التحرّر بالكتابة والتميّز بأخلاق الثقافة

Ali Harb

Abstract 
As much as I tried to shed light on the historical causes and origins that were behind the oppression and distortion of woman’s image, religions, events, and circumstances overlapped, deeming her as an ossified constant, especially in Arab societies. I also focused on the cultural aspect to address the subject of woman’s writing as I consider it at the top of the factors that allowed and enabled women to launch their demands for justice and restore their usurped rights and establish them, not only in social norms, but also in local and international laws and legislation.

To preserve the integrity of the goals that I sought from addressing this issue, I was firmly interested in the perseverance of woman as a fighter who achieved her ambitions in writing and overcame its “veto” and exclusivity as an absolute masculine privilege. The woman is at the helm of maintaining the health and safety of life and societies and in order to exercise her role in cultural enlightenment and morality, she is required, through writing, to declare her honest and clear position in the face of what is happening in the world of transformations and demands, all of which contradict the system of values and morals and pose a serious threat to the fate of humanity with its deep-rooted orientations in materialism, consumerism and freedoms devoid of virtue.

Through writing, the woman’s position is continuously transformed into programs and studies that help empower change and reform.

I hope that I have achieved my goal in terms of fairness and integrity in conveying the cultural message to the community.

علي حرب


تمهيد

في تناولي موضوع هذا البحث، اعتمدت المنهج الثقافي لمعالجته ومناقشته.

إنَّ قضية المرأة، كيانًا وحضورًا ودورًا، لا يمكن أن نتعامل معها خارج نطاق الثقافة بمفهومها المعرفي الشامل، التراثي والسلوكي والأخلاقي.

وبقدر ما حاولت أن أضيء على الأصول التي كانت وراء توصيف المرأة عبر حِقب تاريخية، تداخلت فيها الأديان والأحداث والظروف، وحوّلتها إلى ثوابت متحجّرة، لاسيَّما في المجتمعات العربية، فقد عمدت إلى التركيز أيضًا على الجانب الثقافي، لمعالجة مسألة الكتابة عند المرأة، لأنني أعدُّها على رأس العوامل التي أتاحت للمرأة أن تطلق مطالباتها بالعدالة واستعادة حقوقها المسلوبة وتثبيتها، ليس في الأعراف الاجتماعية فحسب، وإنما في القوانين والتشريعات المحلية والعالمية.

وبهدف الحفاظ على تكامل الأهداف التي أتوخَّاها في معالجة هذه القضية، فقد كنت مهتمًا حدِّ الإصرار بإشراك المرأة كمناضلة حققت طموحاتها في إلغاء “فيتو” الكتابة وكونه امتيازًا ذكوريًا بالمطلق، وكمسؤولة في المحافظة على صحة الحياة والمجتمعات وسلامتها، لممارسة دورها الثقافي التنويري الأخلاقي عن طريق الكتابة لإعلان موقفها الصريح والواضح والمسؤول أمام ما يجري في العالم من تحوّلات ومطالبات تتعارض مع منظومة القيم والأخلاق، وتشكّل تهديدًا خطيرًا لمصير الإنسانية على هذه الأرض، بتوجُّهاتها المغرقة في المادية والاستهلاكية والحريات المتجرّدة من الفضيلة، وبأهمية تحويل هذا الموقف إلى برامج ودراسات مستمرة من أجل تفعيل تأثيره في التغيير والإصلاح.

وآمل أن أكون قد حققت ما أرمي إليه من عدالة في التناول وأمانة في أداء الرسالة الثقافية للمجتمع.

***

المقدّمة

المرأة…

في البدء كانت قضيتها اللغز، اللغز الأكبر عبر الزمان الممتد منذ الخلق، والتي أثارت وطرحت أسئلة معقّدة ومسائل شائكة وأثارت عواصف هائجة متناسخة حول كينونتها وحضورها وموقعها الاجتماعي مع الجنس الآخر – الرجل، ودورها الإنساني في الوجود.

اللغز الذي تكمن فيه مزايا هذا المخلوق المجبول بالجمال والرقة والحنان وفيض العاطفة.

