التحرّر بالكتابة والتميّز بأخلاق الثقافة
Abstract
As much as I tried to shed light on the historical causes and origins that were behind the oppression and distortion of woman’s image, religions, events, and circumstances overlapped, deeming her as an ossified constant, especially in Arab societies. I also focused on the cultural aspect to address the subject of woman’s writing as I consider it at the top of the factors that allowed and enabled women to launch their demands for justice and restore their usurped rights and establish them, not only in social norms, but also in local and international laws and legislation.
To preserve the integrity of the goals that I sought from addressing this issue, I was firmly interested in the perseverance of woman as a fighter who achieved her ambitions in writing and overcame its “veto” and exclusivity as an absolute masculine privilege. The woman is at the helm of maintaining the health and safety of life and societies and in order to exercise her role in cultural enlightenment and morality, she is required, through writing, to declare her honest and clear position in the face of what is happening in the world of transformations and demands, all of which contradict the system of values and morals and pose a serious threat to the fate of humanity with its deep-rooted orientations in materialism, consumerism and freedoms devoid of virtue.
Through writing, the woman’s position is continuously transformed into programs and studies that help empower change and reform.
I hope that I have achieved my goal in terms of fairness and integrity in conveying the cultural message to the community.
تمهيد
في تناولي موضوع هذا البحث، اعتمدت المنهج الثقافي لمعالجته ومناقشته.
إنَّ قضية المرأة، كيانًا وحضورًا ودورًا، لا يمكن أن نتعامل معها خارج نطاق الثقافة بمفهومها المعرفي الشامل، التراثي والسلوكي والأخلاقي.
وبقدر ما حاولت أن أضيء على الأصول التي كانت وراء توصيف المرأة عبر حِقب تاريخية، تداخلت فيها الأديان والأحداث والظروف، وحوّلتها إلى ثوابت متحجّرة، لاسيَّما في المجتمعات العربية، فقد عمدت إلى التركيز أيضًا على الجانب الثقافي، لمعالجة مسألة الكتابة عند المرأة، لأنني أعدُّها على رأس العوامل التي أتاحت للمرأة أن تطلق مطالباتها بالعدالة واستعادة حقوقها المسلوبة وتثبيتها، ليس في الأعراف الاجتماعية فحسب، وإنما في القوانين والتشريعات المحلية والعالمية.
وبهدف الحفاظ على تكامل الأهداف التي أتوخَّاها في معالجة هذه القضية، فقد كنت مهتمًا حدِّ الإصرار بإشراك المرأة كمناضلة حققت طموحاتها في إلغاء “فيتو” الكتابة وكونه امتيازًا ذكوريًا بالمطلق، وكمسؤولة في المحافظة على صحة الحياة والمجتمعات وسلامتها، لممارسة دورها الثقافي التنويري الأخلاقي عن طريق الكتابة لإعلان موقفها الصريح والواضح والمسؤول أمام ما يجري في العالم من تحوّلات ومطالبات تتعارض مع منظومة القيم والأخلاق، وتشكّل تهديدًا خطيرًا لمصير الإنسانية على هذه الأرض، بتوجُّهاتها المغرقة في المادية والاستهلاكية والحريات المتجرّدة من الفضيلة، وبأهمية تحويل هذا الموقف إلى برامج ودراسات مستمرة من أجل تفعيل تأثيره في التغيير والإصلاح.
وآمل أن أكون قد حققت ما أرمي إليه من عدالة في التناول وأمانة في أداء الرسالة الثقافية للمجتمع.
***
المقدّمة
المرأة…
في البدء كانت قضيتها اللغز، اللغز الأكبر عبر الزمان الممتد منذ الخلق، والتي أثارت وطرحت أسئلة معقّدة ومسائل شائكة وأثارت عواصف هائجة متناسخة حول كينونتها وحضورها وموقعها الاجتماعي مع الجنس الآخر – الرجل، ودورها الإنساني في الوجود.
اللغز الذي تكمن فيه مزايا هذا المخلوق المجبول بالجمال والرقة والحنان وفيض العاطفة.
