سِفر الوداع

سفر الوداع

أن تقدّم لكِتاب أحد الأصدقاء، فهذا يعني أنك أصبحت من آل العرس، وانتُدبت لاستقبال الضيوف على مداخل الصيوان، وتولّيت مهمة المؤشّر الأمين بين كفّتي الميزان، كاتبًا وقرّاءً.

ما أدركه عند تقديم كتاب أثير، أنني استحدث بذلك تَلْمَذَتي على مقاعد الفكر، وبين يدَيْ أهل الثقافة. فمع كل كتاب، أقرأه أو أقدّم له، أخرج بمتعِ سياحةٍ في عالم جديد.

حين أتاح لي صديقي “شاعر المنبر”، الأستاذ سعيد الحاج، واحدة من هذه المتع، وطلبني لاستقبال ضيوف الحفل في ديوان “وداع شاعر”، لشقيقه “شاعر المهجر”، جورج الحاج، انتابني تحدٍ غير مألوف، تولّد من قلّة معرفتي واطلاعي على نتاج صاحب الديوان.

لقد آتتني الفرصة بلقاء الشاعر جورج، مرة واحدة في مدينة مونتريال، وكانت هي الفاتحة اليتيمة لمعرفتنا الشخصية، فكرًا وشعرًا.

لكنّ أعراض هذا التحدّي بدأت بالانحسار، أولًا، عندما تكرّرت، لقاءاتي وسهراتي التي لامست خيوط الفجر، مع ديوانه، وإبحاري في لُججه التي قاربت خمسمائة صفحة، تندلق القصائد سخيّة على صدورها، لتزيد من طمعي في جمع الدانات المختزنة في صَدَفاتها. وثانيًا، لأن الصديق سعيد، زادني مؤونة بما وفّره لي من دقائق التفاصيل عن سيرة “معلّمه وملهمه ومرشده” جورج، الذي “أخذ بيده وأعطاه من التشجيع والدعم كمًّا هائلًا، وسلّمه زمام الخلافة المنبرية (الحاجيّة)، بعد أن ترعرعا معًا في دارة يستيقظان فيها على رندحات زجلية من أبناء البيت وزوّاره، ويستقبلان لياليها مع حلقات المبارزات الشعرية الحماسية بين أفراد العائلة الواحدة.”

هو جورج حنا الحاج، الشاعر الزجّال، القوّال، الحدّاء، الغنائي، “شاعر المهجر” بامتياز، الرحّالة الذي جاب بسفينته الفينيقية، منذ ربيع عمره، أرجاء الدنيا، وطوّف شرقًا وغربًا، مترسّمًا طموح شاعره المِثال سعيد عقل، ليبني”أنّا يشأ لبنانا”، ومتتبّعًا أثر كل لبناني ليحمل إليه أبجدية الزجل المعجون برائحة تراب الأرز وهوائه، حتى أصبح بذلك واحدًا من أبرز ورثة فنّ “التجوال الشعري الطربي”، على طريقة أجداده الأندلسيين الروّاد، الذين أورثوا “دَوْر الطرب”، (الطروبادور)، إلى أوروبا كلها.  “وبدّك تسافر. سافرْ وخلّيك سيد        إن ما كنت ديب بيفطرو عليك الدياب

وكلّ ما مرق من جهّتك ساعي البريد  اذكرني وودّيلي كتاب على الحساب.” (ص:١٢).

 وهو خليفة شيخ الزجّالين اللبنانيين الكبار “خليل روكز”، ورئيس “جوقة ليالي لبنان”، وصاحب أكبر رصيد زجليّ، امتدّ أكثر من أربعين عامًا، ليثري مكتبتنا التراثية باثني عشر ديوانًا زجليًا، تحمل “في أوراقها أناشيد الفرح”:

“ضوّيت عمري سراج عا درب العذاب          يشهق متل عصفور بجناحو انجرح

تا يصير خلف الظنّ في عندي كتاب           حامل على وراقو، أناشيد الفرح.” (ص: ٧).

من فاتحة الديوان تبدأ أمّ الحكايات. فللدموع جداول، وللحلم بساتين، والموت ليس إلا جسر عبور إلى ولادة جديدة.

“صرفت العمر عا جبال أوجاعي صبور        حابس بعينيّ جداول مدمعي

ومساقبة ضلّ الحلم بستان بور                 وما أبخل الدنيا عا شاعر أصمعي

والموت عا تاني دني جسر العبور              وياما مرق ذكرو عا مسرح مسمعي

ومش خايف من الموت وسكوت القبور          فزعان موت وآخد همومي معي.” (ص: ٥).

وتدفقت بعدها شلالات الرؤى والحكمة والفلسفة، وتفجّرت ينابيع الوجدانيات والغنائيات، فخرًا وحماسة وغزلًا ورثاءً، ومنافسات وافتتاح حفلات ومهرجانات، إضافة إلى ما عبقت به من تأريخٍ شِعرّي يفيض بالروعة والصدق لكل قرى لبنان وأحيائه ودساكره المتمدّدة على مساحة الوطن.

جال وصال في كل شؤون الحياة وشجونها، يرافقه كأس ودُّفٌ، يغنّي القرية والوطن، وينشد الجمال والسحر، ويرتقي إلى معارج الحق والخير والجمال، ويسمو بمحمود القيم والشيم.

–       إنه عاشق مفتون بلُبْنانِه:

“لبنان وحدو للحلا بداية      إمّو الطبيعة والشمس داية

جبالو مسابح بالسحر بتعوم  عا طاولة الله منقّاية

ورهبان عم بتربّع الأجراس   دقّاتها تقوى معبّاية

وشيوخ عم بتكبّر الآذان      وتكرّم الآية ورا آية.” (ص: ٩ – ١٠).