هل خلقت المرأة من ضلع الرجل وهل كان خلقها من ضلع أعوج كما جاء في الإسرائيليات وسفر التكوين في العهد القديم (تكوين2 :22) ؟ أم إنَّهما عنصران متلازمان أساسيان في التكوين الإنساني «خلقا من نفس واحدة»؟ كما جاء في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ ) 1 – النساء)          

هل المرأة سرّ أسرار الكون المكتومة العصيّة على الكشف؟ أم أنَّ الرجل أعجز من أن يسبر أغوار هذا المجهول، الذي لا غنى عنه، والذي صُنع هكذا بطبيعته ومكنوناته ومزاياه، والذي ما أن يتخيّل الوصول إلى شواطئه حتى تقذفه أمواجه العاتية إلى اللجة التائهة من جديد؟

هل المرأة هي نصف المجتمع تكريمًا؟ أم إنَّها حقَّاً المجتمع كلّه، مصدر الحياة بخصوبتها، وصانعة الحياة بحملها وإنجابها النساء والرجال وصانعتهنَّ وصانعتهم، ومشكّلة، بالمشاركة الطبيعية الصحيحة مع الرجل، العامل الرئيس لاستمرار الجنس البشري على هذه الأرض؟

من هذه المقدّمة المختصرة، أدخل في المسألة المطروحة في هذا البحث «المرأة كاتبة …لماذا؟» وأرى أنَّ السؤال الواجب طرحه في هذا المقام هو: المرأة كاتبة، فكيف ولماذا لا يكون التمييز؟ وذلك تأسيسًا على ما يزخر وما يفيض به الموروث الثقافي، شرقًا وغربًا، من مصطلحات استعلائية للرجل، أو بجملة مختصرة، بما يعتريه من نمطية جنسانية، لمصلحته، دينيًا ولغويًا واجتماعيًا وأدبيًا وقانونيًا وتربويًا وإعلاميًا ومهنيًا، واختلافات بيولوجية، وقدرات فكرية وإبداعية وجسدية؟!… 

عندما تحاصرنا الأوبئة لا يعود السؤال عمن أصيب ولماذا أصيب بها، إنما يتوجّه تساؤلنا نحو كيف ولمَ لا نصاب وما السبيل للحماية؟

أحاول أن اتناول هذه المسألة من الجانب المنتِج والمصدِّر لها، أي الجانب الثقافي العام، وتحديدًا في ثقافتنا العربية، مع الاحتفاظ الشديد بما تكتنفه الثقافات الأخرى من تماثل أو مبالغة، بهدف رصد الأسباب التي كانت وراء هذا التمييز.

عندما نتحدّث عن الثقافة فإنَّما نقصد التشكيل المعرفي الشامل، الذي يتحوّل بمجموعه إلى مولّد ناشط لرؤانا ومواقفنا وعلاقاتنا وسلوكنا في الحياة.

المرأة إلهة، والمرأة ملكة، و… هذه الصفات والمواقع كلُّها لا تثير تساؤلاً ولا تحدث استغرابًا ولا مواقف بين القبول والاستنكار والرفض. وحدها، وحدها فقط، المرأة الكاتبة تبدو وكأنها تمثّل تحدّيًا وتهديدًا صارخًا وخروجًا عن المألوف الثابت والمقدّس وكسرًا للخطوط الحمر للنمطية الذكورية المتجذّرة في النفوس والعقول.

أشكال التفضيل والتفوّق الخاصة بالرجل قد يُسمح للمرأة المشاركة فيها جميعاً ضمن معادلة «الكوتا» التي تنامت الدعوة إليها مع بدايات القرن الماضي، تكرّمًا وتنازلًا من الرجال، وتمّت ترجمتها في القوانين.

والأصوات المنادية بالمساواة بين الجنسين – القطبين المتجاذبين – على هذه الأرض يمكن التساهل والتعاطي معها بنِسب متفاوتة.

 لكن أن تتجرّأ المرأة على اقتحام ميدان الكتابة «المحرّم»، لتكرار تجربتها مع الشجرة المحرّمة في الجنّة، فهذا من أخطر ما يهدّد الاحتكارية الذكورية ويشكّل خرقًا فاضحًا لسرّيّة امتلاك الفكر والتعبير عنه.

