بين الثقافة والأدب: تلاقٍ وتباعد

د. علي منير حرب

مونتريال – كندا الأحد في 2024/07/28

القنصلية العامة لجمهورية العراق في مونتريال

تنويه: 

(أثناء إلقائي لهذه المحاضرة، اضطررت إلى تجاوز بعض الفقرات والمقاطع التزامًا بالوقت المحدّد، وأثبتها هنا في النص الأصلي.)

السلام عليكم ورحمة من الله وبركة،

أرحب بكم جميعًا وأشكر مشاركتكم هذه الأمسية الأدبية – الثقافية.

واتوجّه بالشكر الجزيل للقنصلية العامة لجمهورية العراق بشخص سعادة المستشار القائم بأعمالها الأستاذ صادق الياسري، لهذه الاستضافة الكريمة التي تجمعني مع أخواتي وأخواني في الجالية العراقية الكريمة والجاليات العربية الشقيقة.

وأرفع كل الشكر والتقدير للصديق الأديب المثقّف سعادة السفير جاسم مصاول، الذي كرّمني بتقديمين غاليين، للقنصلية بداية، ولهذا اللقاء ثانيًا.

بداية، اسمحوا لي أن استأذن سعادة المستشار بالوقوف دقيقة صمت، وهو آخر ما تبقى لنا من التعبير عن هول الفاجعة، حزنًا وألمًا على أروح الضحايا المُبادة في فلسطين وغزة.

بين الثقافة والأدب: تلاقٍ وتباعد

قد يظنّ كثيرون، أن طرح موضوع الأدب والثقافة، هو من قبيل لزوم  ما لا يلزم، حيث لا يكاد يذكر الأدب إلّا بصحبة الثقافة، ولا تذكر الثقافة إلّا ويكون الأدب حاضرًا في صلب أعضاء أسرتها.

لكن ما وقر في أذهان الكثيرين، يبعد عن لبّ الحقيقة.

سوف أدخل في هذا الموضوع من طرح مفارقتين رائجتين، باتتا ثابتتين لدى الجميع، من غير أن توحيا لنا بأي تعجّب أو تساؤل.

من الألقاب الشائعة التي نطلقها على أصحاب الفكر والآداب والفنون: الكاتب والأديب والروائي والشاعر والحكيم والمؤرّخ والناقد والباحث والصحفي والإعلامي والمحلّل…

ومن غرائب المفارقات الّا نجد من بين هذه الألقاب لقبًا واحدًا وهو المثقّف. مع أن كل هؤلاء هم حقًا وفعلًا من أبناء المعرفة، مهما ضاقت أو اتسعت، أي بمعنى، أنهم ولدوا من رحم واحد وهو الثقافة، والثقافة هي الأم الشرعية لكل هؤلاء.

والمفارقة المقابِلة الأخرى، هي  أن ما من تجمّع أو نادٍ أو اتحاد أدبي، إلّا ويصرّ على الانتماء إلى الثقافة فيلحق باسمه لقبًا ثقافيًا.

من هاتين المفارقتين، أرغب الدخول في موضوعنا اليوم بين الأدب والثقافة، ليس بغاية المفاضلة بينهما أو تقديم واحد على الآخر، إنما لتكريس وشائج القربى والتلازم والتكامل بين هذين المصطلحين اللذين يتداولان التواصل والتباعد في آن واحد، مع أنهما يتناوبان التلاقح، ليثمرا في حياتنا الإنسانية حقّا وخيرًا وجمالًا.

الأدب

وأباشر حديثي في الكلام عن الأدب لأنه، كما جاء في أقدم نظريات تصنيف الفنون، كان واحدًا من بين أعرق الفنون الستة التي عرفتها البشرية في تاريخها، إلى جانب الرسم والنحت والعمارة والموسيقى والرقص، وبالتالي فهو أسبق من الثقافة نفسها في اللفظ والمفهوم، وليس بالطبع في عناصر التكوين ومواده، كما أنه أسبق من كل النظريات الأيديولوجية والنقدية القديمة والحديثة وما بعد الحداثة.

في الغرب، استُخدمت كلمة الأدب للدلالة على معرفة القراء والكتابة، مشتقة من «grammatiké» «غرامّتيكي» اليونانية، ولكن سرعان ما بدأ استخدامها للدلالة على التبحّر والموهبة والمهارة الأدبية، كما نعت بها الكاتبُ والخطيبُ الروماني الشهير ماركوس توليوس سيسرو، المعروف بـ«شيشرون»، يوليوس قيصر في القرن الثاني قبل الميلاد، قائلًا: «إن لديه أدبًا وحسًّا جيدًا وذاكرة وتأمّلًا ودأبًا.»

