قبول الأنماط الثقافيّة والجنسية والعرقية والدينية القائمة بين مختلف الجماعات الإنسانية. التعدّدية الثقافية تعبّر عن الجماعات الصغيرة التي تعيش ضمن مجتمع أكبر وتحتفظ بهويّاتها الثقافية، وقيمها وممارساتها، حيث يتمّ تقبّل هذه الممارسات والقيم من قبل الثقافة السائدة.
3- التثاقف:
يعني تبادل الثَّقافة مع الآخر بصورة متكافئة بعيدًا عن التبعيّة. ويشير مفهوم التثاقف أو التلاقح الثقافي إلى اقتباس بعض السمات الثقافية، أو الأنماط الاجتماعية من ثقافة أخرى. التثاقف هو عملية يستطيع من خلالها شخص أو مجموعة، من ثقافة واحدة، تبنّي ممارسات وقيم ثقافة أخرى، مع الاحتفاظ بثقافتهم الخاصة. التثاقف ليس عملية استيعاب، بل هو عملية تواصل ثقافي وتبادل وإغناء معرفي وسلوكي. وهو أمر شائع ومطلوب بين السكان المهاجرين الذين يسعون إلى الاندماج في نسيج المجتمع القائم.
4- لماذا كندا نموذجًا؟
في موضوع “التنوّع والتعدّدية الثقافية”، أشير إلى أمرين اثنين من شأنهما أن يساهما في إنجاح عملية تكيّفنا مع الواقع المهجري الجديد، وفي حمايتنا من الوقوع في شرك المعاناة من عزلة اغترابية أظنّها أقسى وأفدح من عزلتنا في وطننا الأم التي كانت وراء قرار هجرتنا. وهذان الأمران هما أولًا: اعتبار كندا أنموذجًا في هذا المجال. وثانيًا اعتبار ميزة “التنوّع والتعدّدية” حصنًا واقيًا لنا.
في الاعتبار الأول، تُصنّف كندا من بين أولى الدول في العالم التي أصبحت مقصدًا للمهاجرين لأسباب عديدة أهمّها ما أتينا على ذكره من مزايا سياسية وإدارية وتعليمية واقتصادية في الفصول السابقة، ما يوفّر للقادمين الأمن والأمان وفرص العيش الكريم. ونضيف الآن لأن المجتمع الكندي يوصف أنه متنوّع ومتعدّد الثقافات، وأن كندا تعتبر بحقّ أنموذجًا لأمة المهاجرين العالميين التي تجمع على أرضها خليطًا من الجنسيات والأعراق والأصول، حتى لتبدو وكأنها قرية عالمية واسعة، حقّقت نجاحًا مضطردًا في رسم وتطبيق سياسات وبرامج التوافق والتقارب والتسامح والوئام بين مكوّنات هذه الأقليات الثقافية على اختلاف عاداتها وتقاليدها ومعتقداتها الإثنية، بأسلوب علمي حضاري، يحقّق التثاقف والتلاقح والتبادل من غير تذويب أو تغييب أو تخلّ عن الهوية والتراث. إن سياسات الهجرة الشاملة تسمح لكندا بالاستمرار في النمو والازدهار، وباختصار فإنه بدون هجرة، لن تكون كندا الدولة القوية كما هي اليوم. أولًا لانخفاض أعداد السكان، وثانيًا لضخامة مساحة كندا والحاجة إلى إعمارها، (تغطي كندا حوالي 10 ملايين كيلومتر مربع من المساحة العالمية، ما يجعلها ثاني أكبر دولة في العالم)، وثالثًا من أجل تحقيق سياسة وأهداف التنمية الشاملة والمستدامة فيها. صديقة المهاجرين : واحدة من أبرز مميزات الهجرة إلى كندا هي أنها صديقة للمهاجرين، ما يجعل التنوّع في كندا عاملًا هامًا من عوامل استقرار المهاجرين لأنه يلعب دورًا حيويًا في تشكيل مواقف التسامح.
كشف مؤشر ليغاتوم العالمي للرخاء (2016) أن كندا تحتل المرتبة الثالثة من بين 148 دولة في المؤشر الفرعي لرأس المال الاجتماعي، وفي المرتبة الثانية عالميًا من حيث الحرية الشخصية التي تقيس التقدم الوطني نحو الحقوق القانونية الأساسية والحريات الفردية والتسامح الاجتماعي[11]، وهذه الحقيقة واحدة من أهم مزايا الهجرة إلى دولة تحرص على الاعتراف بالحقوق والحريّات الفرديّة وممارستها، وتكافح التمييز وتطبّق قانون المساواة بين المواطنين وتؤمّن حمايتهم من الاضطهاد على أساس العرق أو الدين أو الجنسيّة أو بسبب الأفكار السياسية أو الانتماء إلى مجموعة معيّنة.