هل خلقت المرأة من ضلع الرجل وهل كان خلقها من ضلع أعوج كما جاء في الإسرائيليات وسفر التكوين في العهد القديم (تكوين2 :22) ؟ أم إنَّهما عنصران متلازمان أساسيان في التكوين الإنساني «خلقا من نفس واحدة»؟ كما جاء في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ ) 1 – النساء)
هل المرأة سرّ أسرار الكون المكتومة العصيّة على الكشف؟ أم أنَّ الرجل أعجز من أن يسبر أغوار هذا المجهول، الذي لا غنى عنه، والذي صُنع هكذا بطبيعته ومكنوناته ومزاياه، والذي ما أن يتخيّل الوصول إلى شواطئه حتى تقذفه أمواجه العاتية إلى اللجة التائهة من جديد؟
هل المرأة هي نصف المجتمع تكريمًا؟ أم إنَّها حقَّاً المجتمع كلّه، مصدر الحياة بخصوبتها، وصانعة الحياة بحملها وإنجابها النساء والرجال وصانعتهنَّ وصانعتهم، ومشكّلة، بالمشاركة الطبيعية الصحيحة مع الرجل، العامل الرئيس لاستمرار الجنس البشري على هذه الأرض؟
من هذه المقدّمة المختصرة، أدخل في المسألة المطروحة في هذا البحث «المرأة كاتبة …لماذا؟» وأرى أنَّ السؤال الواجب طرحه في هذا المقام هو: المرأة كاتبة، فكيف ولماذا لا يكون التمييز؟ وذلك تأسيسًا على ما يزخر وما يفيض به الموروث الثقافي، شرقًا وغربًا، من مصطلحات استعلائية للرجل، أو بجملة مختصرة، بما يعتريه من نمطية جنسانية، لمصلحته، دينيًا ولغويًا واجتماعيًا وأدبيًا وقانونيًا وتربويًا وإعلاميًا ومهنيًا، واختلافات بيولوجية، وقدرات فكرية وإبداعية وجسدية؟!…
عندما تحاصرنا الأوبئة لا يعود السؤال عمن أصيب ولماذا أصيب بها، إنما يتوجّه تساؤلنا نحو كيف ولمَ لا نصاب وما السبيل للحماية؟
أحاول أن اتناول هذه المسألة من الجانب المنتِج والمصدِّر لها، أي الجانب الثقافي العام، وتحديدًا في ثقافتنا العربية، مع الاحتفاظ الشديد بما تكتنفه الثقافات الأخرى من تماثل أو مبالغة، بهدف رصد الأسباب التي كانت وراء هذا التمييز.
عندما نتحدّث عن الثقافة فإنَّما نقصد التشكيل المعرفي الشامل، الذي يتحوّل بمجموعه إلى مولّد ناشط لرؤانا ومواقفنا وعلاقاتنا وسلوكنا في الحياة.
المرأة إلهة، والمرأة ملكة، و… هذه الصفات والمواقع كلُّها لا تثير تساؤلاً ولا تحدث استغرابًا ولا مواقف بين القبول والاستنكار والرفض. وحدها، وحدها فقط، المرأة الكاتبة تبدو وكأنها تمثّل تحدّيًا وتهديدًا صارخًا وخروجًا عن المألوف الثابت والمقدّس وكسرًا للخطوط الحمر للنمطية الذكورية المتجذّرة في النفوس والعقول.
أشكال التفضيل والتفوّق الخاصة بالرجل قد يُسمح للمرأة المشاركة فيها جميعاً ضمن معادلة «الكوتا» التي تنامت الدعوة إليها مع بدايات القرن الماضي، تكرّمًا وتنازلًا من الرجال، وتمّت ترجمتها في القوانين.
والأصوات المنادية بالمساواة بين الجنسين – القطبين المتجاذبين – على هذه الأرض يمكن التساهل والتعاطي معها بنِسب متفاوتة.
لكن أن تتجرّأ المرأة على اقتحام ميدان الكتابة «المحرّم»، لتكرار تجربتها مع الشجرة المحرّمة في الجنّة، فهذا من أخطر ما يهدّد الاحتكارية الذكورية ويشكّل خرقًا فاضحًا لسرّيّة امتلاك الفكر والتعبير عنه.
الفصل الأول
لوحات صادمة!
