شاعر الأمّة

ملحمة الرسول سيدنا النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم

للشاعر د. محمد توفيق صادق

إهداء وتقديم

[بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد النبيّ الأميّ وعلى آله وصحبه وسلّم أجمعين.
إليها!!..
إلى المنديل الأبيض المطرَّز بالإيمان…
إلى فستانها المضمَّخ بعطر الصلاة…
إلى التي كانت تتغاوى بختْمِ والدها الممهور في خواتيم رسائله: «لله القائم بالدين محمد يوسف سيف الدين»
إلى الملاك أمي: رمز الحبّ والحنان والتضحية…
ذات مساء، أتمَّت صلاة العشاء واسْتخارت الله بدعوةٍ فريدةٍ، متضرّعة أن يهبها الله مولودًا ذكرًا بعد أن أنجبت أنثيين، قائلةً: «يا ربّ.. هَبْني ولدًا عالِمًا مُتَعَلِّمًا، فَصيحًا مُتَكَلِّمًا، وأسمِّيه محمّدًا بجاه النبيّ محمد
وسبحان الله، سبحان الله.. الذي استجاب دعوة الأم الصالحة…»
فقد أنجبت ولدًا ذكرًا يوم الاثنين، في عيد المولد النبويّ الشريف، وأسمته محمّدًا، وكان هذا الوليد هو أنا…
فإلى روحك الطاهرة، واستكمالًا لهذه الدعوة المستجابة أهديك يا أمّاه، ودموعي تترقرق «ملحمة الرسول الحبيب محمد»، علِّي أفي، بنعمة البيان التي أنعمها عليّ بفضل دعائك، لتكون مغفرة لذنوبي، وشفاعة لي ولك يوم الدين، ووفاءً لمسيرة نبيّنا العظيم، والله على ما أقول شهيد.]

 

***شاعر الأمّة***

د. علي منير حرب

مونتريال – كندا في 2019/08/12

حين وضع فارس الشعر، الصادق محمد، معجزته الملحمية الشعرية “ملحمة الأمّة”، بين يديْ، وقد أدماني ببعضٍ من أنّات أوجاعها وشكاوى فؤادها وقروح جراحاتها وطعان الناكرين والمتنكّرين لحليبها ولبنها، ثم رفعني على صهوة جواد عربي أصيل، فارسًا عربيًا ماجدًا، مسح بلمعة سيفه المتوهّج، وجه الليالي السود ليتيح للإنسان رؤية وجه الله الممتلئ بهاءً وجلالًا وعظمة…

حين فعل، هل كان يعلم أنه بذلك كان يفتح أمامي كل أوراق التاريخ!؟ وكل حكايا المجد!؟

إسمح لي، أيها الملحميّ الفذّ، أن أتجاوز هذه المرّة أصول النقد الفني ومناهجه. فما أمطرَته عليّ معجزتك الشعرية الفريدة، من لوحات وإيحاءات ورؤى، جعلني مغسولاً أتقطّر وألتجئ إلى منبت الروح التي صاغت وجوهرت وأشعّت. كيف لا، وملحمة الأمّة، يا صديقي الأعزّ، هي أمّ الملاحم الشعرية إطلاقًا، حملت في رحمها الكوني مئات المليحمات المتوثبات لتسلّق ذرى الخوالد؟!

رأيتني مسحوبًا بـ”ورقة بلاغ قسريّ”، لحضور جلسة محاكمة تاريخية، هي، كما الملحمة، أمّ المحاكم وأغربها استحالة ودهشة!  

…وفُتحت أمامي وعلى مسامعي أوراق القضية.

…وعقدت هيئة المحكمة جلستها التاريخية للنظر في آلاف الأواراق وآلاف المستندات وآلاف الوقائع المعروضة أمامها.

إنّها قضية أمّة.

أمعنوا النظر مليًا إلى قوس المحكمة الملتئمة بكامل أعضائها، فلن تقعوا إلا على عضو واحد هو الكلّ بالكلّ، هو القاضي وهو المدّعي العام وهو محامي الخصم ومحامي الدفاع، وهو الشهود والحضور في آن!…

غريب حقًا أمر هذه المحكمة التي لم يشهد لها التاريخ، ولم تشهد لها قصور العدل، مثيلًا في غابر العصور وحديثها!

محكمة بعضو واحد، والقضية قضية أمّة بأمّها وأبيها، وماضيها وحاضرها، ومثالبها ومآثرها، إنها من أعجوبات الزمان، ومعجزة من معجزات هذه الأمّة المشتكية والمشكو منها، والمتّهمَة والبريئة، والمظلومة والظالمة.