وفي الاعتبار الثاني، كان إصراري على تسمية “تجربة” التعدّدية الثقافية” بالحصن الأمين لأن اصطدامنا بهذا الواقع الجديد، سوف يشكّل لنا تجربة حقيقية نخوضها بكل ما أوتينا من قدرات ومعارف سابقة لنستطيع أن نتقبّلها أولًا، ثم ننخرط بها ثانيًا، ثم نتعايش معها ثالثًا، دون أن نمسح أو نذيب ما عندنا من إيجابيات في ثقافتنا. ولو استطعنا أن نخوض التجربة بنجاح وبلا عقد نقص، وأن نحوّل إقامتنا إلى ما يشبه ميدان تفاعل إيجابي، لتمكّنا بذلك من أن نجعل من غربتنا مجتمعًا وطنيًا (بمعنى وطن الغربة). وأعني أن نعيش التجربة التي أخترنا خوضها بكل شجاعة وعزم وأن نتفاعل ونعيش تطوّرات المجتمع وقضاياه وأن نمارس حقوقنا التي عزفنا عنها في أوطاننا، وأن نشارك بكل فعالية في كل تجليات المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تدور أحداثه في مجتمعنا الجديد خاصة ما يتعلق منها بجالياتنا العربية واللبنانية.
في المدارس الألمانية ثمّة رسالة من خمسين قاعدة يدرّسونها للطلاب عن فنّ قبول الاختلاف والتعايش الإيجابي بين البشر، ومنها:
أنا لستُ أنت – ليس شرطًا أن تقتنع بما اقتنع به – معرفة الناس للتعايش معهم لا لتغييرهم – اختلاف أنماط الناس إيجابي وتكاملي – لا تتصيّد عثراتي – ساعدني لكي أفهم وجهة نظرك – اختلاف الألوان يُعطي جمالًا للّوحة – أنت جزء من كُلّ في منظومة الحياة- ابنك ليس أنت وزمانه ليس زمانك – لو أن الناس بفكر واحد لقتل الإبداع – أنا عاجز من دونك – أنا لا أرى وجهي لكنك أنت تراه – الحياة تتسع لي أنا وأنت وغيرنا -تكسيرك لمجاديف غيرك لايزيد أبدًا من سرعة قاربك.
فهل نقتنع بإدخالها في برامجنا التعليمية؟
ماذا لو لم ننجح؟
ماذا لو لم يتمّ خوض تجربة العيش تحت مناخ التعدّدية والتنوّع بنجاح؟ وأخصّ بالحديث هنا الجيلين الأول والثاني؟
من المؤكّد أن الخسائر ستكون جسيمة في هذه الحال. سنبقى نعاني ألم الغربة ومشقّاتها كما كنّا نعانيها في أوطاننا. وسنعيش غربتين قاسيتين غربة روحية عن الوطن وغربة اجتماعية في وطن المهجر ونكون “كالمستجير من الرمضاء بالنار”. وتقبّل التعدّدية هو اللقاح الواقي لنا من هذه المعاناة الجديدة، وإلّا سنبقى غرباء معذبين ولن ننجح في خلق وطننا البديل والتمتّع بطعم “الوطن في الغربة”.
خلاصة في كلمات:
أمام ما يشهده العالم من تحوّلات جيوسياسية واقتصادية، وسيادة نظام عالمي جديد. وأمام الطفرات الهائلة في موضوع الهجرات وتعدّد الهويات وتمازج الشعوب والثقافات، فهل نستيقظ يومًا لنجد أنفسنا أمام نظام جديد للجنسية العالمية أو الجواز العالمي أو الهوية العالمية، التي فشلت محاولات منظمة “سلطة خدمة العالم” في تعميمها، وعلى غرار ما يتمّ الترويج له من ابتكار عملة عالمية موحّدة تحت مسمّى “فينيكس” أو”بيتكوين”، أو لغة عالمية يتحدّث بها جميع شعوب العالم والمعروفة باسم “الإسبرانتو”؟ وهل نجد أنفسنا في عالم تتداخل فيه الجغرافيا مع التاريخ والاقتصاد وتضمحل الحدود ما بين الدول على غرار ما فعل وباء كورونا الذي اجتاح العالم دون أن تستوقفه حدود ودون أن يميّز بين جنس ولون؟!…
~ انتهى ~
[1] – وردت هذه البيانات في التقرير الصادر عن المنظمة الدولية للهجرة لعام 2020 (البيانات الواردة فيه لغاية حزيران / يونيو 2019)، والذي قدّمه المدير العام للمنظمة في الدورة العاشرة بعد المئة لمجلس المنظمة.
[2] – المنظمة الدولية للهجرة – ويكيبيديا.
[3] – موقع وكالة إنتر برس سرفيس (آي بي أس).
[4] – القناديل الحمراء – فؤااد سليمان
[5] – “الاغتراب”، إعداد وزارة الإعلام – مديرية الدراسات والمنشورات اللبنانية، 2010.
[6] – المصدر السابق.
[7]– المصدر السابق
[8]– راديو كندا الدولي – 15/تموز – يوليو 2019.
[9]– المصدر السابق.
[10] – “الاغتراب”، إعداد وزارة الإعلام – مديرية الدراسات والمنشورات اللبنانية، 2010.
[11]– “أخبار كندا 24″، 31 أيار – مايو 2019.