من الصور المنحوتة للمرأة في صخور الذاكرة الثقافية تتبّدى أمامنا رموز العار والعيب، والعجز الفكري والقصور الجسدي، والبراعة في استخدام وإشهار أسلحة البكاء والتحايل والرياء والغواية والفتنة، ما يتوجب سجنها في منزلة وضيعة دون منازل الذكور.
في قصة الخلق أنَّ آدم وحواء سارعا إلى ستر عورتيهما (سوأتيهما) بورق التوت. والسؤال: لماذا غابت عورة الرجل وبقيت عورة المرأة؟ لا بل لمَ أضحت المرأة عورة مَرَضية من قمّة رأسها حتى أخمص قدميها؟
في كتابها «مشكلة المرأة في الفكر الجزائري الإسلامي» أوردت الباحثة سعيدة درويش «صورًا صامتة لأربع حالات انتقتها الثقافة للمرأة وهي:
1 – صورة المعشوقة التي ترد في أشعار العشَّاق وحكاياتهم.
2 – صورة الموؤودة التي لا يسمح لها حتى باكتساب ملكة الكلام.
3 – صورة الآلهة التي تعطى بغير إرادتها الشرعية للرجال كي يتحدثوا باسمها.
4 – صورة الملكة في الواقع التي تحكم بما يريده الرجال.»
كما بينت الباحثة ليلى أحمد في كتابها «النساء والجنوسة في الإسلام» «أنَّ ثقافات مجتمعات الحضارات القديمة، وتحديدًا مجتمعات الإمبراطورية الفارسية والرومانية والبيزنطية، كانت تضع قيودًا عدة على حياة النساء وتحطّ من قدرهن وتحقّر من شخصياتهن، بل إنها أول مجتمعات أسّست لفكرة وممارسة عزل المرأة عن الحياة العامة، ونصّت على احتجازها في المنزل؛ خاصة لدى المجتمع الإغريقي القديم في أثينا قبل الميلاد، حيث برزت ممارسات اجتماعية وقوانين أدّت إلى قهر المرأة وفرض سيطرة المجتمع الذكوري عليها».
كما ذهبت إلى أنَّ «ما جاء به أرسطو حول دونيّة جنس النساء عن الرجال من النواحي البيولوجية والعقلية والنفسية والفطرية هو ما كرّس سيطرة الرجل وزاد من دونيّتها، أضف إلى ذلك تشبيهه حكم الرجال للنساء بحكم الروح للجسد أو سيطرة العقل على العاطفة، وبهذا في نظرها تكون أفكار أرسطو عن المرأة هي التي قنّنت للتحيّز والعبودية وللتراتب الإنساني والاجتماعي الذي ورثته أجيال ورموز الفكر في الحضارتين الأوروبية والإسلامية (باعتبارها) حقائق علمية ومسلمات فلسفية أصلية تنمّ عن نظرة عميقة للحياة وجوهرها.»
عن خلفية هذه الصور أتساءل، ليس من باب التبرير أو دفع التهم عن الرجل أو رفع الظلم عن المرأة، إنَّما من زاوية تفسير التاريخ والوقوف على حقيقة الأسباب والدوافع التي ولّدت ورسّخت وضخّمت ملامح وتفاصيل هذه الصورة عبر آلاف السنين ولدى مختلف الشعوب والحضارات.
هل من المنطقي تاريخيًا أن تكون هذه الصفات الملتبسة قد ألصقت بالمرأة عبثًا أو عمدًا أو عن طريق التكوين من غير أسباب ودوافع وشواهد وممارسات وخبرات؟
فالمرأة والرجل خلقا معًا في لحظة زمنية متقاربة، فكيف انبثقت علل العجز والقصور والتبعية والعار والانكسار لدى المرأة، مقابل هيمنة الرجل وسطوته؟
لا بد من وجود عوامل ووقائع ملموسة ومشهودة أدّت إلى تكوين هذه التصوّرات والتمثُّلات القديمة ومن ثم تطوّرها وتغوّلها حتى تمدّدت إلى عمق ثقافات الشعوب البشرية أو المجتمعات الإنسانية ودخلت في صميم تكوين التراث الثقافي والأعراف والتقاليد والسلوكيات.
