مقابلة مع مجلة صوت بلادي
الإعلامية هيام عبيد

- المقابلة كما نُشرت في مجلتي “الآداب والفنون” و”صوت بلادي”.
- أجرى الحوار: الإعلامية هيام عبيد
د. علي منير حرب
* الحديث عن البدايات
– في مقدّمة هذه البدايات، أوجه لك شكري لاستضافتك وتقديري لجهودك ودأبك على إنجاز هذه المقابلة.
أما في بداياتي فأقول: منذ تفتّح الوعي لديّ، كنت مسكونًا بهاجس الخدمة الاجتماعية، عن طريق التنوير. اطّلعت عميقًا على برامج ومناهج ومسيرة الأحزاب الوطنية وغير المحلية، وقرّرت بعد التمحيص فيها، أن انتمي إلى حزب الثقافة لتحقيق ما يجيش بداخلي من آمال ورؤى. أسّست عدة نواد ثقافية وفنية، انتسبت إلى الحركة الكشفية مبكّرًا، والتي اعتبرها أهمّ مدرسة شبابية تطبيقية للتربية والمعرفة وتنمية المهارات وترسيخ قيم الصدق والأخلاق والتعاون وتهذيب السلوك والتدريب على العمل التشاركي، وعلى فنون الالتزام والقيادة، كما التحقت بمؤسسة حقوق المرأة والطفل مع الاتحاد الأوروبي، التي منحتني بدورها مزايا البحث والتنقيب والنقد الموضوعي الهادف…
* قلمك والفكر والإنسان؟
– اعترف بأن ما أحاط بي من ظروف النشأة والتعليم والعمل، وإدماني على القراءة والمطالعة والبحث، ولهفتي على خوض التجارب المعرفية الثقافية المختلفة، هي التي شحذت فكري وأينعت بذور إدراكي وبرت قلمي وهيّأتني للانغماس في شؤون الفكر بعامة، وقضايا الإنسان كيفما كان وأينما وجد.
تحوّلت أقصى مُتَع الحياة عندي، إلى انتظار أوقات الغروب للجوء إلى حديقة مكتبتي، استنشق عطور أزاهيرها الفوّاحة من صفحات الكتب المتكاتفة والمتعانقة مع بعضها، على الرغم من تنوّعها واختلافاتها في الشكل والمضمون والمصادر.
هذه الرفقة الأمينة وفّرت لي أجمل السهرات، وأنا أعارك قلمي وأسكب حبر أفكاري وآرائي على بياض الورق.
وفي كل الساحات التي تركتُ توقيعاتي على أرصفتها، كان الهمّ الإنساني منقوشًا على وجوهها.
كان الإنسان، وأمنه وسلامه ورقيّه وخير الإنسانية، هو القطب الجاذب لعقرب بوصلتي، مهما كان ميدان عملي.
* أعمالك؟
– تعدّدت وتنوّعت مجالات الأعمال والمهام التي قمت بها، ويمكنني اختصارها بالحقول التالية: التربية والتعليم العام والجامعي، والإعلام بجوانبه المكتوبة والمرئية والمسموعة.
ويتراءى لي، فيما استعرض مسار عملي الطويل، والمحفوف بكل أشكال المعاناة، أنني كنت مرصودًا لخارج أرض وطني، من أجل أن أنجز ما يمور في داخلي واتشوق إليه. وربما كان ذلك، بدافع ذاتي لديّ يحضّني دومًا على الانعتاق من هذا النفق المظلم والمشحون بغرائز الطائفية والمذهبية والمحسوبية والفساد المستشري في كل جوانب الحياة، والذي كان يشكّل صدًّا مانعًا أمام أي حراك يهدف إلى خلق الوعي والتغيير لدى المواطنين.
* التعليم:
– كان مجال التعليم هو أول عمل مارسته في لبنان، كشف أمامي التشوّهات التي أصابت أطهر وأخطر رسالة تتولى صناعة الأجيال ومستقبل الوطن. حاولت عبثًا تمرير بعض مبادئ الإصلاح والتعديل، وكنت اصطدم دائمًا بجدار العقليات المتحجّرة والبيروقراطية المتحكّمة في النفوس والعقول، فقرّرت الخروج.
* أولى محطاتك في بلاد الاغتراب إلى أين اتجهت؟
– كانت دولة الكويت، هي أولى محطاتي الاغترابية، حيث تعاقدت مع مدرسة عربية خاصة، عريقة ومرموقة بسمعتها ومكانتها، هي “مدرسة الجميل”، وقمت بتدريس اللغة العربية لطلاب المرحلة الثانوية لمدة سنتين، ثم عُهد إليّ إدارة قسمي المتوسط والثانوي، التي توليّتها طوال ما يقرب من ربع قرن، تمكّنت عبرها، من تحقيق أفضل ما كنت أصبو إليه من نجاحات وتميّز على صعيد التفوّق المدرسي والتربوي.
