انبلاج الخلق

(عندما كنت طفلة كنت أنتظر بفارغ الصبر متابعة مسلسل الأطفال الشهير (افتح يا سمسم)، ولكنني لم أكن أعلم أنني بانتظار ما هو أهم وأكبر من ذلك..

ليس من عادة السماء أن تمطر ذهبًا وماسًا…ولكن هذا ما حصل معي فعلًا عندما تلقيت رسالة من أهم أعمدة هذا المسلسل الشهير…الدكتور علي حرب الكبير قامةً وعلمًا ومعرفةً أكرمني اليوم برسالة شعرت بها وكأنها تكريم من السماء…شكرًا جزيلًا دكتور علي، فما لي بشكرك كلام فالصمت أبلغ...)

رندا حجازي – فنانة تشكيلية

إليكم نص الرسالة:

بقلم: د. علي حرب

27/09/2019

 

إلى الفنانة، العابقة عشقًا، رندا حجازي

 

قلت في إحدى ندواتي عن الكتابة والفن، وكان ذلك في الثمانينيات، “من شعر يومًا أن ما يكتبه لا يستحق عشقه، فليرمِ قلمه، وليتوقفْ فورًا عن تعذيب الكلمات وتضجير الورق.”

 

في أول لقاء جمعنا مع كبير الكتّاب في حينه، المرحوم الشاعر والأديب والإعلامي والمربي، الأستاذ الدمشقي الفذّ ياسر المالح، للإستماع إلى توجيهاته إستعدادًا للمباشرة في كتابة حلقات البرنامج التلفزيوني التربوي الرائد “إفتح يا سمسم”، في دولة الكويت، وكنّا آنذاك ما يقرب من ثلاثين كاتبًا من مختلف الأقطار العربية، بادرنا الأستاذ المالح قائلاً:

“قبل أن نبدأ ورشة عملنا، أود أن أطلب منكم أمرًا واحدًا. من يشعر منكم بأنه لا يحمل في قلبه عشقًا واحترامًا للطفل، فليتفضل ويترك الاجتماع الآن.”

 

أحببت أن أقدّم لمقالتي بهذين العنوانين، لأنني عشت ليلة الجمعة في الرابع والعشرين من أيلول 2019، حالة عشق نادرة، ولحظة ولادة إستثنائية لقطعة من جمالات الله بين يدي صائغة تاهت من بين جمهورها وخفّقت بأجنحة ريشتها، لتعانق أنجمًا تقطف منها كل ألوان الطيْف وترصّع بها جبين وليدها الغافي بإبتسامة إله في حضنها الأمومي.

 

يا رندا

إذا كان شاعر العربية الكبير، رحمة الله عليه، نزار قباني “يرسم بالكلمات”، فقد كنت أنت بالأمس تكتبين وتنظمين أجمل وأروع القصائد بريشة وخطوط وألوان وظلال وصور ومنحنيات، جاءت متمايلة متراقصة متعانقة، لتخلق مساحة جمالية فاتنة، تضفي على عالمنا البائس الحزين، لمسة أمل ورجاء تشتاق إليها “إنسانية” الإنسان التي شوّهتها الغربان والبوم.

كنت مشدودًا إليك بكل شغف وإغراق، وأنت تتبادلين أبهى آيات العشق مع ريشتك ولوحتك وأدواتك.

كنت أتأملك بدهشة وإنفعال وأنت تراقصين خيالاتك وصورك وتهدهدينها لتستريح على وسادة من نور، وتقومين بين فينة وفينة بتعديل غفوتها، صعودًا وهبوطًا، يسارًا ويمينًا، وكأنك تنقلين وليدك الأثير اللصيق بصدرك بين ثدي وثدي، خوفًا من أن يغفو قبل أن تطمئني إلى إرضاعه آخر نقطة بهاء ونقاء وصفاء.

 

يا لَيديك الصائغتين درًّا وماسًا وياقوتًا يا رندا.

كنت في ما مضى، أقع على القصيدة الجميلة فتأخذني الفتنة والغوى.

وأتسمّر أمام اللوحة الفيّاضة شكلاً ولونًا وفكرًا وتعبيرًا فيأخذني السحر إلى غير هذا العالم.

وكنت أكاد أرتجف وأنا أمسك بنصّ أدبي مثير يحملني بعواصفه وأمطاره إلى مدن الدهشة والرعشة ويتركني هناك مرميًّا بين السكر والجنون.

لكنني، أصارحك، لم أشهد يومًا لحظة إنبلاج الخلق.

وبأنني لم أشهد يومًا ولادة قمر مجنون في إحدى طبقات السماء.

لم أشهد يومًا لحظات مخاض لخروج قصيدة من رحم الشاعر.

لم أشهد أبدًا عويل الكلمات وهي تتدافع لتطلع إلى النور من وجدان أديب.

لم أشهد مغامرة إقتحام السنبلة لوجه التراب حتى توزّع خيرها للناس.

ولكنني أمس، شهدت لحظات مخاضك، شهدت وجعك، شهدت آلامك، شهدت نزفك، وسمعت صراخ اللون، وهزّتني شهقة المولود المغادر لعالمه الحميم، وطربت لمواويل الريشة وزغردات الآلهة وهن يبشرْننا بقدوم زائر جديد، جاء بإرادتك وصياغتك وأفكارك وآمالك، ليرشّ على جروحنا بلسمًا ويعدنا بآت أجمل وأنقى.

بلى، شهدت ذلك يا رندا، ولم أشفق على ردائك الأبيض الذي كان مضمخًا بدماء عبقرية الولادة، لأنه كان خارجًا من مطهر الخلق.

 

رندا

دعي أجفان ريشتك تطلق كل ثورتها لتفرح العالم وتغيّر نكهته.

دعي قلبك غارقًا في العشق.

دعي ما تصوغين من جمال آية من آيات إبداعك الفاتن.

أحييك يا أقحوانة الفن…دمشقية عربية عطرة في رياض كندا والعالم.

 

إلى رندا
مهداة إلى الفنانة الراقية المتألقة، الصديقة رندا حجازي
لمناسبة فوزها بمسابقة شاعر المنبر الأستاذ سعيد الحاج

 

رِيشةْ رندا بدلالها

اللوحة بطمّن بالها

بروعةْ سحرها صار اللون

يغزلْ فجر بأشكالها

بيسكب نثر بينظم شعرْ

بيصرخ أوف بخيالها

وموجْ البحر بعرض البحر

من سِكْرو بخمر اللون

بلّش يرقص كرمالها