*في وصفه جرأةَ ابنته على الكتابة النسوية والحديث عن «الجنس الآخر» تباهى والد الفيلسوفة والمفكّرة سيمون دي بوفوار فقال: «سيمون تفكّر كالرجل». هذه العبارة تختصر ببلاغتها واقعًا فاضحًا، كيفما قلّبنا أوجهها مدحًا أو ذمًا، لأنه يوحي في معانيه أن التفكير بطبيعته وقف على الرجال وخاصيّة من خصائصهم.
فهل التفكير هو أيضًا من جملة الأضلاع العوجاء المنزوعة من الرجل؟ وهل الإبداع الفكري ملكية حصرية ذكورية بامتياز؟ وهل التفكير قاعدة للرجل واستثناء للمرأة من باب إقامة «التابوهات» الحصينة؟
*وحينما تقول دي بوفوار صاحبة النص التأسيسي للنسوية المعاصرة: «لا يولد المرء امرأة وإنَّما يصبح كذلك»، فإنَّما تريد أن تؤشّر إلى التأثيرات الاجتماعيّة التي ساهمت في هذه الصناعة.
وما نقع عليه في موروثنا الثقافي العربي يأخذنا إلى أبعد من ذلك أيضًا.
فصورة المرأة العربية ظلامية في تفاصيلها كلِّها: مضطهدة، مهمشة، قاصرة…
اقتطف بعض ما ورد في ثقافتنا الموروثة المتجذّرة حول هذه المسألة:
*إنَّ بيت الشَّعْر للبدوي يتألف من الصدر والعجز، صدرُ البيت لاجتماع الرجال، وعجزُه لإخفاء المرأة «العاجزة العورة».
وفي تقسيم بيت الشِعر العربي نقع على الصدر والعجز تيمّنًا بالتقسيم الجندري.
*المرأة مجلبة للحاجة والعار، فلذا وجب وأدها وهي حيّة.
وجاء في كتاب الله العزيز، القرآن الكريم: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)﴾ (النحل).
*يقول الشاعر زهير بن أبي سُلمى في معرض ذمِّه لآل حصن:
وما أدري وسوف إخال أدري أقومٌ آلُ حصن أم نساءُ
فالمرأة ليست من عداد القوم الموقوف على الرجال فقط.
*تقول عائشة أم أبي عبد الله الصغير له فيما كان يبكي خارجًا مهزومًا من غرناطة:
ابكِ مثل النساء ملُكًا مُضاعًا لم تحافظ عليه مثل الرجال
الضعف والهزيمة والبكاء صفات أنثوية، أما المقاومة والحفاظ على الأوطان والأملاك فهي من مهمّات الرجال.
*ويقول خليل مطران في قصيدته «يوم مقتل بزرجمهر»:
ما كانت الحسناء ترفع سترها لو أنَّ في هذي الجموع رجالا
*ويقول المتنبي في رثاء أم سيف الدولة الحمداني:
ولو كان النساء كمن فقدنا لفضّلت النساء على الرجال
فصيانة الشرف المجتمعي مما تقترفه النساء من كشف إحدى عوراتها وتثبيت المكانة الفضلى للذكور هما من بديهيات حقوق الرجل بلا منازع.
ويزخر تراثنا الشعبي المجتمعي ومأثوراتنا الشعبية من شعر وغناء ومعتقدات وأمثال وحكايات وعادات بكل ما يرسّخ هذه الصورة للمرأة العربية، والتي تستخدم مبرّرًا لحرمانها من حقوقها الإنسانية.
من هذا كله يتبيّن، مع بعض الاستثناءات التاريخية المتواضعة، أنَّ ثقافة العيب والعجز تحيط بالمرأة من جميع الجهات: فالمجاهرة باسمها، وإطلاق صوتها وكلامها، والتعبير عمّا يخالجها، وحضورها مع القوم…كلها عيوب ونقائص ومدعاة للعار ومهانة لشرف الرجال وكرامتهم وموقعهم الاجتماعي.
