ظلامنا الدامس متى تجليه شمس الثقافة

الكلمة التي ألقيت في الجلسة الأولى الافتتاحية للمؤتمر العربي الدولي الأول، الذي نُظّم بعنوان:

“أزمة الثقافة والمثقّف العربي في حركة النهوض – معوّقات وحلول”

رئيس المؤتمر: د. علي منير حرب

الخميس 2022/11/17

واقعنا العربي العاجز عن النهوض منذ قرون، وصفوه بالمحنة والمعضلة والأزمة المزمنة المتأصلة في التخلّف والانحطاط.

إنه المرض الذي استفحل وتفاقم، واستدعى تجمّعًا استشاريًا حاشدًا من الأخصائيين في المجالات كافة. قدّموا تشخيصاتهم من الزوايا المختلفة ولم يتركوا نقطة في جسم المريض إلّا وأخضعوها للوخز والتشريح والتصوير. تراكمت التقارير والنتائج فتقاطعت حينًا وتعارضت أحيانًا.

أفاض العلماء في بحوثهم عن” اغتيال العقل” و”هموم المثقفين” “وموت المثقف” و”إشكاليات الفكر العربي”، و”خيانة المثقفين” و”أوهام النخبة”، و”الإنسان العربي المقهور والمهدور”، كما استطردوا في تشخيصاتهم عن “عطب الذات”، و”حصار الثقافة” بالإعلام والسلطة، وانتشار ثقافات الإقصاء والإلغاء والتخوين، وحمّلوا المسؤولية للتراث والمثقف والغرب وفقدان ثقافة الاختلاف، وراوحت مطالباتهم في علوم النفس والاجتماع والدين والسياسة والاقتصاد إلى أقصى حدودها، فنادوا بالتجديد وخطّطوا “للمعالم على طريق تحديث الفكر العربي والثقافة العربية”، واقترحوا “مشاريعهم النهضوية” المختلفة، وحذّروا من “الكارثة إذا لم نصنع المجتمع الجديد”.

عمُرت مكتباتنا ومراكز أبحاثنا بالمجلدات التي لم تترك في مسألة المحنة فرصة للمزيد حنى كادت توازي كل ما كتب في زمن التنوير والنهضة.

تعدّدت الأسباب والأزمة واحدة

قبل أكثر من مئة وعشرين عامًا، وتحديدًا في العام 1893، وضع الشيخ عبد الله النديم دراسة معمقة بعنوان “بِمَ تقدم الأوربيون وتأخَرنا والخلق واحد؟!” وصفها المفكر الراحل الدكتور محمد عمارة بأنها “نص من نصوص فلسفة الحضارة والوعي بالتاريخ، وفقه الواقع” ناقش فيها شروط النهضة والتقدم بأبعادها التي تجمع الديني والسياسي والهوياتي والثقافي.

وفى بداية القرن العشرين تساءل الأمير شكيب إرسلان “لماذا تأخَّر المسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟” وأرجع آنذاك أسباب التخلّف إلى فساد الأخلاق، وفساد الحكّام والعلماء، والجمود على القديم.

وتلاحقت بعد ذلك دراسات المفكّرين الروّاد باحثة عن سرّ النهضة المعاقة عند العرب، تزامنًا مع مرحلة الاستعمار الغربي فأرجعوا الأسباب إلى الاستعمار والمحتل.

وبعد أزمنة الاستقلال انبرى المفكرون المعاصرون إلى طرح الأسئلة والهموم نفسها، وغرقوا في التنقيب عن مصادر تمدّد القصور والتخلّف ومعطّلات اليقظة والنهوض، وعزوا السبب لبنية العقل العربي، وثقافة البداوة، والموروث الثقافي العربي والاستبداد السياسي، وغياب الديمقراطية، والتبعية للغرب.

في العام 2012 عقد في الكويت ملتقى لبحث شؤون الثقافة العربية في المهجر، وبعد مرور عشرة أعوام عقدت  عدة ندوات في شهري آذار ونيسان من عام 2022 تحت عنوان الحراك الثقافي العربي في المهجر بهدف الوقوف على مستويات وأسباب النجاح والإخفاق، ويمكنني أن أجزم بأن الكثير مما صدر عن الملتقى الأول يشابه ما صدر حديثًا مع بعض الاختلافات التي أملتها مستحدثات الظروف.