* يبدو واضحًا أن عملك في الكويت لم يقتصر على المجال المدرسي التعليمي والإداري؟
– لم يقتصر عملي في الكويت على المجال المدرسي التعليمي والإداري، إنما سعيت حثيثًا، لمدّهِ بروافد أخرى، من منابع الثقافة، فانضممت إلى فريق عمل “مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربية”، كاتبًا ومراقبًا للنصوص، ومساعدًا لمدير المشروع، حيث قدّمت هذه المؤسسة لأبناء وطننا الكبير، منذ ثمانينيات القرن الماضي، أفضل وأرقى البرامج التلفزيونية التي شكّلت نوعية فارقة في البرامج الهادفة، والتي توجّهت لتثقيف الناشئة وتوعية أبناء المجتمع .
* وماذا عن مؤسسة “هلا للإنتاج الفني”؟
– تعاونت طويلًا مع “مؤسسة هلا للإنتاج الفني” في هذا المجال، وكتبت لتلفزيون وإذاعة الكويت مجموعة كبيرة من البرامج والمسلسلات الدرامية الاجتماعية.
* عالم الصحافة…عالم الصور والخبر والبحث بالأعماق؟
– دخلت ميدان الصحافة، وترأست القسم الثقافي في مجلة “اليقظة” الكويتية الأسبوعية، التي كانت في ذلك الحين من أوسع المجلات السياسية والاجتماعية والأدبية والفنية انتشارًا في جميع دول الخليج العربية. وعملت ما أمكنني لتخصيص مساحة دائمة للشأن الثقافي في المجال الإعلامي، لتأخذ الثقافة حصتها وحقّها إلى جانب الشؤون السياسية والاقتصادية والإخبارية، وسرعان ما تحوّل الباب الثقافي في المجلة إلى منتدى أسبوعي للحوار والنقاش، استقطب شريحة واسعة من المهتمين والقرّاء.
* في حياتك المهنية عدة محطات وكل محطة لها لون؟
– أما المحطة الاغترابية الثانية، فكانت هذه المرة في فريتاون عاصمة سيراليون الإفريقية، حيث كُلّفت بمهمة المستشار التربوي للمدرسة الدولية اللبنانية هناك.
أما المحطة الثالثة، أو محطة الاستقرار، فتلك التي توقّف فيها القطار في كندا، منذ العام 2006، وهي تكاد تضاهي مرحلة الكويت خصبًا وعطاءً وإنتاجًا. فانضممت إلى الصرح الأكاديمي في جامعتي “كونكورديا ومونتريال” أستاذًا لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، إلى جانب عملي مديرًا لتحرير جريدة “الأخبار – النهار” الأسبوعية، التي كانت تصدر في مونتريال بالاتفاق مع جريدة “النهار” اللبنانية، التي وسّعت دائرة اهتماماتي وانشغالي في الشؤون السياسية العربية بعامة، والكندية بخاصة، كما أتاحت لي فرص استضافة العشرات من الرؤساء والوزراء والنواب اللبنانيين والعرب أثناء زيارتهم لكندا وإجراء المقابلات معهم، إضافة إلى متابعة وتغطية النشاطات والفاعليات الجاليوية.
* ماذا عن برنامجك على شاشة تلفزيون A.R.T؟
– قمت أثناءها بإعداد وتقديم برنامج “من أميركا” على شاشة تلفزيون العرب “A.R.T”، والذي استقبلت فيه رموزًا ناجحة من الشخصيات الجاليوية العربية.
* بعد التقاعد تفرّغت للانضمام لعدة فعاليات مختلفة، حدّثنا عنها؟
– بعد تقاعدي، تفرّغت تمامًا للانضمام إلى مختلف فعاليات الحركة الثقافية العربية في كندا، وترأست لمدة سنتين مكتب كندا في “الاتحاد العالمي للمثقفين العرب”، نظمّت خلالهما مؤتمرين دوليين: الأول بعنوان: “الحراك الثقافي العربي في المهجر – نجاح وإخفاق”، عرض وعالج واقع الحالة الثقافية العربية في مختلف دول العالم، وتمّ إصدار كتاب خاص تضمّن وقائع جلسات المؤتمر والتوصيات التي اتخذها لتدعيم العمل الثقافي ومعالجة أسباب القصور والفشل التي تعترضه.
والمؤتمر الثاني كان بعنوان: “أزمة الثقافة والمثقّفين العرب – معوّقات وحلول”، عرض وناقش ما تعانيه الثقافة العربية وما يواجهه المثقّف العربي من أزمات وعوائق. وتمّ أيضًا إصدار كتاب خاص بهذا المؤتمر.