الفصل الثاني
الكتابة والمرأة
أمام هذا الموروث الثقافي المتأصّل، ما بالنا بالمواقف والارتدادات التي يثيرها إقدام المرأة على الكتابة، وانتهاكها مجمل الحدود في المحظورات والممنوعات، واقتحامها أخطر الحصون في الكشف والفضح وإلغاء السرّية والحجر على هوّيتها وأفكارها وصوتها وكلامها؟!…
إنَّ الكتابة هي فعل خلق لا نسب له إلّا المعرفة والتعليم والتفكير، وهي حتمًا ليست من ضلع الرجل مستقيمًا كان أو أعوج، لأن العقل هبة الخالق للكائن الإنساني ذكرًا وأنثى من دون فروق، ولأنَّ التفكّر حق مشاع للخلق.
والكتابة تعني التوثيق والحفظ والديمومة للأفكار والأقوال في وجه عاديات الاضمحلال والضياع والفناء وتثبيت الأحداث والوقائع وانتشارها وانتقالها للأجيال.
والكتابة تعني السماح للمرأة باكتساب حق الكلام كذات مستقلّة فردية تملك، كالرجل، رغبات وعواطف وأفكارًا، ويمكنها تعريتها والبوح عن عالمها الداخلي وسفحه على الورق وإطلاقه إلى النور بعيدًا عن مقاييس العيب والحرام وعن الرقابة المفروضة على ما تقول وما تفعل وما تتمنى.
والكتابة ثمرة أدوات وخبرات ومهارات حُرّمت على المرأة زمنًا طويلًا. فإذا كان الرهان الحقيقي في التحرير رهاناً ثقافياً بالدرجة الأولى فلماذا إذن يُسمح للرجل التعبير للكشف عن هذا اللغز الأنثوي وتعقيداته ويحرّم بالمقابل على المرأة القيام بذلك؟
والكتابة الإبداعية المطلقة خارج أغلفة العلوم والدراسات المحدّدة، هي صورة صاحبها، هي إخراج تعبيري صادح لما في حميم الذات وما ينتابها من همّ وغمّ، وما يتناوب عليها من أزمنة الرجاء والطموحات، وما يعترضها من أحداث ومواجهات، وهي إطلاق الصرخة على مداها والإفراج عن المكبوت والمختزن، وهي طرد النار المشتعلة بين الأضلع إلى الفضاء الواسع. هي رحلة إثبات الذات على الساحة الثقافية حيث «لا إبداع خارج الذات».
والكتابة هي حضّ الآخر على التشارك وتحفيزه للانغماس في اللحظة الحدثية ودعوة لحضور معرض فكر الكاتب جهارًا نهارًا من غير قفَّازات ولا أقنعة.
والكتابة للمرأة هي أول خرق لذكورية التاريخ الثقافي وإلغاء للحدود الثقافية بين الذكورة والأنوثة، وأول خطوة في طريق الاستقلالية وحق الاختيار، وأول صرخة للرفض والتمرّد على الواقع والخروج من العزلة والانطلاق في مسيرة المشاركة الإنسانية كاملة.
عندما تلجأ المرأة للكتابة فلكي تعرض قضاياها الوجودية وتناقش حضورها ودورها وحقوقها في المجتمع وما تعيشه من صراعات على جبهات كثيرة.
«إنَّ المرأة تستعمل الكتابة لإعادة تشكيل ذاتها.» كما تقول الكاتبة والناقدة سوزان غوبر.
من هذه المعاني – الأسلحة – التي تمتشقها المرأة في جبهة الكتابة، يمكننا أن نقارب السؤال الأول الذي طرحناه: كيف ولماذا لا يكون التمييز؟
ومن هذه المعاني يمكننا أن نفسّر لجوء المرأة للتحرّر بالكتابة وإصرارها على مواصلة هذا النهج، حتى لو ألجأها ذلك إلى اعتماد التقيّة والكتابة بأسماء مستعارة.
ولا أزعم أبدًا أن أوضاع المرأة هذه ما تزال سائدة اليوم بعد أن حقّقت خروقات مهمّة وأساسية في الجدار الثقافي المكين، وأثبتت جدارتها وأهليتها في المجالات كافة، كما احتلت مواقع فاقت ما كان حكرًا على الرجل، مع الاعتراف بالأسى لما تزال المرأة ترزح تحته من هيمنة واضطهاد وإذلال في بعض المناطق، ولما تساهم به بعض النساء أنفسهن في الإذعان لهذا الواقع والخضوع له والاقتناع به.
