"مخطئ من ظنّ يومًا أن للثعلب دينا"

د. علي منير حرب

مونتريال – كندا 05/06/2020

مجلة “المستقبل الكندي”/ عدد حزيران 2020

يا ثوّار لبنان،

أيّها الثوّار المنهكون جوعًا وظلمًا وذلاً وقهرًا ومهانة.

أيّها الثوّار الحفاة العراة المدجّجون بالحرية والكرامة والوطنية. 

أيّها الثوّار الشرفاء المسلّحون بالصدق والطهارة والنقاء.

أبشّركم كلّهم سيسقطون.

أجل كلّهم، أعني كلّهم، من رأس الهرم المتصدّع إلى أصغر حجر في القواعد التي تحمله، وسوف تنهار كل أسوار اليأس والهلع والبلطجية التي رفعوها في وجوهكم وأمام قواعدهم الرئاسية التي يحتمون خلفها.

أجل سوف يسقطون، إن لم يكن في إنطلاقتكم الثانية لإحياء ثورتكم المجيدة، فإنني على يقين أن سقوطهم سيكون مدوّيًا في جولاتكم المقبلة والمستمرّة.

سوف يسقطهم جوعكم وذلّكم وقهركم ومهانتكم، وسوف يسقطهم عريكم وحفاكم وحريّتكم وكرامتكم ووطنيتكم وصدقكم.

كلّ الطغاة الذين حرمونا الأمل، وكل البغاة الذين سرقوا أمسنا وحاضرنا وحلمنا بالغد.

وكلّ النهّابين والفاسدين والمفسدين الذين انقضوا علينا وانتزعوا منّا اللقمة والنور والحقّ والقرش الأبيض.

وكلّ البلطجيين الذين تعمشقوا على أكتافنا كالحملان، ثمّ كشّروا عن أنياب الذئاب وأمعنوا نهشًا وقضمًا بلحومنا وعظامنا.

وكلّ المتستّرين بعباءات الزعامات الحزبية والدينية التي أمّنت الغطاء الشرعي للصوص الوطن.

أبشّركم كلّهم سيسقطون.

ستسقط دويلاتهم بأيديهم الوسخة وتناقضاتهم الوقحة وأكاذيبهم الفجّة وبلطجيتهم الفاحشة.

المؤشّرات القريبة والبعيدة، الداخلية والخارجية، تنبئ بسقوط الهيكل فوق رؤوسهم، ولن تنفعهم آنئذٍ عمليات الترقيع والتلميع والشطف والتطعيم التي سيجرونها لإنقاذهم من الوباء الذي ضربهم، بفعل أكاذيبهم وأحابيلهم وأقنعة الزيف والدجل التي تمنطقوا بها لخداعنا وخداع العالم من حولهم.

كل الدلائل تعلن الانهيار إبتداء من الكذبة الكبرى التي أطلقوها في التكليف والتأليف لحكومة الاستزلام والسمسرات والمحسوبيات والكيديات والاستئثار، وادعاءاتهم الملفّقة التي صدعت آذان الطرشان بأنها حكومة مستقلّين وتكنوقراطيين وإختصاصيين، وأنها حكومة “كل لبنان”، وأنها ولدت إستنادًا للدستور وبناءً على مطالب الثوار، فإذا بها حكومة أزلام ومستشارين وأتباع وحاقدين من الصفوف الخلفية، أدرك صاحبها والقائمون على عجنها أنها تحمل مع ولادتها تشوّهاتها الخلقية والدستورية والميثاقية والمناقبية، فسارعوا إلى طلب النجدة من مشاهدي عروض السيرك الوزاري البشع، من أجل إعطائهم الفرصة الزمنية لإثبات جدارتهم وكفاءتهم وقدرتهم على الحياة وحلّ الأزمات والمعضلات التي تحيق بالوطن والمواطن.

جاءتهم “الكورونا” بالفرصة الذهبية، فلم يصدّقوا حتى هذه اللحظة، أنهم لا زالوا يظهرون بكمّاماتهم وقفّازاتهم أمام كاميرات التصوير، وأنهم محاطون بالحرس والمواكب العسكرية.

لكنّهم سوف يسقطون.

أبشّركم أيها اليائسون،

لن تقوى “الكورونا” على حمايتهم طويلاً، فهذا الوباء المرعب سوف يزول، لكن الوباء المعشّش في نفوسهم الوضيعة، وفي ضمائرهم العفنة، وفي سلوكيّاتهم وأفكارهم وأفعالهم، سوف يقطع أنفاسهم يومًا بعد يوم.

Read more
 

لأنهم حاملو الوباء، ولأنهم ماضون في غيّهم وطغيانهم، ولأنهم ممعنون في الانكار والتهرّب، وفي العمى والصمم، سوف يسقطون.