بلى، وحده التاريخ كان يجوب فضاء القاعة ناثرًا أنفاسه وأوراقه بين يدي الشاعر.

كيف بربّك يا محمّد، جمعت هذا الحشد كلّه؟ وكيف استدعيت الأنبياء والرسل والأصفياء؟ وكيف استنبشت التاريخ من قبل أيام التاريخ ومن بعد؟ وكيف أيقظت الجبّارين والعتاة وسلاطين البرّ والبحر؟ وبنّائي الحضارات ومدمّريها؟ كيف حشدت في الملفات عصورًا تلو عصور؟ وزلازل وبراكين؟ ومعارك وبطولات؟ وهزائم وإنتصارات؟ وفتوحات واستعمارات؟ و…

ويستوقفني “الصادق الأمين”: تمهّلْ ولا تستغرقْ. ألم تشهد بأنها قضية أمّة؟ وهل في أربع جهات الأرض قضية تعادل هذه القضية؟ الأمّة هي أمّنا، هي أرضنا، هي همّنا، هي شرفنا وكرامتنا وعرضنا، هي ما فينا من دماء وعنفوان وأنسنة، هي أول الكلام وأخره، هي نحن. أوَتعجب وتسأل كيف وكيف؟!…

ومَن غيرُ كبيرٍ، صادق وأمين، يلبي النداء بِرًّا بأمّ هي من خَلْق السماوات، وهي المحظيّة بخطاب الله عزّ وجلّ على لسان الروح القدس، وبلغة واحدة إبراهيمية وموسوية وعيسوية ومحمدية، وهي منجبة الأنبياء والرسل، وهي صانعة الإيمان وصانعة الإنسان، وصانعة الخير والأمان، هي صانعة الحضارة والمدنيّة، وهي خميرة الإنسانية الطاهرة، وهي، ويا لألم ما هي! وما تعانيه من جحود ونكران وضلالة، المظلومة واليتيمة والمقهورة والمثخنة جراحًا وطعنًا!…

ملحمة الأمّة!…

بل هي أمّة تسكن ملحمة!…

أمّة غزل الصادق عشقها بخيوط الأوردة، ونسجه بنور المقلتين، وطرّزه بأبهى نقوش الروح على وجنتيها القمريتين.

حضنها كما يحضن نبضه، وكما تحضن الشمس أنوارها، فتحوّل هو إلى نور الأمّة كما تحوّلت الشمس إلى نور الحياة.

اذا شئت ان تفتّش عن هذه الأمّة فلا ترحل بعيدًا في طيّات الأزمنة، ولا تحاول تنطيق الصخور والحجارة، ولا تبحرْ عميقًا في ظلمات اللجج.

توقّف ها هنا، وسوف يندلق أمامك التاريخ، من غار الصادق الأمين، أربعة آلاف عام وأكثر، كما إندلقت بهاءات الجنّة بين يدي آدم. 

كلّ التاريخ ها هنا يرقد بين ضلوع الملحمة، يرتعش، ينتفض، يطلّ بجبين العزّ والفخار، وأحيانًا يخفضه حسرة وحزنًا.

رجّ الشاعردوحة التاريخ يوقظها من سبات، فوشّحت أوارقها وجه الأفق، حدثًا حدثًا، بطلاً بطلاً، عالِمًا عالِمًا، شاعرًا ومغنّيًا وموسيقارًا وفقيهًا وحكيمًا وفيلسوفًا ولغوّيًا، ملؤوا عيون الدنيا، وبنوا شواهق من عمارات الحضارة الإنسانية من على رمال الصحراء اليابسة، لتعمّ أطراف الأرض، خضرة ونورًا وحكمة.   

ونفخ الشاعر في أوراقه روح الحياة، فتجسّدت بين يديه رموزًا من لحم ودمّ، وشموسًا من فكر وعلم وبيان، وميادين صاخبة بالصهيل والفرسان، وملاحم تطوي الفضاءات وتعيد سكبها في مرجل تتأجج نيرانه ما بين نجم ونجم.

مذ كانت البدايات مدهشات…

مذ تهاطلت المعجزات تترى تطهّر ما طفح من فطر وشوك…

مذ خضعت النار وكانت بردًا وسلامًا على إبراهيم.

ومذ إنصاع البحر ليشقّ صدره طوعًا لعصا موسى.