في القرن السابع عشر، قدّم الكاتب والشاعر الفرنسي الذائع الصيت شارل بيرو، والذي وصلت كتاباتُه إلى ملايين القلوب والعقول، اقتراحًا إلى جان باتيست كولبير، أكبر وزراء الملك لويس الرابع عشر، لإنشاء أكاديمية تضم قسمًا خاصًا لـ «Belles Lettres» (الفنون الجميلة)، يشمل النحو والفصاحة والشعر. مما يشير إلى ضرورة تدريس أصول الآداب وفنونها وتاريخها حتى لا تبقى فطرية عفوية.

في تراثنا العربي تطوّر مفهوم الأدب عبر العصور، فبعد أن كان يطلق على إقامة المآدب، تحوّل إلى محاسن الأخلاق والأعراف المُقرّرة التي يتوافق عليها المجتمع، ثم إلى التعليم والتأديب والتهذيب في مختلف الشؤون والحقول، وكان المعلم الذي يجمع أشتات العلوم يسمى أديبًا. وتوسّع مفهوم الأدب ليشمل جميع ما يُكتَب في اللغة من العلوم والآداب حتى أصبح كلّ ما ينتجه العقل الإنسانيّ من صُنوف المعرفة يُسمّى (أدبًا).

ومن ذلك كان منشأ الكلمة الشهيرة (حرفة الأدب) المنسوبة للخليل بن أحمد الفراهيدي، صاحب علم العروض حيث قال: «حرفة الأدب آفة الأدباء، لأنهم كانوا يتكسّبون بالتعليم ولا يؤدّبون إلا ابتغاء المنالة.»

أما في العصر الحديث فقد أصبحت كلمة (أدب)، لدى جميع الشعوب، تقتصر على (الإبداع) الذي يستخدم الكتابة وسيلة والكلمة مادة له.

الأدب يعني في مفهومنا العصري الكلام المُتقَن بلاغيّا، ذا المعنى، شعرًا كان أم نثرًا، الذي يحمل تجربة الكاتب الشخصية والإنسانية، والتي يعبّر فيها عن أفكاره وأحاسيسه وهواجسه وقضاياه وخواطره، بأسلوب إنشائي فني راق جميل، متميّز عن الحديث العادي، معتمدًا طريقة خلّاقة في التركيب والصياغة والتصوير والإيحاء، ليؤثر في نفوس القراء ويثير لديهم الدهشة والانفعال.  

ولعلّ من أشهر ما قيل في البراعة اللغوية للأدب، بيت الشعر الذي قاله المتنبي مفتخرًا:

«أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي           و أسمعت كلماتي من به صمم.»

من مزايا الأدب، أنه المرآة الصافية التي ينعكس على صفحتها تراث الشعوب وأخبارهم وحكاياتهم، وهو المرافق الأمين لرحلة البشرية في قطار الأزمنة، المسجِّلُ الحافظ لكل محطّاتها وأحداثها.

الأدب هو تاريخ الأمم قبل أن يولد التاريخ، وقد يكون المصدرَ الأكثر صدقًا في نقل الحقيقة وتصويرها، والمنجمَ الذي يحتفره المؤرخون ليستمدّوا منه أصول تدويناتهم ومراجعَها وجذورها.

هو، بمعنى من المعاني، خزّان المعارف التاريخية، لما مضى من الزمان، ولما هو قائم ولما هو متوقّع في القادم من المستقبل.

والأدب صنو الحياة، يتابعها في مساراتها المختلفة. وارتباط  كل واحد منهما بالآخر حتمي لارتباطهما بكيان الانسان. لأن التجربة الإنسانية تُعدّ المحرك الرئيسي للأديب، الذي يستمد قيمته في الديمومة والاستمرار، من مدى ارتباطه بحياة الناس وهمومهم ومعاناتهم. ومن نجاحه في كشف خفايا الوجود ومساهمته في النّهضة البشريّة.

الأدب كان دائمًا حلقة الوصل بين الشعوب وثقافاتها، وإذا أردت فهم تناقل الثقافات وتلاقحها، فما عليك إلّا الاطلاع على تطوّر آداب الأمم وما طرأ عليها بسبب الأخذ والتبادل مع الثقافات الأخرى.

