في الوطن كما في الاغتراب
هموم الثقافة واحدة
حديث إذاعي (إذاعة النيل والفرات).
12/07/2022
إن الهمّ الثقافي الذي نعانيه، وطنًا واغترابًا، يكاد يكون هو الهمَّ الموجعَ الجامعَ المشترك الذي تبقّى لنا بعد أن تفتت كلُ مشتركاتنا الإيجابية الأخرى، وسادت المنازعات والانقسامات داخل الوطن الواحد، وعلى مستوى الخريطة العربية كلها.
لن استغرق بعيدًا في تحليل موضوع الثقافة وتكويناتها، لكنني سأبقى في حدود الهمّ الثقافي، مستعرضًا أبرز مظاهرِ هذا الهمّ الذي يؤرٌقُ عيشَنا جميعًا.
لا أضيف جديدًا إذا اعترفت أن الشرق الأوسط بعامة، يعاني أزمة حادة في أهمّ عوامل تنميته ويقظته، وهو العامل الثقافي.
إن كل ما تتصف به معظم بلداننا العربية من تخلّف وفشل، وما يسودها من اضطرابات وهزّات سياسية واقتصادية واجتماعية، وكل ما تشهده من صراعات وانقسامات وما يجتاحها من فساد واهتراء، مردّه بدرجة أولى إلى غياب التحصين الثقافي الذي من شأنه توفير المناعة للمجتمعات والأوطان.
الأمراض أصبحت مزمنة ومتأصلة ومتغلغلة في جميع الجوانب ولدى جميع الجهات.
وهذا الهمّ الوطني، لا يقلّ كثيرًا عمّا يعانيه أيضًا المغترب العربي، على الرغم من بعض مساحات الحريات واستقرار العيش وأمنه، لأنه مشوب في كثير من الأحيان، ببعض الأمراض الوراثية، المتمثلة في العصبيات والأنانيات والعداوات والمشاحنات الدينية والسياسية، والتي حملها المغتربون معهم وكأنها مؤوناتٌ وطنية لحياتهم الجديدة.
المستقبل في بلادنا يتداخل فيه كل شيء الا الثقافة.
فالثقافة من حيث وظيفتها هي المولّدة للوعي، وهي المنتجة للتنمية، وهي الرافعة لكل يقظة ونهضة، وإذا انحسرت هذه المادة العضوية فقدنا الأمل في التحديث أو التغيير وأصبحنا عُرضة لكل الأمراض. وبالتالي تعطّل سعينا لامتلاك أسباب التقدم.
وكي لا نبالغ في جَلد أنفسنا وتشريح أوضاعنا البائسة، دعونا نلق نظرة عامة على العالم من حولنا، لكي نرى تفاصيل الصورة التي يوشّحها السواد بسبب غياب الدينامية الثقافية ومحركات الوعي والإرشاد.
إن حاضر العالم ليس بخير، فهو محاط بالتسلط والظلم ومستقبَلَهُ مهدّدٌ بمزيد من الأخطار.
العالمُ صار أقلّ أمانًا، ما معنى ألَا تنتهي حرب حتى تبدأ أخرى؟ وما أن تُحلَّ أزْمةٌ حتى تولدَ أخرى؟ ما معنى أن يدفع العالم ثمنًا باهظًا لكل هذا التقدَم؟
كيف يمكن أن يبقى عدد هائل من البشر مكدّسين على هامش الحياة، يموت منهم يوميًا ثلاثون ألف إنسان جوعًا وفقرًا ومرضًا، عدا عن الذين يقضون ضحايا الإرهاب والتطرّف؟ وما معنى أن تبقى ثمانون بالمئة من ثروات العالم بيد عشرين بالمئة من الناس؟
كيف نفسّر عجز منظمة الأمم المتحدة بعد خمسة وسبعين عامًا على تأسيسها عن حلّ الأزمات الدولية وتناسل الصراعات العالمية؟
ثمّة توغّل في إشعال الحروب والأطماع والسيطرة ونشر الكراهية والعنصرية.
كيف نبرّر هذا التسابق الجنوني لتطوير الأسلحة القتالية والدمار الشامل؟ طوّرنا كل أسلحة الموت وتوقّفنا عن تطوير أسلحة الحياة والسلام والاستقرار.
الشاعر والمفكّر العراقي فاضل السلطاني يتساءل أين ذهب الفلاسفة ولماذا اختفى الشعراء؟ ويقول:
لعلّ من أكبرِ منجزات الحضارة الإنسانية المعاصرة تحقيقَها درجةً متقدمةً جدًا من الحرية الفردية، وصونَها وحمايتَها قانونيًا، ولكن بالمقابل كانت تجري تحت السطح عمليةُ سحقٍ كبرى لكل القيم الحقيقية التي تجعل الإنسان إنسانًا، خصوصًا في هذه المرحلة الأخيرة من تطوّرنا المتوحش التي لا يمكن أن يكون بعدها سوى بربرية ترتدي ثيابًا عصرية مزركشة”.
أزمة واضحة في السياسة والاقتصاد، في العدل ولدى معتنقي الأديان، في العلم والتعليم، في التقنيات وفي الحقوق وفي الحريات وفي الاعتداء على البيئة وفي التلوّث والجفاف والتصحّر وانتشار الأوبئة.
هناك إصرار وإمعان في تنظيم إدارة هذه الأزمات وعقد التسويات حولَها وليس حلَها.
في كلِّ حضارة تكمن منظومةٌ ثقافية تخدِم انتقالَ المحامِد المعنوية، والتقاليدِ الحسنة.
كان أفلاطون يعتبر أن رجل الدولة هو سياسي بلغ درجة الحكمة أو حكيم نذر نفسه لإدارة الشأن العام. والإنقاذ ممكن برجل العلم والسياسي الذي تتوفر فيه أخلاق الحكمة والمسؤولية. وهو ما يعرف بأخلاقيات الثقافة، أو كفايات القيادة.
في تاريخ الشعوب جميعًا، من سبقْناهم في حضارتنا ومن تخلّفنا عنهم أشواطًا، ثمّة ذراع واحدة حقّقت النهوض وهي ذراع الثقافة والتنوير.
ما تمكنت أوروبا والغرب عمومًا، من بناء نهضتها وتقدمها العلمي والصناعي والسياسي والاقتصادي إلا على أكتاف المتنورين الحكماء.
ونحن ما حققنا نهضتنا السابقة إلا على أيدي أهل الفكر والعلم والعقل، وبالرهان على التعليم والثقافة وإعادة الاعتبار للإنسان.
وما أصابنا من تأخر وفشل إلا بسبب تعطيل هذه الذراع الرافعة وإبدالها بالمراهنات على خيارات الأنظمة سياسيةً كانت أو اقتصادية، داخليةً أو خارجية، شرقيةً أو غربية.
فلماذا شُلت هذه الذراع في أوطاننا؟ ولماذا تنتابنا أمراض الهُويات الطائفيّة والإثنيّة؟ ولماذا فشلنا اقتصاديًا على الرغم من الثروات الهائلة التي بين أيدينا؟ ولماذا عمّ الفقر وشاعت البطالة وانتشر الفساد وغاب الحكم الرشيد وغابت العدالة والحقوق والحريات وساد الظلم والقهر والاستبداد؟ لماذا فشلت كل الثورات والمحاولات التغييرية أو التحررية؟ كل هذه الأسئلة هي برسم الثقافة التي خُنقت في مهدها ليسود ظلامُ البؤس والعصبيّة الطائفيّة المتورّمة.