المجموعة القصصية: غجرية ومن غزة
تحدٍ ثابت من فلسطين وشامخ من غزّة

د. علي حرب

مونتريال – كندا في 09/06/2021

قراءة في المجموعة القصصية بعنوان “غجرية ومن غزّة”

تأليف الفنّانة التشكيلية الأديبة لولوة أبو رمضان

قدّمت أثناء الندوة الافتراضية التي أقيمت يوم الثلاثاء في الثامن من شهر حزيران / يونيو 2021، بمشاركة الفنّانة التشكيلية سمر طارق، والشاعرة فايزة سعيد، والأديبة إخلاص فرنسيس، والمؤلفة لولوة أبو رمضان.

قبل أن أدخل في صميم القراءة، أودّ أن أشير إلى أمرين اثنين في عنوان المجموعة، استوقفاني وأثارا انتباهي وأوحيا لي بشيء غريب.

الأول: هو هذا التحدّي التاريخي الصامد، لهوية فلسطينية غزّاوية راسخة، تتبدّى في “الغجرية ومن غزة”، وكأنها بركان يؤكد الانتماء بتصميم صخري وهو ينفجر في وجه المحتلّ والمغتصب والعالَم الظالم.

ثم هذه الواو الناهضة الصارخة…ومن غزّة… هذه الواو التي تخترق كل مفاهيم النحو والصرف، لتقف منتصبة متحدّية فخورة، تصدح مع سميح القاسم ومرسيل خليفة:

“منتصبَ القامة أمشي…مرفوعَ الهامة أمشي…في كفّي قصفةُ زيتونٍ وعلى كتفي نعشي”…

والثاني: هو هذه المصادفة المذهلة لتزامن صدور المجموعة “غجرية ومن غزّة” مع أحداث غزّة التي تصدّرت المشهد العالمي، الشهر الفائت، وهي تجدّد انتفاضتها المستمرة بزخم بعد أكثر من سبعين عامًا على النكبة والتهجير، وكأنها ترجمة عملية لهذين التحدّي والتصميم المترمّزين في عنوان المجموعة. 

وإن دلّ هذا على شيء فأنما يدلّ على أن الصدق والعفوية في الإحساس والتعبير والهدف، كما تتجسّد حيّة في كينونة الغجرية وجَبلتها، تعلو فوق كل فذلكات الفلاسفة والسياسيين ومفسّري الأعمال الفنية وواضعي شروطها وحدودها.

إذ ندخل عالم “الغجرية”، أو العالم الروائي للأديبة رمضان، فإننا ندخل مناطق بكرًا في فنّ كتابة اللوحة القصصية التي رُسمت بألوانها وأشكالها وإيحاءاتها في مخيلة الكاتبة.

مع “الغجرية” وأخواتِها السارحاتِ في نتوءات الجراح العربية، رأسًا وقلبًا وأطرافًا، المُنهكاتِ المظلوماتِ بالتشرّد والظلم والنكبات، علينا أن نستعدّ لاستقبال رياح سردية حكايتية، كثيرًا ما تشبه عرض الذات في مرآة التجارب، وكثيرًا جدًا ما تشبه رندحات الجَدات والأمهات وهنّ يندبن ويرثين حظوظهن المتعثرة عند حافات معاجن الخبز ومواقد الطبخ وأجران الغسيل، أو مواويلَ الأجداد الضاربةَ مع المعاول في بساتين الزيتون والليمون والصبّار، أو صداحاتِ الصيادين الطارحين أحلامَهم مع الشباك في بحر غزّة المشبعِ بالقهر والأحزان، أو أنّاتِ الأطفال الموجوعين يتمًا ورعبًا وهم ينتظرون قدومَ الأعياد الهاربة من أعمارهم والأسيرة في بيوت المحظوظين باللاعدالة.

وأنت تمعن الإبحارَ في لوحات الغجرية المرصوفة على جدران التاريخ، لا تسل عن زمان ومكان وإطار، ولا تسل عن شخصيات بطولية وغير بطولية، ولا تسل عن أحداث وصراعات وحوارات نارية محمومة، ولا تسل عن أزمات وعقد وحلول، فهذه العناصر كلها، تأتي متداخلة متشابكة متحالفة مع موضوعاتها المطروحة، لتحكى بانسياب هادئ من القلب إلى القلب، ليس لتأمين شروط القصّة الفنية، ولا لإرضاء خواطر النقّاد والمشرّحين، ولا لإبهار القارئ، بل وبدرجة أولى، لتجمع قطوفًا دانية من أشجار الفصول المتراكمة لتعرضها في مشاهد واقعيةٍ وأفكار بسيطة، ولدت جميعها من رحم دافئ، وسُردت بدمائها الساخنة، وظلالها المتدفقة ألوانًا وصورًا ملأى بالعطور والأشكال، لكنها معجونة بأنفاس المآسي وبأيد مكسورة طحنتها غوائل الأيام السود.

