الخداع: حصان طروادة العنكبوتي

د. علي منير حرب
خاص: مجلة همس الحوار، العدد 28، نيسان / أبريل 2025
الخداع في حياتنا العامة، لم يعد سلوكًا آنيًا أو ظرفيًا عابرًا، بل أصبح حالة وبائية ملازمة تضربنا من كل الاتجاهات وتشمل كل الأطراف، كما أصبح سياسة معتمدة ورائجة تتكفّل بترسيخها معظم القوى والقيادات الحاكمة، كما تتولى تسويقها ونشرها مجموعة من الطغاة المتحكّمين بالمال والتقنيات الحديثة. حتى يبدو لنا أننا أصبحنا نعيش في عالم من الخداع والتضليل والأوهام، ولم يعد لعالم الحقيقة من وجود، وأن الإنسان كائن مخادع ومخدوع في الآن ذاته.
مسألة الخداع تثير في وقتنا الحالي نقاشًا عميقًا، وتشكّل تحديًا كبيرًا على عدّة مستويات في السياسة كما في الاجتماع والاقتصاد والعلاقات الخاصة والعامة.
في المجال السياسي، المحلي والعالمي، تحوّل الخداع إلى أداة أساسية للتلاعب بالرأي العام، وتوجيه اهتمامه بعيدًا عن القضايا الحقيقية، وأقبلت الثورة التقنية الهائلة بذكائها الاصطناعي، لتضيف ما كان ينقصها من أدوات «التزييف العميق» و«الأخبار المزيفة» و«التضليل الإعلامي»، التي تتيح إنشاء مقاطع مصوّرة وأصوات مزوّرة ببراعة فائقة، إلى حدّ الإقناع جدًا بصحتها، لتصبح جزءًا من عتاد الحملات السياسية الهادفة إلى التأثير على القرارات والمواقف، وخلق تحديات جديدة في مجالات الأمن الرقمي، والمساهمة في تشويش الحقيقة وإشاعة بيئة من الشك وعدم الثقة واليقين بين الأفراد والمؤسسات. وقد زادت المسألة تعقيدًا مع سرعة انتشار وتطوّر هذه الأساليب، حيث أصبح التمييز بين الحقيقة والكذب أمرًا مستعصيًا على معظم الناس.
فيما نقلّب صفحات المعاجم العربية والأجنبية.
وفيما نتصفح سجلات تاريخ الإنسانية القديم والمتوسط والحديث، في الاتجاهات الأربعة، شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا.
وفيما نجول في دهاليز الأساطير والملاحم، ونتابع رحلة الرسالات الروحية والحضارات والتحوّلات التي شهدتها البشرية عبر آلاف السنين.
فيما نفعل كل هذا، بحثًا عن معاني كلمة الخداع وجذورها ومشتقاتها، واكتشافًا لأبعادها وإسقاطاتها الهائلة على جوانب حياتنا الشخصية والعقيدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تواجهنا مفاجآت غريبة، وتصفعنا وقائع وأحداث، لا تخطر فعلًا على بال بشر.
.1 في اللغويات
ففي عالم اللغويات، قلما تقع على كلمة توازي كلمة الخداع اتساعًا واستقطابًا، فهي تحمل في طيّاتها كمًّا ضخمًا من المعاني والمدلولات، وتحتمل كمًّا أكبر من المرامي والأهداف، وتتشابك وتشتبك مع زخم من الأدوات والصفات والطبائع والسلوك.
فتّشْ في مختلف قواميس اللغات العالمية لتجد أن كلمة الخداع جاءت مقرونة بأفدح معاني الشرور والموبقات والرذائل. فهي الغش والتدليس والنصب والاحتيال، وهي المكر والرياء والكذب والخبث والخيانة، وهي تعتمد أقذر أساليب الإغراء والإيهام والمراوغة والتضليل والتملّق والملاطفة والإطراء، كما تتوسل الكتمان والتعمية على المعلومات المهمة والتهويل والتهوين في آن واحد، من أجل تشويه الحقائق وإخفائها وبهدف تحقيق غايات المخادِع ومصالحه في الاستغلال والسيطرة.
الخِداع معنىً، هو ركوب كل ما أتيح من وسائط النقل الزائفة لتمرير الأغراض الخبيثة والمؤامرات والأطماع، وهو الحيلة التي تُقرِّب وقوع المقصود به من المكروه، بعد حمله على استنتاجات خاطئة.
