في ترسيخ جذور الثقافة
الأسرة والمناهج التربوية

هموم الثقافة (٢)

حديث إذاعي (إذاعة النيل والفرات).

12/07/2022

من البديهي أن تكون الإجابة على هذا السؤال بالتأكيد القاطع، نظرًا لما يمثله هذان الجانبان من أهمية أساسية في بناء الشخصية الثقافية لدى الأجيال.

في الأسرة تتمّ زراعة أولى بذور البنية الثقافية لدى الأطفال، فتنمو تباعًا لتوزّع الأنساغ الثقافية في نفوسهم، لغةً ومفاهيمَ وعاداتٍ وطرقَ تفكير، وباختصار تشكيلُ معالم شخصية جيل قادم.

أن تصنعَ أسرةً يعني أن تبدأ بتثبيت قواعد الهرم المجتمعي الإنساني، أي أن تصنع مجتمعًا قادرًا على صناعة وطن، ليس فقط بمواد المفاهيم التقليدية وأدواتها، بل بما يجب أن ينجزَه من تحديث وإضافة استجابة لمقتضيات العصر وحاجاته.

وأن تفتح مدرسة، يعني أن ترسُمَ منهاجًا نظريًا وتطبيقًيا تترجم محتواه إلى غذاء فكري وثقافي وجسدي في نفوس الأبناء، وتعدّهم، تربية وتعليمًا وتدريبًا وثقافة، إعدادًا سليمًا متكاملًا ليمتلكوا أسلحةَ القيادة في التخطيط للمستقبل وتوجيهه ومواصلة طريقه نحو التنمية الشاملة.

من هنا تأتي المسؤولية الكبرى لهاتين المؤسستين ودورهما الخطير في ترسيخ الشخصية الثقافية المستقبلية، وبقدر ما تكونان واعيتين مؤهلتين لهذه المسؤولية، بقدر ما يساهمان إيجابيًا في تحقيق رسالتهما الإنسانية الكبرى.

إن الاتجاه العالمي اليوم هو الاستثمار في العنصر البشري وأؤكد أن البداية الصحيحة لهذا الاستثمار تكون في بناء الإنسان لدى الأسرة والمدرسة.

إن معظم ما نعانيه في هموم ثقافتنا العربية يرجع إلى هذين المصدرين اللذين يبدوان أنهما تعثّرا في مهمتهما الخطيرة.

إن الأغلبية العظمى من أسرنا السابقة، مع تقديرنا لكل ما بذلته من تضحيات وجهود، لم تكن على قدر وافٍ من التأهيل الثقافي المطلوب، وسادت فيها الأساليب التقليدية في تربية الأطفال وتنشئتهم.

والظاهرة الأخطر في أسرنا الجديدة، أنها، وتحت مسميات المدنية والتحضّر، ولأسباب عملية أخرى، تشاغلت عن دورها وعهدت به إلى مربيات من بيئات أخرى غريبة، وأهملت تأصيل النسيج الثقافي العام لدى الأطفال.

وفي مؤسساتنا التربوية، ومع الأسف الشديد، ما يزال معظمها، مناهج وطواقم وأدوات، يتناسخ من خزائن تقليدية ماضوية بعيدة عن مقتضيات العصر ومتطلبات المستقبل، والمؤسف أكثر أن معظمها ما يزال صياغةَ عهود استعمارية طويلة، تحمل في طياتها الكثيرَ من الشوائب والسموم.

وغالبية ما نعرفه من مشكلات إنما تعود إلى ضعف المشروع التربوي في بلداننا الذي لم يرسم هدفًا واضحًا يطلق عجلة إنتاج مجتمع عقلاني. برامجنا التعليمية تنتج متعلمين ولا تنتج مثقفين.

 إن أطفالنا في بلادنا العربية، يتعرّضون لأبشع عملية تغريب عن لغتهم وثقافتهم وتاريخهم وحضارتهم، وإلى تخلخل كبير في أسس بناء شخصياتهم الثقافية القادرة على التفكير الحرّ والنقد السليم والاختيار الصحيح، والتعامل العادل والمتوازن مع مفهوم الحقوق والواجبات.

إن ما نعيشه ونعاني منه اليوم ليس إلا نتيجة حتمية لتقاعسنا المتمادي عبر عصور عن ترسيخ ثقافة أسرية حكيمة تنسجم مع التطورات التي يشهدها زماننا وتفتح ثغرة أمل في إنتاج جيل قادر على رسم وقيادة المستقبل نحو الأفضل.

عجِزْنا، أسرًا ومؤسسات تربوية، عن أن نصنع أحرارًا مستقلين قياديين، وخلقنا شخصيات إمّعة تابعة تتهالك على مصالحها المادية الذاتية على حساب كل مصالح المجتمع.

إذا كان هذا هو واقع أجيالنا في أوطاننا الأم، فما بالكم في الأجيال الناشئة في بلاد الاغتراب؟ وما بالكم بالأسرة العربية في بلاد الاغتراب، وهم جميعًا يتعرّضون لتحديات جذرية تمسُ جوهر المفاهيم والأسس وتتمظهر باختلافات حادة في العَلاقات بين الجنسين وفي الزواج وفي تربية الأطفال وتعليمهم إلى ما هنالك من التفاصيل الحياتية اليومية الدقيقة التي تحكم هذا الكيان.

إن الجهالة الأسرية المتحكّمة والمتفشّية لدى معظم الآباء والأمهات، قبل الزواج وبعده وقبل الإنجاب وبعده، وضعف التدعيم والتأهيل الفكري والنفسي، والتعزيز الإيجابي والتوعية الشاملة في هذا الجانب الاجتماعي الهام لا يمكن غفرانها على الإطلاق نظرًا لما يترتب عليها من نتائج تدميرية على جميع الأطراف وخصوصًا الأبناء.