زمن الغجرية ومكانُها هما خزّان كل الأزمنة والأمكنة والتجارب والمشاهد والأحداث التي عاشتها الكاتبة على امتداد عمرها في غزة وفي قطر وفي بيروت وفي باريس وفي أميركا وفي كندا، وربما في أزمنة أخرى سافرت إليها بأحلامها الواعية والغافية، لم تبح بها لنا، لكننا نكتشفها متجسّدة في رموز وإيماءات منثورة بين ثنايا القصص، ومتنقلة ما بين الدموع والابتسامات، وما بين الهلع والتمرّد، وما بين الظلم والحلم بسلام عادل.

توقفت طويلًا أمام مخزونات الرواية والقصة في أدبنا والآداب العالمية، وتساءلت هل هو الكاتب حقًّا من يخلق  شخصيات قصصه، ورأيت أن الكاتب صانع ماهر وحاذق ومبدع في تشكيل أبطاله وصياغتها وتوظيفها، ولكن ليس هو خالقها في مادتها الخام الأولى من العدم، هي مخلوقات ترافقه في واقعه وذاكرته فيلتقطها كمن يعثر على كنز دفين من المعادن الثمينة ويبدأ ببراعته الفنية بسكبها في قوالب معمله حاملة أنفاسه ورؤاه وأسلوبه، ليحمّلها ما يشاء من الأفكار، ويعرّضها إلى ما يشاء من الأحداث والمواقف والأقدار.

في قراءتي المكثّفة هذه، عاودني ما كتبه الدكتور خالد محمد عبد الغني، المولود عام 1970، وهو أيضًا فنّان تشكيلي قبل أن يكون أديبًا وطبيبًا نفسيًا، في كتابه المعنون قراءة في أعمال نجيب محفوظ، لخّصها وهو يبحث عن مصادر قصصه بثلاثية التاريخ والواقع والرمز.

وهذه الثلاثية، أظنها تنطبق إلى حدّ بعيد على معظم الكتّاب الروائيين، وتراني أنحو نحوه فأزعم أن عالم الكاتبة لولوة، لا يبتعد كثيرًا عن هذه المصادر، التي ربّما خزّنتها في بعض لوحاتها، وإن كانت جاءت ممزوجة في كثير من الأحيان بذاتية تضاهي واقعًا مشهودًا لدى الآخرين.

أقول هذا، بعد أن استعرضت شخصيات الغجرية في مختلف قصصها، لأجدّد يقيني أن براعة الكاتب الروائي لا تكمن في قدرته على التحليق ما فوق الواقع وبعده، إنما في مهارته على قراءة ما يعيشه وسبر أغواره وتفتيت خلاياه واستلهام الآتي من خلاله.

أبطال الغجرية هم بعض أو كل ممن وقعوا في أيامها وفي جراحها وفي لياليها وأحلامها السعيدة والحزينة، وأكاد أقول هم لولوة التي تعرفها، أظنك تلمحها وتسمعها وتفهم إشاراتها ألمًا وفرحًا وأملًا وغضبًا وثورة،

يحملون قسمات روحها التي وزْعتها ملوّنة ورسمت بها وجوه ناسها الذين رافقوها في رحلتها الممتدة من جرح النكبة إلى جراح الغربة والتحليق في فضاءات غريبة عن مناخاتها في بيارات فلسطين ودروبها المزروعة في الشرايين.

“كلنا كنّا هناك، منهكين ومظلومين، نرصد أنجمًا تائهة”…سمعناها في بيت الخبز وهي تقول أيضًا:

“انا قرية عزلاء منسية شوارعها بلا أسماء وكل رجالها في الحقل والمحجر..

حاصروني في قبري المعتِم الجريح وانقضّوا سويًّا على جسد كنعاني قديم وأصيل وعريق.”

وهي هي في سماح المحروقة والميتّمة، مذ كان عمرها عشرَ سنوات يوم شهدت انهيار السماوات فوق رأسها ورأس أهلها وتحوّلت إلى هيكل أسود عمره ألفُ عام. وفي بهية المقموعة الساكتة على الضيم مع طفلتها جميلة،  كما في بيسان المطحونة بالحب وهي تتساءل: “من أنت يا وطنًا أراك ولا أراك …يا فجرًا ألمسه ويقذفني من حيث لا أدري…” وفي ندرين التي حباها الله جمالًا في الروح وبهاءً في الخلق لا تعرفه أفروديات الدنيا.

Read more