وعندما أراد المستشرقون دراسة ثقافة الشرق وأسباب نهوضه كان الأدب بوابتهم الأوسع التي دخلوا منها إلى هذا العالم.

عندما يريد رجل العلم والاختصاص في الطب أو الهندسة أو القانون ان يعبر الى ميدان الثقافة والمثقفين، يطرق أبواب الأدب الواسعة التي لن تتأخر عن احتضانه ليبدع في أي مجال من مجالاته النثرية أو الشعرية. وكثيرون هم العلماء الذي خلدتهم آثارهم الادبية أكثر مما فعلت تخصصاتهم العلمية.

الثقافة

حين كانت كلمة الأدب رائجة وشائعة وملازمة لعمر البشرية، لم تكن كلمة الثقافة موجودة بمصطلحها كما نفهمه اليوم، لا لدى الغربيين ولا لدى العرب.

ولدت كلمة الثقافة من التداول اللاتيني في القرن الثالث عشر الميلادي، وكانت تعني العناية بالحقول المهيّأة للزرع، ورعاية الماشية الموفّرة للغذاء.

مع بداية القرن السادس عشر، دخلت لفظة الثقافة في سجل التعامل الفرنسي، نقلًا عن اللاتينية، لكنها تحوّلت إلى موقع ميداني يفيد التدخّل بهدف التعديل والتحسين في ظروف إنتاجية الأرض والماشية، عن طريق الفلاحة والحراثة والرعاية (Cultiver).     

في منتصف القرن السادس عشر، استجابت كلمة الثقافة للسياق التاريخي لحركة التنوير، فتطوّرت في معانيها لتشير إلى الكفاءة والتطوير والنماء.

ومع إطلالات القرن الثامن عشر، واتساع حركة التنوير والدعوة لسيادة العقل والعلم، هيمن لفظ الثقافة (Culture)، بمدلولاته المتطوّرة ومفاهيمه الحديثة، وعكس مؤثراته على الشأنين الفكري والاجتماعي، ودخل معجم الأكاديمية الفرنسية، ليفرض وجوده عنصرًا أساسيًا في التنمية والتهذيب والقيادة، أي في تكوين الفكر وتنميته، أدبًا وعلومًا وتربية، فشاعت مصطلحات ثقافية متعدّدة مثل ثقافة الآداب وثقافة العلوم والفنون والسياسة والتربية…كما بدأ تطبيق مفهوم الثقافة للتمييز بين أفراد المجتمع وطبقاته، والتفريق بين ثقافات الشعوب الأوروبية نفسها.

ثم ما لبثت هذه الكلمة أن سيطرت بشكل كبير على كل ما أفرزته الأحداث، فاحتلت مركز الصدارة وأصبحت من أكثر مفرداته رواجًا، وتدخّلت عميقًا في تكوين أي مصطلح يشير إلى النهضة والتقدّم والحضارة والرقي، كما تغلغلت في شؤون اللغة والهوية والدين والتراث والتنمية والذاكرة.

تعدّدت تعريفات الثقافة وتطوّرت حيث أصبحت تعني:

– ذلك المركّب الكلّي الذي يتضمّن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات، وأي قدرات وخصال يكتسبها الإنسان نتيجة وجوده عضوًا في مجتمع.

– مجموعة من الظواهر المادية والأيديولوجية التي تميّز جماعة عرقية أو أمة أو حضارة عن جماعة أو أمة أخرى.

– مجموعة المعارف التي تثري العقل وتصقل الذوق والتفكير النقدي، وتحسّن من وضع الإنسان.

– ما نعبّر عنه بكلمة حضارة.

– ما يتبقّى لدينا بعد أن ننسى كل شيء.

الثقافة في اللغة العربية

خلافًا للغويين والعلماء الغربيين الذين استلهموا كلمة الثقافة من اللسان اللاتيني، فإن أمر الثقافة في اللغة العربية – لفظًا واصطلاحًا – شكّل مسألة جدلية حادة بين الجذور والترجمة، وأثار نقاشًا عميقًا، تداخلت فيه اللغويات وعلوم النفس والاجتماع والتاريخ ونوازع الاستشراق والاستغراب.