* المساهمات والندوات؟
– تعدّدت مساهماتي في عقد الندوات وإلقاء المحاضرات، ونشر المقالات، كما تنوّعت مشاركاتي الحوارية في بعض القنوات التلفزيونية الفضائية العربية. ويهمّني أن أنوّه هنا، أن هذا الترحال المتنوّع، لا سيّما في إفريقيا وكندا، لم يكن حالة اغترابية بقدر ما كان عملية تطبيقية لمفهوم تلاقح وتبادل الثقافات، ومصدرًا فوّارًا بالمعارف يصبّ مياهه في خزّان ثقافتي، ويغنيه ويوسّع عدسة الرؤية، ويتيح لي فرص المقارنات والتقييم، ويمدّ في أبعاد هويتي الثقافية.
* كيف تبلورت كتاباتك المسرحية؟
– مبكّرًا جدًا، دخلت ميدان التأليف، وكان من أسبق ما كتبت، وأنا في سنّ المراهقة، مسرحية درامية وطنية من فصلين، استلهمتها من بيت شِعر ورد في إحدى قصائد الشاعر والأديب والصحافي اللبناني الياس فيّاض، يقول فيه:
“لا تبكهِ فاليوم بدء حياتهِ إن الشهيد يعيش يوم مماتِهِ.”
وبنيت عليه عملًا مسرحيًا، شاركتُ في تمثيل إحدى شخصياته، وقُدّم أثناء الاحتفال السنوي لعروض الفرق الكشفية في لبنان.
* وكتبت أيضًا مجموعة من القصص القصيرة، هل تضمّنت الواقع وتناولت قضايا المجتمع، أم كانت بعيدة المدى؟
– توالت كتاباتي في ذلك الحين، والتي تكوّنت من مجموعة من القصص القصيرة، صوّرتُ وسَردتُ فيها بعض أحوال ووقائع وشخصيات مجتمعي الصغير في البلدة التي نشأت فيها.
* باكورة أعمالك في الكويت كانت عملين مسرحيين؟
– أجل، كانت باكورة كتاباتي، عملين مسرحيين، قدّمهما الطلاب على خشبة المسرح المدرسي، الأولى حول “الهجرة النبوية الشريفة”، لمناسبة الاحتفال بالعام الهجري الجديد آنذاك، والثانية بعنوان “الغرسة الطيّبة”، من خمسة فصول، عرضت فيها تاريخ تأسيس مدرسة الجميل الخاصة في دولة الكويت ومراحل تطوّرها، بأسلوب قصصي درامي، تضمّنت العديد من اللوحات المشهدية والوقائع، والأغاني والأناشيد الوطنية، وعُرضت لمناسبة الاحتفالات باليوبيل الفضي (1985) لتأسيس المدرسة.
* كل هذه البدايات كانت محاولات أدبية وفكرية تخرج من أبواب الهواية والتعلّق بفنون الآداب، ثم تطوّرت في المضمون والأسلوب، ويتجلّى ذلك في برنامج “افتح يا سمسم” الذي يبدو تأثيره كبيرًا في تشكيلك الفني؟
ـ صحيح جدًا، بعد ذلك، تبلور أسلوبي ومنهاجي، وتحدّدت معالم أهدافي وتوجهاتي ضمن إطار أدبي وفني محكم، فبدأت أمارس حرفة التأليف، بقواعدها وشروطها ومبادئها، وباشرتها مع “مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك” في كتابة حلقات البرنامج التلفزيوني التوجيهي التربوي الثقافي للأطفال “افتح يا سمسم”، والذي شكّل لي مدرسة فنية وأدبية بامتياز، حيث جمعتني بصفوة رائعة من أصحاب الفكر والقلم والإبداع، وعلى رأسهم الصديق الكبير، التربوي الإعلامي وكبير الكتّاب، الأستاذ المرحوم ياسر المالح، وثلّة رفيعة من كبار المخرجين والكتّاب والفنانين والملحنين الكويتيين والعرب.
* وساهمت بهذا البرنامج وبغيره بكتابة عدد كبير من الحلقات؟
– فعلًا، مساهمتي في كتابة عدد كبير من الحلقات، أهّلتني لتحمّل مسؤولية مراقبة النصوص المقدّمة من الكتّاب وإجازتها.
ثمّ انتقلت، ضمن هذا المنهاج التوجيهي الثقافي، للمشاركة في تأليف حلقات البرنامج التلفزيوني للتوعية الصحية “سلامتك”، وبعدها إلى برنامج التوعية المرورية “قِفْ”، ومنها إلى برنامج التوعية الاجتماعية “ديرتنا”.