وقيل: «الخِداعُ: أن تُظهِر لغَيرِك خِلاف ما تُخفيه له من الشرِّ؛ ليُحسِن الظن بك.»
2. في الأديان:
تطرّقت الأديان المختلفة إلى قضية الخداع، واعتبرته من الصفات السلبية والمكروهة والمذمومة.
في الإسلام: نتلمّس في قصة النبي يوسف شروعًا علنيًا وتخطيطًا مسبقًا لممارسة الخداع وارتكاب فعل الخيانة التي وقعت في بيت النبي يعقوب، عندما دبّر أخوة يوسف لقتل أخيهم وحاكوا كذبة الذئب الذي أكله، كما جاء قي سورة يوسف.
في الكتاب المقدّس: يعتبر الخداع خطيئة. وذكر العهد الجديد أن الشيطان هو «أب الكذب».
ويعتبر الخداع جزءًا من الحيلة الشريرة التي تُستخدم لإغواء البشر بعيدًا عن الطريق الصحيح.
«أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالًا لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ.» (يو 44:8).
وفي العهد القديم: يتجلّى مفهوم الخداع عندما اتّخذ إبليس شكل الحيّة لخداع الإنسان وإغوائه بالأكل من الشجرة المحرّمة، كما يظهر مفهوم الحيلة عندما انقاد يعقوب إلى حيلة أمه رفقة وكذب على أبيه بأنه هو عيسو من أجل الحصول على بركته بدلًا من أخيه الموعود بها من الرب، على نحو ما جاء قي (التكوين 72).
3. في الأساطير والحكايات القديمة:
تعتبر الأساطير والحكايات الشعبية مخزنًا غنيًا للعديد من القصص التي تتعلق بالخداع، وأن الأحداث الكبرى في الأساطير كانت تُنسَج على خيوط من الخداع. تلك الحيل كانت تهدف إلى كسب السلطة أو التأثير على مصير الشعوب. حيث لم يتورّع الآلهة أنفسهم وأصحاب القوى الخارقة والأبطال، عن استخدام الخداع والكذب كأداة لتحقيق أهدافهم.
في الأساطير اليونانية: أن الإله زيوس، كبير آلهة جبل الأولمب، عندما رأى الأميرة الفينيقية أوروبا، ابنة ملك صور أجينور، وفُتن بجمالها، تَجَسَّد في صورة ثور واقترب منها مخادعًا فانطوت عليها الخدعة واعتلت ظهره، وسرعان ما اختطفها وطار بها عبر البحار إلى جزيرة كريت.
كما تشير تلك الأساطير أن الإله هيرميس كان يُعرف بأنه إله الخداع والحيلة والكلام المعسول، وهو الذي تولى، بطلب من الإله الأكبر زيوس، تعليم باندورا، المرأة الأولى التي أمر بخلقها وإرسالها إلى الأرض للانتقام من بروميثيوس الذي سرق شعلة النار من السماء وأعطاها للإنسان. وكانت هديته هي الخديعة الكبرى عندما حمّل باندورا صندوقًا مليئًا بكل الشرور والآثام.
ومن أكثر الآلهة إثارة للجدل، كان الإله لوكي في أساطير الفايكنغ الاسكندنافية. كان يُعرف بأنه إله الخداع والخبث، ويلقّب بـ«الغدّار والمضلِّل»، حيث كان يستخدم الحيل والخداع لأغراض شخصية أو لإحداث الفوضى بين الآلهة.
4 . في التاريخ:
ما زالت ظلال القرون الوسطى تخيّم على معظم مناطق العالم، بعد أن أدخلت أوروبا في الظلمات بسبب استغلال رجال الكنيسة للمؤمنين الغافلين وإيهامهم بأنهم يمتلكون مفاتيح السماء ويمنحون صكوك الغفران، للسطو على عقولهم وأموالهم.
كما ما زلنا نعيش ارتدادات المنظمات الإرهابية الأصولية الإسلامية الأخرى، وما جنته على المسلمين وغيرهم من مصائب وكوارث.