فقد ذهب فريق من الباحثين والمفكّرين العرب، إلى أن كلمة الثقافة دخلت لغتنا العربية مقتبسة من الغرب، مع بداية الاتصال الفكري والمعرفي بين المجتمع العربي والمجتمعات الأوروبية، وأن مفهوم الثقافة (Culture) لم يكن موجودًا ولا معروفًا لدى العرب قبل ذلك، بل انتقل إليهم مترجمًا من خارج لغتهم ومفاهيمهم.

بينما ذهب فريق آخر إلى التأكيد أن كلمة الثقافة، مشتقة من الجذر العربي الأصيل وهو الفعل ثقف الذي يدل على الحِذق والمهارة، ويُستخدم في مجالات التقويم وتسوية الاعوجاج، وقد تم استيلادها رغبة في إيجاد مقابل للكلمة اللاتينية الاصطلاحية (كولتور) بالاعتماد على أصولها العربية وليست مترجمة.

بدأ تداول كلمة ثقافة بمواصفاتها الغربية، في الأوساط الأدبية والعلمية العربية، في منتصف عشرينيات القرن العشرين، لدى شريحة واسعة من الكتاب والمفكّرين العرب، وعلى رأسهم الدكتور طه حسين والفيلسوف أحمد لطفي السيد، وعدد من الصحفيين. كما يعتبر الفيلسوف مالك بن نبي من أغزر مَن أنتج في هذا الموضوع، ولعلّ كتابه، «مشكلة الثقافة» هو من أبرز ما تركه لنا في هذا المجال.

يفيد التعريف الصادر عن الألكسو، المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم، أن «الثقافة تشمل مجموع النشاط الفكري والفني بمعناهما الواسع، وما يتصل بهما من مهارات، أو يعين عليهما من وسائل، فهي موصولة الروابط بجميع أوجه النشاط الاجتماعي الأخرى متأثرة بها، معينة عليها، مستعينة بها.»

إذن الثقافة في المفهومين العربي والغربي لا تقتصر على المعرفة فقط، بل هي سلوك ومنهاج من أجل الإصلاح والرعاية والقيادة.

وإذ يجتمع أصل هذين المصطلحين، الغربي والعربي، في دائرة الحِذق والتسوية والتقويم والإصلاح…،فهذا دليل واضح على عراقة المفهوم العربي للثقافة وأسبقيته في هذا المجال.

المثقف

إذا كانت الثقافة، قد وُلدت في القرن الثالث عشر في أحضان الرعاية والعناية بالأرض والماشية، غير أن مصطلح وليدها المشتقّ منها، وهو المثقّف، تأخّر عنها عدّة قرون، ولم يجد سبيله إلى الظهور والشيوع إلّا في الربع الأول من القرن التاسع عشر. ويُعتبر الفيلسوف الفرنسي مُلهم الثورة الفرنسية سان سيمون (1760-1825)، أول من نحت كلمة «انتلكتيال»” وكان يقصد بها تلك الفئة الجديدة من النخبة الثقافية التي تعتمد في كسبها على الإنتاج الفكري والنظري، وتشتغل بالأفكار، وتحمل قيمًا وضميرًا، وتشكل جبهة ضدّ ما كان يسميه سان سيمون بالأفكار المسبقة.

وتجدر الإشارة أيضًا إلى وجود مصطلح آخر مواز للمثقّف في المرتبة والطبقة، وهو مصطلح (الأنتلجنسيا)، الذي يعني «تلك الفئة من الأشخاص المتعلّمين المنخرطين في الأعمال الذهنية المعقّدة، التي لها دور نقدي وتوجيهي وقيادي في تشكيل ثقافة وسياسة مجتمعهم، وتضمّ الفنانين والمعلّمين والأكاديميين والكتّاب ورجال الحرف، والتي يمكن أن يكون أفرادها قادة ثقافيين.»

وتمثّل هذه النظريات مقدّمات أو حركة مخاض لما آل إليه مفهوم المثقّف في دائرة انشغاله ودوره في الحقل العملي الاجتماعي، على النحو الذي تجلّى فيه أثناء قضية الضابط الفرنسي اليهودي دريفوس (Dreyfus) حيث أصدر المفكر والأديب الفرنسي إميل زولا بيانه الشهير «إني اتهم» وتبعه بيان المثقفين من زملائه.