لأنهم أمّ الرذائل والبلايا والخطايا التي طوّقت الوطن، وما جاؤوا قبل تشرين وبعده، إلاّ لارتكاب المزيد وليس للاعتراف والتطهّر والتعفّف والعلاج والخلاص والإنقاذ، سوف يسقطون.                                                                                                      

كلّ مستوعبات السرقة والفساد والطغيان والاستئثار التي صنعتها أياديهم القذرة، والتي تحوّلت إلى جبال من الارتكابات وملفات التهم والمخالفات، سوف تنفجر في وجوههم.

إمعان في الكذب والدجل للفلفة الفشل الذريع الذي رافقهم دقيقة بدقيقة.

إستغراق مميت في المحسوبيات والارضاءات واستعطاف الأشباح التي أسقطتهم بالمظلّات.

إصرار على الهروب من الحقائق المرّة باختلاق نجاحات وإنجازات وهميّة توازي في قيمتها أسعار الكذب المتدفّق من أفواههم وخطاباتهم. 

فيا للعجب العجاب، كيف تقوى ألسنة الأكاديميين والخبراء والتكنوقراطيين والاختصاصيين على “تطيير الفيلة” وصبغ الهزائم بألوأن النصر!…

إنجازاتهم ضربت رقمًا قياسيًا، بلغت 97 بالمئة من برنامج الحكومة وخطط عملها في أقل من مئة يوم.

إنها حقًا عبقرية عبقريات العفاريت في زمن الدجّالين!…

أرقصوا وهلّلوا أيّها الجائعون المصفّقون لأسيادكم، وأنتم تنعمون بأحدث نعمهم وفضائلهم:

جموح بلا حسيب ولا رقيب في أسعار الدولار، وسطو على أموال الناس وحقوقهم.

تقدّم مذهل في ارتفاع أسعار المواد الغذائية والأساسية تجاوزت نسبتها مئة في المئة، ولم توفّر “منقوشة الزعتر” التي بلغ ثمنها ثلاثة آلاف ليرة لبنانية.

إزدهار في إغلاق الشركات وهجرة رؤوس الأموال وتحليق نسبة البطالة.

إتّساع لرقعة الجوع بين اللبنانين عمّت أكثر من نصف عدد الشعب.

اندلاع المعارك مع حاكم مصرف لبنان وجمعيتي المصارف والصرّافين ثم التراجع عنها ولحس ما أفرزه جهلهم وكيديتهم.

التخبّط في تقديم الأرقام المالية الصحيحة.

التخبّط في المناقشات الجارية مع صندوق النقد الدولي والجهات المانحة العربية والدولية.

التخبّط في ملفات الكهرباء والتهريب والفيول المغشوش ومشاريع سلعاتا والخلوي والاتصالات والطاقة.

اللعنة الكبرى في القبض على القضاء وتحطيم ميزان العدل والامان.

انفجار منازعاتهم حول حقوق الطوائف والمذاهب.

فضيحة الفضائح الوطنية في تهريب العميل عامر فاخوري وشهادات الشكر والتقدير الأميركية التي رصّعت جبينهم على تعاونهم الفريد وغير المسبوق.

فتح السجلات الوسخة وتبادل الاتهامات بين بعض أعضاء هذه الحكومة وزعمائها.

تعالي صيحات الفجورحول مقام الرئاسات الثلاث وصلاحياتها.

استعادة الخطابات الوقحة في الذكرى المئوية لتأسيس الكيان، حول تغيير كيانية لبنان والترويج للفدرالية والتقسيم، وكلها دعوات صدئة سقطت عبر التاريخ وحمّلت الوطن والشعب الموت والانهيار والدمار.

اشتداد نغمة المراهنات على معسكراتهم الاقليمية والدولية التي يتمترسون خلفها.

احتدام تنازعاتهم حول قوانين “قيصر” و”قراقوش” و”الحاكم بأمر الله”.

معاركهم الدنكيشوتية حول الرئاسة القادمة.

تناتشاتهم لحصص التعيينات والتوظيفات.

إبرام الصفقات الموبؤة والمناقصات المفبركة على قياس الواهبين. 

هذا غيض من فيض من إنجازات الـ97% التي يتفاخرون بها أمامكم وأمام العالم.

فلقونا بتهديداتهم ورفع الخطوط الحمر والأصابع الفاجرة في وجوهنا.

أنذرونا بعدم التعرّض لقوى الأمن والجيش، لأنهم حماة المتظاهرين الأبرياء.

هددونا بتفجير أنفسهم بيننا وإطلاق الرصاص علينا، مع سبق الترصّد والتصميم، وانتزاع أرواحنا إذا ما تعرّضنا لمقدّساتهم ومعادلاتهم وأصنامهم، في محاولة إستباقية لضرب الثورة والثوّار، ومن الثابت أنهم لن يتورّعوا عن إغراق الأرض بالدماء والنار.