ويخبرنا التاريخ أن البحّار المغامر كريستوف كولومبوس، كان يعرف تمامًا مواقيت خسوف القمر. وعندما حطّت سفنه في القارة الجديدة، خدع السكان الأصليين -الجاهلين والغافلين- مدّعيًا أنه مرسل من السماء وأنه سوف يقبض على القمر ويحرمهم ظهوره إذا لم يقدّموا الأغذية لطاقم سفنه.
كما تمادى الطغاة بعده بهذا الخداع عندما أغروا المساكين من سكان البلاد بأغطية تقيهم البرد والصقيع، فيما كانت محشوة بباكتيريا الكوليرا الذي أباد الآلاف منهم.
كما شهدت الحروب الحديثة استخدامًا مكثفًا للأساليب المضللة، مثل الخداع في المخابرات العسكرية، واستخدام المعلومات المضللة، وفبركة التقارير الإعلامية.
أثناء الحرب العالمية الثانية (1942)، جرت أكبر محاولة خداع عسكري، عُرفت بـ«عملية الغلي الشديد» نظّمها قسم مراقبة لندن، وصُمّمت لإقناع قوى المحور أن الحلفاء سوف يغزون النرويج التي تحتلها ألمانيا.
وفي كتابه «سياسة الخداع، بريطانيا وفلسطين، 1939 -1914»، يسجّل المؤرّخ بيتر شامبروك، أن رواية بلفور، وجورج كرزون، ووينستون تشرشل، والعديد من مسؤولي وزارة الخارجية، كانت خدعة كبرى واستغلالًا ساخرًا، وتفسيرات خاطئة متعمَّدة للكثير من العبارات والمصطلحات التي تضمنتها رسائل مكماهون إلى الشريف حسين. فاتفاقية «سايكس بيكو» كانت تجري بين بريطانيا وفرنسا وروسيا، في الوقت الذي يتم فيه بالمخادعة وعد بريطانيا للشريف حسين بدولته العربية. ففيما كانت الدول الثلاث تتوزع مناطق النفوذ فيما بينها بعد سقوط الدولة العثمانية، كانت الوعود الكاذبة تُقدّم من بريطانيا للشريف حسين، ليتم بعد ذلك توقيع «وعد بلفور» مع القيادات الصهيونية البريطانية عام 1917.
وثمّة أكاذيب وخدع لا تحصى دخلت في صميم تاريخ الدول والرؤساء، وما زال العالم يذكر جيدًا ما شاع وما نُشر من أخبار الفضائح والأضاليل على المستويات كافة: فمن فضيحة ووترغيت (1968) التي كشفت شبكة من الأكاذيب للرئيس الأميركي نيكسون، إلى الادعاءات الكاذبة للرئيس الأميركي جورج بوش الابن، لتبرير حربه على العراق (2003)، عندما أطلق تحذيراته للعالم من أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها الرئيس العراقي صدام حسين.
5. في الفلسفة والأدب:
ناقش الفلاسفة موضوع الخداع كمفهوم فلسفي، وتساءل فيلسوف الشك الفرنسي رينيه ديكارت عن قدرة الإنسان على التمييز بين الحقيقة والخداع في أطروحته الشهيرة «أنا أفكر، إذًا أنا موجود»، وجعل تساؤله منهجية أساسية لنظريته. وأدّت به هذه المنهجية إلى طرح قضية إنسانية قديمة تتمثل في مدى إمكانية سيطرة الشيطان الماكر على سلوكنا وتجاربنا في الحياة، ويتّسم هذا الشيطان عنده بكونه ذكيًا ومخادعًا بقدر ما هو قوي وقادر على خلق عالم سطحي نتوهّم أننا نعيش فيه. وذهب إلى أن حالة الجنون التي يمكن أن تصيب المرء قد تدفعه إلى الاعتقاد بأن كل ما قد ظنّه حقيقيًا هو مجرد خداع يمنعنا من الحكم بشكل صحيح.
وفي الأدب، تم توظيف فكرة الخداع والبناء عليها في كثير من الأعمال الروائية والدرامية، ونجد فكرة الخداع والخيانة تهيمن على معظم الأعمال المسرحية للكاتب الانجليزي شكسبير، حيث أصبح موضوع الخداع مركزيًا في مجمل مسرحياته (العاصفة – جعجعة بلا طحين – حكاية شتاء الخ…)
وفي تراثنا الشعري العربي تطالعنا قصيدة الأمير أحمد شوقي «الثعلب والديك» التي تحذّر من الخدّاعين الماكرين، والتي برز فيها الثعلب في لباس المؤمنين يدعو الناس للتوبة والزهد، وينادي الديك ليرفع صلاة الصبح. ويختتمها شوقي بحكمته البليغة:
«مخطئ من ظنّ يومًا أن للثعلب دينا».