إنَّ أي تقدّم للحركة النسوية، في أي مجال، سوف يبقى مبتورًا وناقصًا ما لم يتضافر مع تغييرات اجتماعية وثقافية واقتصادية وينجح في استقطاب المؤيدين والداعمين من الجنسين للتأثير في قلب الصورة النمطية وفي إصدار التشريعات المحقِّة على المستويين الوطني والعالمي.
الفصل الثالث
غياب الصوت!
في سياق هذه الإنجازات الكبيرة، وعبر الطريق الشاق لفتح الجدار المسدود، على الحركة النسائية أن تعي حقيقة كينونتها وطبيعة تكوينها فلا تتخلى عن مزاياها ولا تمزّق في طريقها كل ما تحمله من تفرّد في الخصائص وسموٍّ في المهمّات والأدوار.
فالأنوثة يجب عدم إسقاطها بالمساواة نكاية وانتقامًا من الجنس الآخر.
والأمومة وصناعة الأجيال لا يمكن التفريط بهما والتخلي عنهما ووضعهما في سلّة المطالبات بالمساواة والحقوق والحريات.
إنَّ من أكبر الآثام التي ترتكبها حملات الزحف نحو المساواة، هو غرق المرأة في التوجهات المتطرِّفة تحت شعارات ديموقراطية وليبرالية وعلمانية، زائفة ومدمّرة، استسلامًا لتيار المادية الاستهلاكية الجارف وتسليع القيم الجمالية والأخلاقية والأسرية، وبهدف الانقلاب على سنن الطبيعة والتفلّت من كل الضوابط والأصول والقواعد والمسؤوليات، ولغاية إشباع النزوات والغرائز الجنسية من دون قيود ولا حدود.
إنَّ الحريات بلا فضيلة تتحوّل إلى فوضويات كارثية، وإنَّ بناء المجتمعات لا يمكن أن يتمَّ بغير أب شرعي وأم شرعية وأسرة صحيحة وسليمة. وإنَّ أدهى ما يصيب حاضرنا المتسارع نحو الانعتاق من الالتزامات والقيم هو قوننة الشذوذ في علاقات الرجال والنساء، وتجميله في مسمّيات خادعة، والإمعان في تشريع المثليّة والمساكنة وإباحة العلاقات الجنسية والإجهاض خارج الضرورات الصحية والطبية.
في عددها الصادر بتاريخ 09/08/2018 نشرت «وكالة الأناضول» نقلًا عن مكتب الإحصاء الأوروبي في بروكسيل (بلجيكا)، «أن 43 % من الأطفال المولودين في الاتحاد الأوروبي سنة 2016 تم إنجابهم خارج إطار العلاقات الزوجية، وأظهرت البيانات الأخيرة التي نشرها هذا المكتب أن عدد الأطفال المولودين خارج إطار الزواج ارتفع بنسبة 15 بالمائة مقارنة بالعام 2000.»
ومن أخطر التوقّعات الصادرة عن عدد من المؤلفين الغربيين تلك التي تنذر بـ”بموت الغرب، وأفول الغرب، وسقوط أو انحدار الحضارة الغربية، بسبب السقوط الأخلاقي الذي ألغى (كل) القيم التربوية والأسرية والأخلاقية التقليدية، والترويج لمشروع الدمار الذي يحكم العلاقة بين الرجل والمرأة ويصوغها بالصورة التي تضر بهما معًا.»
إنَّ ما يعانيه عالمنا اليوم من ويلات ونكبات وأخطار تهدّد مصير الوجود الإنساني كما تهدّد الأرض نفسها إنَّما يتحمّل مسؤولياته الأغلبية العظمى من الرجال.
وعلى المرأة أن تكفّ وتنأى بنفسها عن الانضمام إلى هذه اللعبة الجهنمية لتعيد التوازن الطبيعي للوجود. فكما نجحت في انتزاع حقوقها المشروعة، عليها أن تستمر في النضال لتقود حملة إعادة إحياء الإنسان والمجتمعات.