الفصل الأول

لوحات صادمة!

من الصور المنحوتة للمرأة في صخور الذاكرة الثقافية تتبّدى أمامنا رموز العار والعيب، والعجز الفكري والقصور الجسدي، والبراعة في استخدام وإشهار أسلحة البكاء والتحايل والرياء والغواية والفتنة، ما يتوجب سجنها في منزلة وضيعة دون منازل الذكور.

في قصة الخلق أنَّ آدم وحواء سارعا إلى ستر عورتيهما (سوأتيهما) بورق التوت. والسؤال: لماذا غابت عورة الرجل وبقيت عورة المرأة؟ لا بل لمَ أضحت المرأة عورة مَرَضية من قمّة رأسها حتى أخمص قدميها؟

في كتابها «مشكلة المرأة في الفكر الجزائري الإسلامي» أوردت الباحثة سعيدة درويش «صورًا صامتة لأربع حالات انتقتها الثقافة للمرأة وهي:

1 – صورة المعشوقة التي ترد في أشعار العشَّاق وحكاياتهم.

2 – صورة الموؤودة التي لا يسمح لها حتى باكتساب ملكة الكلام.

3 – صورة الآلهة التي تعطى بغير إرادتها الشرعية للرجال كي يتحدثوا باسمها.

4 – صورة الملكة في الواقع التي تحكم بما يريده الرجال.»

كما بينت الباحثة ليلى أحمد في كتابها «النساء والجنوسة في الإسلام» «أنَّ ثقافات مجتمعات الحضارات القديمة، وتحديدًا مجتمعات الإمبراطورية الفارسية والرومانية والبيزنطية، كانت تضع قيودًا عدة على حياة النساء وتحطّ من قدرهن وتحقّر من شخصياتهن، بل إنها أول مجتمعات أسّست لفكرة وممارسة عزل المرأة عن الحياة العامة، ونصّت على احتجازها في المنزل؛ خاصة لدى المجتمع الإغريقي القديم في أثينا قبل الميلاد، حيث برزت ممارسات اجتماعية وقوانين أدّت إلى قهر المرأة وفرض سيطرة المجتمع الذكوري عليها». 

كما ذهبت إلى أنَّ «ما جاء به أرسطو حول دونيّة جنس النساء عن الرجال من النواحي البيولوجية والعقلية والنفسية والفطرية هو ما كرّس سيطرة الرجل وزاد من دونيّتها، أضف إلى ذلك تشبيهه حكم الرجال للنساء بحكم الروح للجسد أو سيطرة العقل على العاطفة، وبهذا في نظرها تكون أفكار أرسطو عن المرأة هي التي قنّنت للتحيّز والعبودية وللتراتب الإنساني والاجتماعي الذي ورثته أجيال ورموز الفكر في الحضارتين الأوروبية والإسلامية (باعتبارها) حقائق علمية ومسلمات فلسفية أصلية تنمّ عن نظرة عميقة للحياة وجوهرها.»

عن خلفية هذه الصور أتساءل، ليس من باب التبرير أو دفع التهم عن الرجل أو رفع الظلم عن المرأة، إنَّما من زاوية تفسير التاريخ والوقوف على حقيقة الأسباب والدوافع التي ولّدت ورسّخت وضخّمت ملامح وتفاصيل هذه الصورة عبر آلاف السنين ولدى مختلف الشعوب والحضارات.

هل من المنطقي تاريخيًا أن تكون هذه الصفات الملتبسة قد ألصقت بالمرأة عبثًا أو عمدًا أو عن طريق التكوين من غير أسباب ودوافع وشواهد وممارسات وخبرات؟ 

فالمرأة والرجل خلقا معًا في لحظة زمنية متقاربة، فكيف انبثقت علل العجز والقصور والتبعية والعار والانكسار لدى المرأة، مقابل هيمنة الرجل وسطوته؟

لا بد من وجود عوامل ووقائع ملموسة ومشهودة أدّت إلى تكوين هذه التصوّرات والتمثُّلات القديمة ومن ثم تطوّرها وتغوّلها حتى تمدّدت إلى عمق ثقافات الشعوب البشرية أو المجتمعات الإنسانية ودخلت في صميم تكوين التراث الثقافي والأعراف والتقاليد والسلوكيات. 