–       تحييه بسمة ثغر ويذيبه خصر ميّاس:

“وبعد السمر، والشوق، والتنهيد        وتكوة جدايل شَعرك عليّي

ورقصة خصور التلج عا القرميد       وقلام تدحرج عا إيديّي

دشّرت ورقة بلون يوم العيد            مش بس فيها حبر عينيّي

ومش بس فيها آخ حبّ جديد          فيها قصيدة من عمر نوّار

                  عنوانها عينين لوزية.” (ص: ٢٠).

–       وعلى قدر اعتداده بشعره وامتلاك ناصيته، تراه وفيًّا صادقًا مع رفاق الدرب وأصدقاء الرحلة، والذين كانوا يتبادلون الانتساب إلى الجوقات والفرق، وكأنهم أبناء أسرة واحدة، يتوزّعون الأدوار في المنافسات والمساجلات الشعرية، كما لو أنهم يتقاسمون اللقمة بكل كَرَم وتواضع ومحبة، ليكونوا عنوانًا ومثالًا للتنافس الشريف الراقي في الميدان، وليسوا “أعداء الكار” كحال أصحاب الفتن والفساد.

“لولا الحجّ حسامو سنّ                بتحكي عنّو مواضيعو

قادر كل ملوك الجنّ                 يليعبهن عا صابيعو.” (ص: ١٩٥).

“وعا شرق صيدا طلّع زياده           بأقشع متل وادي طوى وادي

وعا قبر روكز ضلّ دمعك صبّ      الواعي متل كروانها الشادي.” (ص: ٢٤).

“وداع شاعر”، هي الحياة تتبدى بكل ما فيها، تتكوّم وتتربّع طوع بنانه، ليجدّل لها شعرها ويعقصه ضفائر لم تخطر مرة في بال ذهب. وتجمّعت في خلايا صفحاته ما تجود به حقول العمر من فاتن زهورها ووخزات أشواكها، من أطايب عسلها ومرارة علقمها، من ينابيع زمزمها ومستنقعات مياهها الضحلة وآل صحاريها اليابسة، فتنوّعَ الحصاد فيها بين “البخل والكرم، وبين الطويل والقصير، والقليل والكثير، والكذب والصدق، والمال والجمال…”

“وداع شاعر”، هو وديعة زجّال أصيل، أمين على عطايا أُغدقت عليه وآلِهِ، فيها من خِصال الإبداع الفني، والثراء الثقافي، والبلاغة البيانية والبديعية، ومهارات الارتجال، وتوليد الصور والمعاني، وفلسفة المألوف والعادي، ما يعجز الكثيرون عن امتلاكها جميعًا في قبضة عبقرية واحدة.

هو سِفر غنائي، يؤصّل لفن الزجل الراقي، ويثبّت المكانة العالية لهذا الطراز من الفنون الشعبية، الذي يحمل قيمًا أدبية وجمالية وأخلاقية واجتماعية كبرى، تعبّر أصدق تعبير عن واقع حياة الناس بلغتهم ومعانيهم وأمثالهم، ويؤكّد مواهب الشاعر الفائقة والمتعددة، صاحب ألف وزن، في التجوال في ملاعب الشعر والتحليق في فضاءاته والسباحة في بحوره، بين “المعنّى والشروقي والموشّح والقرّادي والعتابا…” لا تحدّه أسوار الأشكال والأنواع.

“ما بحبّ الفي عندو قدّ      ممشوق وعقلو ناسي

وما بحبّ الجاهل لو قدّ      بزنودو الصخر القاسي

بس الّلي حبّيتو قدّ           محبوبي وشِعري وكاسي

الّلي بيعرف حدّو عا القدّ    وبيجرّب يوقف حدّو.” (ص:١٩١).

 شاعرنا، جورج الحاج، تقف القصائد على باب واديه تنتظر الإذن بالدخول. وحده تهواه القصائد وتخرج دفّاقة من فانوسه السحري.

ترأفْ إذ تدخل الديوان، وتمهّلْ إذ تطرق باب الوداع، فالقصيدة مسترخية حالمة على كتف صاحبها، ما همّها سَفر بعيد، فكل الدروب ترحال ما بين الولادة والولادة، من غير أن ينطفئ قمر أو يصمت ناي.

“الشاعر رغم زلزال بلواتو             سيّد أمورو بكل خلواتو

مش عايز من الفجر شقفة ضو       مفلوش ضو الفجر جوّاتو.” (ص:٣١).

أن تحجز لك مقعدًا في قطار رحلة الوداع، فأنت لن تحتاج إلى تذكرة وجواز سفر، لأنها رحلة رسالة مجانية لكل إنسان بشيَمِه وقيَمِه الجمالية، تعبر بك جسور العمر، وأنفاق الأيام، ومحطات التاريخ، ومتاحف الآلهة، لكن عليك أن تفتح للمدى حدقات عينيك لتعبّ من فيض المشاهد والرؤى الخلّابة المنسكبة أمامك، وترهف سمعك لالتقاط وسوسات الزغاريد الشجيّة المنهمرة من كل صوب، وتشرّع أبواب فكرك وبصيرتك لاحتضان أنقى عصائر الحكمة المختمرة في خوابي الوجدان.

أيها الشاعر الخلّاق، الشمس تغرب ولا تغيب، تَعِدُنا بالبعث والشفق. وشمس فكرك وقصيدك، دخلت خميرًا في الأرض، وسوف تطلع مع كل فجر، على فم العنادل والبلابل، لتتابع عزف النشيد، نشيد الحياة الذي لا يصمت.

د. علي منير حرب

 كندا – مونتريال 18/07/2022