ولكن…
ومع شديد الأسف فإنَّ الصوت النسائي، وبالكتابة تحديدًا، كان خافتًا، إن لم نقل غائباً، إزاء هذه الوقائع الصادمة والتحوّلات الخطيرة والظواهر الشاذّة، التي أخذت ألسنة نيرانها تطال الكيان الأسري والتكوين الاجتماعي والمصير الإنساني بعامة.
فهل اكتفت المرأة بما حققته من مكتسبات في مجال الحقوق المنتهكة واستعادة ما استُلِبَ منها عبر العصور وتربّعت على بعض عروش المساواة مع الرجل، متخلّية عن وظيفتها ودورها الأسري والتربوي والاجتماعي، حتى تهنأ بإبداعاتها الكتابية الأدبية والروائية والنقدية وبما تطمح إلى إطلاقه في “التعريف بالأنثى” والاستغراق في إطلاق ما تكتنزه من أحلام ورومانسيات وعواطف؟
ألا يعنيها، وهي المكوّن المشارك، إن لم يكن الأساسي، ما يجري حولها وأمام ناظريها من محاولات التدمير والتفتيت والانحدار؟ أم إنَّها، حقًا ترى أنَّ هذه المحاولات والتطوّرات جزء أصيل وجوهري مما كانت تصبو إليه وتكافح؟
وإذا صحّ هذا الاحتمال فالمصيبة ستكون أعظم بكثير، وربَّما نكون أمام انتكاسة مفجعة للمسيرة النضالية النسائية التي رُفعت فيها شعارات مثالية كبرى.
خاتمة البحث
متابعة المسيرة …التميّز بأخلاق الثقافة
المطلوب، من الحركة النسائية، بإلحاح وإصرار، أن تخرج من تخوم عالمها وقضاياها الخاصة، وأن تستعيد نهضتها وتستجمع قواها، لتعلن موقفها ومبادئها وأهدافها وبرامجها، وتساهم في مجال الكتابة والإبداع، بشكل واضح وحاسم، في الاهتمام بكل ما يجري حول العالم، بهدف التصدّي له ومنعه من مواصلة حملة التخريب، ولإعادة المُزق التي طالت صورتها الحديثة، والتبرؤ من التهم التي يمكن أن تُلصق بها، على أنها مشتركة في هذا المنزلق الإنساني، وشيطانة خرساء في سكوتها عن التصدّي لهذه الهجمات المتصاعدة، لاسيّما وأن الكتابة هي نتاج ثقافي عام يشمل السلوك كما الأفكار، ويتأسس على احترام القيم الأخلاقية.
ولا يمكن أن يكون مقبولًا أن تقوم المرأة، بالانقلاب على مكوّنات صورتها الحديثة فيما هي تسعى لإزالة ما علق بها من تشوّهات.
فهل انكفاء أو تقاعس المرأة أو تخاذلها عن المشاركة في مواجهة هذه التطوّرات الهدّامة هو وليد بعض من المعطيات التي كوّنت سابقًا مواصفاتها وخصائصها، وعودة إلى المربّع التاريخي الأول بعد مئات السنوات من الجهود؟
فكما يكون التحرّر بالكتابة، فإن التميّز يكون في التزام أخلاقيات الثقافة، أي في احترام قيمة الإنسان وقيمة الحياة.
المصادر والمراجع
أولًا: المصادر الدينية:
1 – الكتاب المقدّس (العهد القديم)
2 – القرآن الكريم
ثانيًا: المراجع الأدبية:
3 – مختصر دي بوفوار.
-4 ديوان زهير بن أبي سلمى
5- المظلومون في التاريخ – شاكر مصطفى
6- الأعمال الشعرية الكاملة – خليل مطران
7- ديوان المتنبي
8- أفول الغرب – حسن أوريد
9- تدهور الحضارة الغربية أو انحدار الغرب – أوسفالد شبينغلر
10- – موت الغرب – باتريك جي لوكانان
ثالثًا: الدوريات والصحف
11- فصلية الثقافة الشعبية العلمية المتخصّصة
12- جريدة الرأي الأردنية
رابعًا: المواقع الإلكترونية
13- موقع القدس العربي
14- موقع الجمهورية نت
-15 موقع وكالة الأناضول