*في وصفه جرأةَ ابنته على الكتابة النسوية والحديث عن «الجنس الآخر» تباهى والد الفيلسوفة والمفكّرة سيمون دي بوفوار فقال: «سيمون تفكّر كالرجل». هذه العبارة تختصر ببلاغتها واقعًا فاضحًا، كيفما قلّبنا أوجهها مدحًا أو ذمًا، لأنه يوحي في معانيه أن التفكير بطبيعته وقف على الرجال وخاصيّة من خصائصهم. 

فهل التفكير هو أيضًا من جملة الأضلاع العوجاء المنزوعة من الرجل؟ وهل الإبداع الفكري ملكية حصرية ذكورية بامتياز؟ وهل التفكير قاعدة للرجل واستثناء للمرأة من باب إقامة «التابوهات» الحصينة؟

*وحينما تقول دي بوفوار صاحبة النص التأسيسي للنسوية المعاصرة: «لا يولد المرء امرأة وإنَّما يصبح كذلك»، فإنَّما تريد أن تؤشّر إلى التأثيرات الاجتماعيّة التي ساهمت في هذه الصناعة.

وما نقع عليه في موروثنا الثقافي العربي يأخذنا إلى أبعد من ذلك أيضًا.

فصورة المرأة العربية ظلامية في تفاصيلها كلِّها: مضطهدة، مهمشة، قاصرة…

اقتطف بعض ما ورد في ثقافتنا الموروثة المتجذّرة حول هذه المسألة:

*إنَّ بيت الشَّعْر للبدوي يتألف من الصدر والعجز، صدرُ البيت لاجتماع الرجال، وعجزُه لإخفاء المرأة «العاجزة العورة». 

وفي تقسيم بيت الشِعر العربي نقع على الصدر والعجز تيمّنًا بالتقسيم الجندري.

*المرأة مجلبة للحاجة والعار، فلذا وجب وأدها وهي حيّة.

وجاء في كتاب الله العزيز، القرآن الكريم: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)﴾ (النحل).

*يقول الشاعر زهير بن أبي سُلمى في معرض ذمِّه لآل حصن:

وما أدري وسوف إخال أدري أقومٌ آلُ حصن أم نساءُ 

فالمرأة ليست من عداد القوم الموقوف على الرجال فقط. 

*تقول عائشة أم أبي عبد الله الصغير له فيما كان يبكي خارجًا مهزومًا من غرناطة:

ابكِ مثل النساء ملُكًا مُضاعًا لم تحافظ عليه مثل الرجال 

الضعف والهزيمة والبكاء صفات أنثوية، أما المقاومة والحفاظ على الأوطان والأملاك فهي من مهمّات الرجال. 

*ويقول خليل مطران في قصيدته «يوم مقتل بزرجمهر»:

ما كانت الحسناء ترفع سترها لو أنَّ في هذي الجموع رجالا 

*ويقول المتنبي في رثاء أم سيف الدولة الحمداني:

ولو كان النساء كمن فقدنا لفضّلت النساء على الرجال 

فصيانة الشرف المجتمعي مما تقترفه النساء من كشف إحدى عوراتها وتثبيت المكانة الفضلى للذكور هما من بديهيات حقوق الرجل بلا منازع.  

ويزخر تراثنا الشعبي المجتمعي ومأثوراتنا الشعبية من شعر وغناء ومعتقدات وأمثال وحكايات وعادات بكل ما يرسّخ هذه الصورة للمرأة العربية، والتي تستخدم مبرّرًا لحرمانها من حقوقها الإنسانية.

من هذا كله يتبيّن، مع بعض الاستثناءات التاريخية المتواضعة، أنَّ ثقافة العيب والعجز تحيط بالمرأة من جميع الجهات: فالمجاهرة باسمها، وإطلاق صوتها وكلامها، والتعبير عمّا يخالجها، وحضورها مع القوم…كلها عيوب ونقائص ومدعاة للعار ومهانة لشرف الرجال وكرامتهم وموقعهم الاجتماعي.

Read more