فخامة الانهيار
د. علي منير حرب
كندا 28/03/2021
كتبنا إليه يومًا “لا نريد لك السقوط من عليائك”…ولكن ما بيدنا حيلة، وقد أصرّ الرئيس “العناد” على عناده.
قدر لبنان أن يعيش زمنَ واحدٍ من أربعين شبيهًا لـ”نيرون”.
كيف وبماذا تريدنا أن نستذكرك يا عهد السفرجل، وكل عضّة منك بغصّة؟!…
هل تذكرون قصة “الحمّام المقطوعة ميّته”، أم مسرحية “ضاعت الطاسة”، أم بين “حانا ومانا ضاعت لحانا”، أم “من بعد حماري ما ينبت حشيش”، أم “أنا أو لا أحد”؟!…
لا تتعجبوا كثيرًا، فكل هذا التراث المأساوي والفضائحي المفجع حاضر ناضر بشحمه ولحمه أمام اللبنانيين، وكل تفاصيل هذه المساخر النرجسية معروضة بالألوان أمام العالم الذي نتسوّل منه مساعداتنا ونستجدي من سفرائه زيارة قصورنا، عفوًا، مقصوراتنا، التي تحوّلت إلى مشاتم ومجارص.
بين يدي سيّد القصر وولي عهده وزمرة البطانة والحاشية تقزّمت القامات وتفتّت الكتاب وتهشّمت المؤسسات، و”بال الحمار على رأس الأسد”، فلا حرمة ولا تحريم، وكل ما ومَن في الوطن بات نهبًا للتخرّصات والنزوات والإسفاف.
مخطئ من يظن أن الستارة سوف تسدل بعد المشهد الثامن عشر من مأساة تشكيل الحكومة، فجُعبة المخرج لا زالت محشوّ ة بما هو أدهى وأسخم، والآتي قريب!؟…
ولمن يتّهمنا بالتجنّي والتشاؤم، فليراجع “الصحائف السود” ما قبل إعصارات “التسونامي” التي تنبًأ بها قارئ الغيب ووريث البيت الجنبلاطي.
حين توقّفنا عن نبش التاريخ أخذنا الظنّ أن الوتر كان مشدودًا إلى قوسه آنذاك، ولا بدّ من بلوغ النضج والإقلاع عن النزق العسكري الطائش، بعد اقتراب سنّ التعقّل، أو بعد ركوب كرسي الأحلام والمطامع.
ولكن ها هو حاضرنا يتجلّل بأثواب الحداد نائحًا متحسّرًا على ماضيه!
“أنا آتٍ للتغيير…أنا قادم لإنهاء الفساد السياسي…لبنان لن يحكم بذهنية القرن التاسع عشر…اذا تكلمت طائفيًا إنبذوني.”
ألم تعزف وعودك هذه على أوتار الوجع اللبناني يوم هبّ الشعب لاستقبالك من منفاك؟
هذه المسرحية العبثية جرت قبل ستة عشر عامًا، وفي إطار التحضير لاعتلاء كرسي الطموح، فنمنا ونحن نحلم بوطن حقيقي سيولد على يدي الجنرال.
وما أن حانت ساعة الاستحقاق الكبير، حتى وجدنا الوطن بلا رأس، على مدى سنتين ونصف، إلى أن حضر الوسواس الخنّاس للأخوين اللدودين ففكّا عن الرئاسة أسرها تاركين الأبواب مشرّعة في وجه الإعصار الجديد.
مضت السنوات في عهد طائر الفينيق، وإذا الرقاب تحت المقاصل.
أزمة تنسلّ من أزمة، وتعطيل يتبع تعطيلًا، واستئثار يفرّخ طحالب، ونرجسية ينضح منها الكيد والحقد والانتقام.
لا شيء إلا الفشل ما قبل وما بعد.
فشلت في حروب إلغائك، وفشلت في حروب تحريرك وقيادتك لجنودك، وفشلت في الوفاء لأقرب أعوانك ومرافقيك، وفشلت في الحفاظ على أتباع تيارك الذين تهاووا واحدًا بعد الآخر، وفشلت في سدّة رئاستك، وفشلت في الحفاظ على قسمك وفي ممارسة صلاحياتك، وفشلت في تحقيق وعودك، وفشلت في معاركك للإصلاح والتغيير، وفشلت في استرضاء العالم لمخاطبتك. وكلّ هذه الهمروجة الديبلوماسية التي تقيمها في زنزانة سجنك، وكل أطنان الأوكسجين الوافدة إليك من أرباب حكمك، وكل وفودك التي تطيّرها شرقًا وغربًا لنشر أضاليلك، وكل صراعك المستميت لنفخ الروح في جثّة حكومتك الواقعة في “الكوما”، وكل المجالس التي تستدعيها إلى مطابخ مؤامراتك، لن تفكّ عنك المغص الذي يدوي في أحشائك.