ومذ تمخضت النخلة اليابسة لتثمر رُطبها وتقذفه جنيًّا بين يدي مريم وكرمى لعيون عيسى، السرّي المتكلم في المهد.   

ومذ ارتجّت جدران الغار تستقبل “إقرا” وتسكبها في فمّ النبي الأمّي، محمد، المرتعش رهبة وخشية.

مذاك، نطقت الملحمة وهزّت عروش جبابرة الأرض، هي هي ملحمة السماء مع الأرض، وهي هي ملحمة الشاعر الصادق لأمّته التوحيدية، يباهي بها ما تقدّم في خلق البشرية وما تأخّر.

 كل الملحميّين نظموا ملاحم شعب، أو ملاحم مدينة، أو ملاحم قطعة من التاريخ، أو ملاحم حلم عصيّ ترعرع في أفياء الذاكرة فترة من الزمن.

وأغلب الملحميّين إستعانوا بالآلهة أو بأنصاف الآلهة لخلق صراعاتهم ومعاركهم الحمراء.

وحده، الصادق الأمين، كتب ملحمة في تاريخ الإنسانية كلّها، وتاريخ الإيمان التوحيدي، وتاريخ أمم إنضوت تحت أجنحة أمّة هي أمّها وأمومتها، وغاص في بحور الماضي يجمع ما فيها من لؤلؤ ومرجان، وينتشل بقايا المراكب الغارقة والمحطّمة، ليعيد للشمس مدارها التائه.

لم يتوقف عند بطل أسطوري معيّن أو بطلين أو ثلاثة، أو حدث هائل بعينه خلال حقبة زمنية ما، أو مدينة بذاتها، أو شعب مقيّد في إطار الحدود، بل تنكّب عبء أمّة بكامل أبطالها وأحداثها وإنجازاتها وحضارتها ومآثرها، دون أن يحجم عن سرد نكساتها وتراجعاتها…

هو لا يفتش في ملحمته عن شجرة الخلود، ولا يصوّر حروبًا طاحنة على صهوة حصان طراودة، إنما كان يقطف الخلود ثمرة ثمرة من دوحة “ضاديّة” إلهية، خاضت ملحمتها النورانيّة فقط من أجل خليفة الله وصنعيته. 

من صيحة التكبير المتفجّرة صواعق والمجلجلة في آذان الأمم.

من برقة السيوف الضاربة في سواد الجاهلية والشرك والإلحاد.

من صهيل الجياد المجنّحة، ورقص الأسنّة في الأذرع السمر، وتمايل الرايات الممشوقة نحو الغمام.

من كلّ دواوين الأمّة ومجترحي طبّها وأفلاكها.

من فلاسفتها وعلماء جبرها وحسابها.

من كلّ البقاع المهلّلة بصوت الله من أقاصي الأرض إلى أقاصيها.

من كلّ ما يهطل مجدًا وعزًّا وحضارة.

كانت الأمّة تسكن هنا بين دفتي ملحمة، وكانت لصاحبها الصادق هي أمّه وامّته وإمامته ومتيّمته، وجعلها الصادق قضيتة.

ملحمة الأمّة هي قضيّة الأمّة بما لها وما عليها.

كان الصادق الأمين في ملحمته النابعة الهادرة من شلالات فكره وقافيته، أكثر صدقًا وأعمق تعبيرًا وأشدّ إثارة وأروع تصويرًا…من جهابذة المؤرخين المكبّلين بقيود الواقع الخشن في الزمان والمكان والأحداث، وألاف الكتب التاريخية ومئات الوثائق التي دوّنت أحداث التاريخ بصمت الخشب.

يقولون إن الوزير إبن عبّاد وهو من هو في قمم الادب، كان يصطحب معه في حلّه وترحاله مكتبته التي يحملها أربعون جملًا. فلما ظهر كتاب “الأغاني” إستغنى عنها جميعًا، إستبدل بها هذا الكتاب وكفى!.. وصفحة واحدة من هذه الملحمة، تغنيك عن مجلّدات التاريخ، وموسوعات العلوم، ودواوين الشعر والحكمة.  

وكل ما أتوق إليه، أن يتسنى لهذه الأعجوبة الغنائية الصادحة، أن تقع بين أوتار ملحن بارع، وتحت يدي مخرج باهر، لتتحوّل لوحاتها وأحداثها وأبياتها الجزلى، إلى عرض مسرحي أوبرالي، يطلقها للدنيا وللتاريخ نجمة صباح للمستقبل.

أيها العاشق الصوفي الوفيّ الأبيّ البهيّ، ما غيرك شاعر هذه الأمّة!