وما زال المرض يتفاقم والمعضلات تتناسل، وما زلنا نجترّ هزائمنا ونغرق في لجج تخلّفنا ونمعن السير في صحراء التيه.     

وما زال السؤال نفسه يضجّ ويقرع آذاننا ويهزّ عقولنا بحثًا عن علاج شافٍ لهذه العلل.

لا نهدف في مؤتمرنا هذا إلى أن نستمطر المزيد من التنظيرات والتحليلات، بقدر ما نطمح إلى العثور على كوة صغيرة تخرجنا من هذا النفق التاريخي المظلم، وتتيح لنا زاوية تحت الشمس، بعد أن أتخمنا وفاض كيلنا تشخيصًا، وأمعنًا الاستغراق في الخيبات.

لا نزعم ولا ندّعي أن مؤتمرنا هذا، سيجترح الترياق والعلاج السحري بين ليلة وضحاها. ولكننا نصرّ على المضيّ في التنقيب عن مشروع خلاصي، انطلاقًا من المخزون الفكري الذي يملأ رفوف مكتباتنا، لاسيما، وأننا نعاين عالميًا انهياراتٍ عظمى في أسس النظام العالمي، وانزلاقًا مخيفًا نحو عالم “هوبز” وحرب الجميع على الجميع، وشراسةً في العلوم والمعارف والتقنيات، على حساب الجوهر الإنساني والأخلاقي، والقيم الحاضنة والحامية للحياة والمجتمعات والأفراد.
كما أننا نشهد عربيًا انتكاسة مبرمجة نحو الجاهليات المرعبة، وانحدارًا ساحقًا نحو هاوية التردّي والتمزّق وتفشّي العصبيات والقبليات واستشراء سرطان الفساد والاستبداد وفقدان الهوية الوطنية وهروب الطاقات والكفاءات، لم تعرف مجتمعاتنا مثيلًا له في عهودها السابقة.

ولا يفوت المدقّق لمجمل ما ورد في هذا الكمّ الهائل من الدراسات أن يقع على مصطلحي الثقافة والمثقف متغلغلًا ملتحمًا في كل مرتكزاتها وأبعادها ونتائجها.

سئلت يومًا: لماذا تطحن عظامك وأنت تجدّ السير في صحراء الانحطاط العربي القاحلة والقاتلة؟
أجبت: لأنني مؤمن بالواحة الظليلة التي تنتظرنا بشوق على مرمى قدم من الرحلة.

إن القرون الوسطى دامت مهيمنة في أوروبا على مدى عشرة قرون حتى ولدت النهضة. وإن حركة النهضة الغربية التي انبثقت في إيطاليا استمرت من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر حتى نضجت ثمارها وأتت أكلها.

كما أننا نطلق الرهان على فئة الشابات والشباب، التي تتمتع بمؤهلات علمية عالية وخبرات ميدانية واسعة، وتمتلك رؤى وأنماطًا مختلفة في التفكير، وتطلعات تقدّمية واعدة، وهي قادرة على تحقيق ما عجز جيلنا عن استلهامه.
فشمسنا التي تشاركت مع شموس الشعوب الصديقة وأشرقت حضارتها على الدنيا لن تأفل وإن كُسفت. وهذه الأمة ليست عاقرًا على الرغم من دمها المسفوح حقدًا وتهيّبًا، وعلى الرغم مما تعرّضت له من آثام الإجهاض القسري. والغد آتٍ ليستعيد المثقّف دوره الرسولي، والثقافة إشراقها لتجلي ظلامنا الدامس، وتتمكَنَ النخبةُ من رفعِ الكتلة.  

فالثقافة هي الداء إذا اعتلت، وهي الدواء إذا تعافت، والمثقّف هو المعطّل إذا تراجع أو خان، وهو المنقذ والمخلّص إذا تقدّم وصدق.