كما تتجلّى روائع الحِكَم في توصيف المخادع والمتملّق في قصيدة الشاعر العباسي صالح عبد القدوس والتي يفنّد فيها معاني الخداع والكره، حيث يقول:
«وإذا الصديق لقيته متملقًا فهو العدو وحقه يتجنبُ
لا خير في ودِّ أمرئ متملّق حلو اللسان وقلبه يتلهبُ
يلقاكَ يحلفُ أنه بك واثـقٌ وإذا توارى عنك فهو العقربُ
يُعطيكَ من طرف اللِّسانِ حلاوةً ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ.»
6. في العصر الحديث:
مع خبراتها عبر السنين، تآلفت البشرية مع مصادر الخداع وتطبّعت بأنه ناتج عن سلوك بشري بغيض، أو من بعض الظواهر الطبيعية الخدّاعة، كما يحدث في الخداع البصري عند رؤية الآل في الصحراء فيحسبه الظمآن ماء، أو عندما تؤمّلنا الغيوم الخُلّب بالغيث دون أن نتنعّم به، أو ببعض الحالات النرجسية أو جنون العبقرية التي تصيب المهووسين بقواهم ومزاياهم الجسدية فتودي بهم إلى مقاتل خداع النفس وتفجّر الوهم.
ولكن مع جموح الثورة الصناعية والتطوّر المخيف للتقنيات الرقمية في عصرنا الحديث، فقد دخلنا زمن «حصان طروادة العنكبوتي الذكي»، وأصبحنا نعيش حقًا عصر الكذبة الكبرى التي نجحت باغتيال الحقيقة على يد ما يسمّى بالذكاء الاصطناعي، حيث أخذ الخداع أشكالًا أكثر خطورة، وراح يتسلّل إلى تفاصيل حياتنا بأدقّ محتوياتها.
فمع تزايد الاحتيال الرقمي نقترب أكثر وأكثر من عالم مليء بالأخطار المتعدّدة الوجوه، حيث إن مجرمي الإنترنت وصنّاع الوهم، لا يتوقفون عن تطوير أساليبهم، مستفيدين من الذكاء الاصطناعي، لسرقة معلوماتنا وبياناتنا وأموالنا. ومع استمرار المنصات الرقمية في التوغّل أكثر داخل نسيج حياتنا اليومية، تزداد تهديدات الأمن السيبراني والاحتيال الرقمي الذي يتنوع بين نصب وخداع، أو ابتزاز واختراق. وما يُدهش أيضًا هو أن الخداع أصبح عنصرًا أساسيًا في السياسة والإعلام. فالدعاية السياسية اليوم لا تقتصر على ترويج الأفكار فقط،، بل تمتد إلى خلق واقع قد يكون مزيفًا تمامًا. وأصبحت الحروب المعلوماتية في هذا السياق جزءًا لا يتجزأ من الصراعات بين الدول. وأصبح استخدام التحليل البياني والبيانات الضخمة أداة لتوجيه الأفراد نحو أجندات سياسية معينة، بينما قد يظنّ المتابع أنه يتبع المعلومات بموضوعية.
وقد شهد العالم، قبل سنوات قليلة، أبشع عاصفة من الخداع التي أطاحت بحقيقة مصدر وباء كورونا الذي اجتاح الدنيا وشلّ المؤسسات وفتك بالآلاف، إضافة إلى ما أثاره من حملات تضليلية بين الدول حول اللقاحات المنتجة لهذا الفيروس والتي حصد أصحابها المليارات.