فماذا يريد دنكيشوت وحماره بعد من وطنه وشعبه ودولته؟
كان لبنان مهدّدًا بالإفلاس المالي والاقتصادي، فأدخلته في معمعة التفليس السياسي والإداري.
وكان لبنان مصابًا بطعنة الطائفية فأثخنته بطعنات العائلية والنَسَبية.
وكان لبنان مجرّحًا بسهام الذهنيات الإقطاعية فقضيت عليه بسموم الآحادية والنرجسية والاحتكار.
وكان لبنان مهترئًا بفساد زعمائه فقطّعت أنفاسه بإفسادك لقيمه البرلمانية والديموقراطية.
ماذا تريد بعد وأنت تعيش العزلة وشهوة التعطيّل؟
أمرت من لم يسبّح باسمك أن يهاجر فطفش غير ملتفت خلفه.
ودعوت من عاداك باللجوء إلى جهنّم فسارع بقدميه يتلقف النيران هربًا من جحيم جنّتك.
فلماذا ركبك عفريت الغضب عندما لبّى شعبك طلبك، حيث “تكلّمت طائفيًا” فنَبَذَكَ وجافاك؟
أبهذه الرعونة تمارس الفخامة؟
بلى، نسينا أن نسجّل باسمك امتياز تورّم الدويلة المنتفخة في خاصرة الدولة، وامتياز استهانتك برأس كنيستك، مجد لبنان،غبطة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، حين تركته يتلقى سهام الخيانة والعمالة بصدره، وهو الذي حماك وتعرّض للانتقادات حرصًا منه على موقعك وكرامة الجمهورية، دون أن يرفّ لك جفن أمام من تستقوي بسلاحه، إضافة إلى امتياز نزع الشرعية عن الرئيس المكّلف بتشكيل الحكومة، ضاربًا عرض الحائط بإرادة المجلس النيابي الذي منحك، كما منحه، شرّعية المنصب والمهمّة. ونحتفظ هنا بتقديرنا لرباطة جأش دولة الرئيس المكلّف الذي لم يجارِكَ بانفعاله ويردّ بأسلوبك في هذه المحنة، “إلى العماد السابق قائد الجيش”؟! وقد أتاك الجواب سريعًا، ممن كان بك أدرى، وجاهر يومًا بودّه لك واعتراضه على انتخابك، وربما قبل أن ترفع الرسالة المدسوسة في جيبك: “إن إقحام المجلس النيابي في موضوع التشكيل والتأليف هرطقة دستورية وميثاقية”.
فسُد الملح بأرضنا فبأي شيء تريدنا بعد أن نملّح؟
ما يدمينا، ليس أنك مصمّم على الانتحار، فهذا شأنك، ولكن ما أنت آخذ به الدولة والشعب والمصير معك إلى مهالك في حروبك العبثية التي لم يسبقك إليها أحد، حتى في أحلك أزمات التأسيس والميثاق والاستقلال والحرب الأهلية والطائف والدوحة.
قال الحكماء يومًا: “من كان حاكِمًا حَكَمًا فعليه ألّا يقع في وعده رَيْبٌ، ولا في فِعْلِه عَيْب”، فأين تجد لنفسك مكانًا فيه، وأنت الغارق في مستنقعات الزيف والعيوب؟
هي كلمة فصل لا تتغيّر تأتيك من كل الأبواب: اتّعظ وطبّقْ الدستور وشكّلْ حكومة الإنقاذ وتخلَّ عن “ثلثك” وكابوس صهرك، أو تفضّلْ غير مأسوف على زمانك، ونفّذ ما طالبت به الرئيس المكلّف، بالتنحّي إذا كنت عاجزًا أو قاصرًا، رأفة بالوطن الذي اهترأ بمصائبك، فما حصدته من جوائز العقوبات زمن الرئيس ترامب لن يكون أبخس مما ستناله من الرؤساء بايدن وماكرون وبوتين، فطبخة التسويات قاربت النضوج فوق رأسك.