أما وقد ملكت زمام الكتابة، رؤية ومنهاجًا وحدودًا وأهدافًا، فقد بدأت بالتعاون مع مؤسسة “هلا للإنتاج الفني” “وتلفزيون وإذاعة الكويت”، وكتبت عشرات المسلسلات التلفزيونية والإذاعية التي عالجت وسلّطت الأضواء على مجمل القضايا الاجتماعية، ومن أبرز هذه الأعمال: المسلسل التلفزيوني “قلوب عند المرافئ”، و”أبو مرزوق” والبرنامج التلفزيوني للناشئة “قصص وحكايات” والمسلسلات الإذاعية “طيور بلا اجنحة”، و”سِكّة السلامة”، و”خالدون في ضمير الكويت”…وغيرها كثير.
* كندا كانت فترة الخصب والغزارة والمشاركة في المؤتمرات؟
ـ في كندا، كانت فترة الخصب والغزارة في الكتابة والتأليف، حيث تضاعف زخم كتاباتي في مختلف حقول الثقافة، فنشرت المئات من المقالات الأدبية والسياسية، والعشرات من البحوث، وشاركت في المؤتمر الدولي الذي عقده المنتدى الثقافي الأسترالي بعنوان: “وطن في الغربة – شؤون وإنجازات”، ودوّنت قراءات للكثير من الكتب، وقدّمت العديد من كتب الأدباء والمفكّرين والباحثين.
* ماذا تحمل في جعبتك من إنجازات فنية ومسرحية وأدبية في كندا؟
– أنجزت المسرحية السياسية الهزلية الناقدة “عالسكين يا عرب” من خمسة فصول، والبرنامج التلفزيوني الثقافي التنويري الهادف “ثقافات ولكن!…” من ثلاثين حلقة، لحساب شركة “كلاسيكال للإنتاج الفني” في دولة الكويت، من إخراج محمد الفرج وتقديم خالد المفيدي.
وأعكف حاليًا على وضع اللمسات الأخيرة للبرنامج التلفزيوني: “عظيم وحكاية” الذي يعرض سيرة أشهر عظماء الإنسانية من المبتكرين والمكتشفين والمبدعين والقياديين…
وقريبًا يخرج من إحدى مطابع دور النشر في بيروت كتابي “قبل أن تغيب الشمس – قضايا في الثقافة”، وهو نتاج عمل متواصل، بدأت بإعداده قبل أربع سنوات، ولا يزال مستمرًا.
* قبل أن تغيب الشمس!…ممّ استلهمت العنوان؟
ـ استلهمت عنوانه من كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه “شمس العرب تسطع على الغرب”، بعد أن ارتفع بي الكتاب إلى آفاق سامقة، ثم هوى بي هول الواقع ليجتاحني الهلع، أمام ميل شموس ثلاث نحو المغيب: أولاها شمس العمر الآخذة في الأفول، وثانيتها وجودنا العربي، لغة وثقافة وهوية وكيانات، وثالثتها مصير العالم وثقافات الشعوب وحضاراتها، ولاسيما في الغرب تحديدًا، الذي استولد لفظة الثقافة، ونشر مفاهيمها، وبنى عليها منارات العالم، ثم ما لبث أن انقلب عليها وتنكّر لها وغدر بها، طعنًا في الظهر وفي الوجه وفي كل الاتجاهات.
في هذا الكتاب، قطوف متنوعة الأصناف والألوان والأشكال والمذاقات، في اللغة والهوية والوطن والهجرة والمرأة وتقنيات العصر الاصطناعية، كما في قضايا الفكر والفلسفة والحكمة والأدب، ذهبت فيها باتجاهٍ، قليلًا ما يتقاطع مع من استرشدت بأفكارهم وتزوّدت بآرائهم، وكثيرًا ما يختلف عنهم أو يخالفهم ليضيف جديدًا، أو يطرح تطويرًا في المضامين والمفاهيم.
* ختام الحوار، ماذا يجد القارئ في ما تقدّمه؟ دروسًا وفلسفة في الثقافة؟
– أختم لقائي معكم فأقول: قد يجد القارئ في ما قدّمت ضالته لما ينشده ويبحث عنه، وقد يسمع منه الغافل ناقوس يقظته، وقد يستدلّ بأنواره من فقد سبيله، وقد يرى آخرون وجوههم في بعض مراياه…فإذا تحقّق ذلك فإنما يكون من فيض نعمة الله عليّ، ومما علّمتني إياه الثقافة من دروس في فرح العطاء، ونشوة النجاح في المسعى لأداء رسالتها وإحياء روحها وترسيخ أصولها ونشر قيمها في اليقظة والوعي والنهضة، من أجل التنمية الذاتية والمجتمعية، الشاملة والمستدامة…
مع شكري وتحياتي وتقديري لعملكم الإعلامي المتقن.