لمن يسمع ويرى:

متى اعتدى المتظاهرون السلميون منذ انطلاق الحراك أو الانتفاضة أو الثورة أو ما شئتم تسميتها، على أي عسكري أو جندي أو ملك خاص أو عام؟

أرني صورة واحدة لمتظاهر سلمي شريف قام بأي عمل مخلّ بالأمن والقانون.

هل المتظاهرون السلميون الشرفاء هم الذين حملوا العصيّ والسكاكين واستباحوا الشوارع وأجساد الناس وأرواحهم؟

هل هم الذين قذفوا الحجارة المعدّة في جيوبهم على رجال الأمن؟

هل هم من حطّموا واجهات المصارف والمحال والسيارات المتوقفة على جانبي الطريق؟

هل هم من هاجموا وحاصروا وأحرقوا أبواب مصرف لبنان وجمعية المصارف وواجهات المصارف؟

هل هم من حطّموا قبضة الثورة واقتلعوا خيامها وأحرقوها بمن فيها من الناشطين؟

اسألوا وزير الداخلية الذي نفض يديه من مسؤولية الاعتداءات التي حصلت متذرعًا بأنه لا سلطة له على هؤلاء!؟

هل هم من استباح الشوارع لتأكل بعضها؟

فتّشوا عن الطوابير الخامسة والسادسة والألف وعن أحصنة طرواداتهم التي تسللّت تحت ثياب الثائرين.

هل امتلك الثوار غير حناجرهم ودموعهم وصرخاتهم وأحيانًا طناجرهم يطرقون بها أسماعكم التي صمّت عن نداءاتهم؟

هل هم من وقّع التحالفات والاتفاقات والتفاهمات مع جهات مختلفة، بغية تحقيق الأطماع التاريخية باحتلال الكراسي على حساب الدستور والمؤسسات والكيان والوطن كلّه؟

قد نسلّم جدلاً بحق أي طرف سياسي بعقد التحالفات السياسية مع هذه الجهة أو تلك، تحت مظلة الدستور وحماية الجمهورية وحقوق المواطنين، وهذا أمر وارد وواقعي في أكثر الدول ديموقراطيةً وفي ظلّ نظام برلماني حرّ. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا لماذا انفضّ أكثر الحلفاء من حول العهد؟ ولماذا لا يجرؤ سيّده حتى الآن على عقد تحالف مع أبناء الشعب، وهو أب للجميع، المعذّبين والمذلولين والتعساء، لحمايتهم من براثن الفقر كما حمى أحلافه وحماته؟  

أيّها الثوّار الشرفاء،

سوف تنتصر ثورتكم قريبًا وقريبًا جدًا لأنكم وحدكم أهل الحقّ وأهل الأرض.

مهما بغوا وطغوا، ومهما حاولوا اختصار الوطن، مسيحييه ومسلميه، بعائلاتهم وأصهرتهم وزبائنيتهم وأتباعهم.

ومهما أقاموا من تحالفات وتفاهمات وتقاطعات في المصالح والمفاسد.

أيها الثوّار الشرفاء أبشّركم بانهيار سلطانهم، فالتاريخ لا يكذب مهما حاول المنتصرون تزييفه وتزويره.

هل قرأتم تاريخ الثورة الإنجليزية، في القرن السابع عشر، وكيف انتهى الملك جاك الأول يوم طرح أفكارًا سياسية حول الحق الإلهى والوراثى في الحكم، وأن الملك ليس مسؤولًا أمام رعاياه وأن الملك لا يُمكنه الخضوع للقانون كونه هو القانون؟

هل قرأتم كيف انتهت هامة ماري أنطوانيت الفرنسية تحت المقصلة يوم دعت الشعب إلى تناول البسكويت بدلاً من الخبز؟

أيّها الثوّار الشرفاء،

ضنًّا بدمائكم المقدّسة وعرقكم الطاهر وأصواتكم الشريفة، فقط …فقط أيها الثوار النبلاء…أبقوا أحرارًا منعتقين من عصبيّاتكم المذهبية والطائفية والحزبية، وحافظوا على شعاركم الموحّد في صنع دولة نظيفة عادلة، مهما اختلفت أولويات مطالبكم وخرائط طرقكم.

النصر ينتظركم كما ينتظر سقوطهم، فالأسود المدجّنة في أقفاص السيرك تصلح للرقص لا للسيادة.

يا شعب لبنان العظيم بحقّ والمخدوع بحقّ،

أنتم أهل القرية الوادعة الوفيّة وهم “الرعاة الكاذبون”.

أنتم “ليلى” البريئة العطوفة وهم “الذئاب” المتلحّفون بأسرّة أجدادنا وجدّاتنا.

يا أيّها الثوّار الأحرار: “مخطئ من ظنَّ يومًا…أنَّ للثعلبِ دينا”.