وعلى غرار الصحافة الصفراء، فإننا نخضع اليوم للأصوات والأخبار والآراء الصفراء، الضالعة في فنون الخديعة والتزييف، والتي تتصاعد على منصّات وشاشات الاتصال الجماهيري الحديثة، وتتنافس في نشر الأحقاد والحضّ على العنف والكراهية والتطرّف، مثل تقنيات التزييف العميق، والتحليل الانتقائي للحقائق، وكلها أدوات تُستخدم لتشكيل الرأي العام وخلق واقع موازٍ عن طريق الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
تحت عنوان: «الهواتف الذكية (حصان طروادة) للبرمجيات الخبيثة الآخذة في التطور»، عقدت الجمعية العالمية لمشغلي الاتصالات (GSMA)، في الأسبوع الأول من شهر آذار – مارس 2025 في برشلونة، مؤتمرًا بارزًا لمناقشة المخاوف المرتبطة بقطاع الاتصالات والأجهزة المحمولة، ومحاولة توفير أمن الهواتف الذكية المعرّضة لأنواع شتى من الهجمات وعمليات الاحتيال.
وجاء في تقريرها السنوي الذي نشرته أن هجمات سرقة البيانات المصرفية على الهواتف الذكية عبر ما يُعرف بـ«أحصنة طروادة trojan»، أي «البرمجيات الخبيثة المصمّمة لسرقة بيانات اعتماد المستخدمين المتعلقة بالخدمات المصرفية عبر الإنترنت»، تضاعفت ثلاث مرات في عام واحد.
وفي المعرض الذي أقيم لهذه المناسبة قدمت شركة «هونور» الصينية أداة جديدة ستُدمج قريبًا في هواتفها الذكية تتيح للمستخدمين التحقّق من صحة أي فيديو يتلقّونه، وما إذا كان حقيقيًا أم مزيّفًا بتقنية (deepfake) التزييف العميق، التي يصعب على الشخص غير الخبير اكتشافه.
كما عمدت الجمعية إلى تطوير (Scam signals) «إشارات الاحتيال»، وهي واجهة برمجة (API) مصمّمة لحماية المستخدمين من الاحتيال المصرفي عبر الهاتف، ومكافحة المكالمات الاحتيالية.
الحلول ومواجهة الخداع العنكبوتي
في مواجهة هذه التحديات التقنية الكبرى المتعدّدة الأنواع الأشكال، والمتحوّلة والمتطوّرة ساعة بعد ساعة، تبدو الحلول شاقة جدًا، وبخاصة أمام هذا الزحف الجارف للثورة الصناعية التي يقودها عمالقة العلم والمال، والتي تنخرط فيها كبرى القوى السياسية المهيمنة على العالم. والعقدة الأكثر عصيانًا في هذه المسألة أن الجهات التي تتولى ابتكار الحلول هي نفسها التي تنتج وتولّد هذه المشكلات وتتيح للمتربصين والمحتالين النفاذ من ثغرات الشبكات لإنجاز عمليات الاحتيال والخداع والتزييف، لتحقق بذلك مضاعفة أرباحها في جميع الحالات، على حد قول الشاعر:
«فيك الخصام وأنت الخصم والحكم».
إننا، بأشد الحاجة إلى إطلاق حملة تثقيف أمنية مجتمعية، للنهوض بأخلاقية العلم والتفكير والبحث، وتعزيز الوعي الرقمي وتأهيل إنسان جديد لعصر يدرك فيه كيفية توفير المناعة الذاتية والمجتمعية ضد المعلومات المضللة.
إن إيجاد حلول لهذا الواقع، الذي لم يعد بالإمكان التخلّص من آفاته، لا يقتصر على المفكرين والعلماء فقط، بل أصبح مطلوبًا بإلحاح من طبقة الحكام والسياسيين المخلصين، الذين يمتلكون القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة والشجاعة والتي تضع مصلحة الإنسانية في المقام الأول، وتعمل على إعادة بناء الوعي الجمعي، وخلق بيئة عالمية تكون أكثر عدلاً واستدامة.
إن النفق المظلم الذي دخل به العالم، يضع عبئًا ثقيلًا على الطبقات الحاكمة، سواء على مستوى الدول أو المؤسسات العالمية. لحماية حقوق الناس والقيم الإنسانية من التآكل.
في حربنا ضد التزييف العميق نحتاج إلى تحوّل مجتمعي أعمق وأوسع وأسرع، وإلى تحديث قوانين الرقابة والمحاسبة، والتشدّد الصارم في تنفيذها، وتضافر الجهود حول العالم لتطويق وتطويع هذا الزائر الخبيث المتسلّط على حياتنا والقابع بين فواصل أناملنا وتحت رموش عيوننا.