ونأتي إلى بيت القصيد في لقائنا

من اللافت الظواهر التالية:

– مع أن الأدب كان مرافقًا لرحلة لبشرية عبر التاريخ، لكن العصور القديمة وصفت بأنها حجرية، والثقافة هي التي حولتها إلى عصور حضارية.

– في الأسطورةِ أن الإلهَ الإغريقيَ زيوس تنكّر في هيئة ثور فخطف الصبيّة أوروب بنت آجنور ملك صور.

فهبّ إلى إنقاذها أخوها قُدموس، ولحق بالخاطف موغلًا في  بحر إيجه، فبلغ الجزر التي تؤلف ما يعرف بأرخبيل اليونان. استقبله الأغارقة بالترحاب، وأبدوا استعدادهم لمساعدته باستعادة أخته أوروب.

لم يدبّج لهم قصيدة شكر وعرفان، لكنه أعطاهم علم ما كانوا يجهلون، وأهداهم المفتاح الذهبي للثقافة والمعرفة، فعلّمهم الأبجدية وكيف يكتبون.

– عندما رغب أفلاطون المثقّف النوراني في بناء مدينته الفاضلة، على أنقاض المدينة الفاسدة، تراءت أمامه صورة المثقّف الكبير، أستاذه سقراط، الذي قُتل مسمومًا باسم الديموقراطية، وراح ضحية شعب مُضلَّل وخاضع لقوانين خاطئة، فقرّر أن يؤسس مدينته على الفلسفة والحكمة، أي على صُنع الحاكم الفيلسوف المثقّف، على أنقاض الحاكم الطاغية، الذي أودى بسقراط إلى المقصلة. و«الطاغية» كما يعرّفه الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، رئيس قسم الفلسفة في جامعة الكويت، هو الذي «يغيّب الوعي ويحوّل الشعب إلى جماجم وهياكل عظمية تسير في الشارع منزوعة النخاع…شخصيات تافهة تطحنها مشاعر الدونية والعجز واللاجدوى.»

– كان الشعر مهرجان العرب في الجاهلية. وكان فخر قبائلهم ومعلّقاتهم الذهبية، لكن عصرهم بقي عصرًا جاهليًا، كيفا اختلفت أسباب تسميته، ولم تشرق شمس الحضارة العربية إلا بعدما اجتمع العلماء والفلاسفة والشعراء والأدباء في حركة ثقافية شاملة.

– وكانت الآداب والفنون مشتعلة في أوروبا، لكنها كانت غارقة في ظلام القرون الوسطى، إلى أن ولدت النهضة على أيدي المبدعين الذين أطلقوا الانتفاضة في وجه رجال الكنيسة للانتقال إلى عصر تنويري.

– وكانت الفلسفة والعلوم والآداب في أرفع مستوياتها في فرنسا – قبل وإبّان الثورة الفرنسية – لكن لم ينقذها من استبداد المَلَكية وطغيانها إلا ثورة المثقفين التي هدمت جدران الباستيل، وأعلنت انتصار الحرية والأخوة والمساواة.

وطوال هذه الرحلة التي قطعتها البشرية في تاريخها، وحقّقت عبرها قفزاتها المتتالية في المدنية والرقي والحضارة، كان الأدباء والفنانون والفلاسفة، رأس الحربة في طليعة الكوكبة الثقافية التي قادت حركة التغيير والتقدم.

ماذا يعني كل ذلك؟

يعني،

– أن الأدب والثقافة قطبان متوازيان لكل منهما مداراته ومجرّاته، ولكل منهما منزلته ودوره ودورته، ولكل منهما أدواته وأسلحته.

– الأدب قد لا يشكل النهضة بنفسه، وإن عبّر عن بعض أنماط ظواهرها. لكن الثقافة تفجّر أنوار النهضة ضمن مناخ عام تتآزر فيه الآداب والقيم والسياسة والاجتماع.  

– الأدب وحده قد لا يزيل التخلّف من المجتمعات، ولا يشكل بنفسه وعيًا ولا يقظة ولا  تنمية ولا هوية ولا حرية ولا حضارة، وقد يكون محفّزًا لذلك، لكن الثقافة هي القادرة أن تحوّل هذا التحفيز إلى تيار نهضوي واسع.

– قد تكون الآداب والفنون والعلوم جزءًا أساسيًا من الحضارة، لكن صانعتها الحقيقية هي الثقافة.

– الأدب يصنع إنسانًا فنانًا ذوّاقة، لكن المثقّف يصنع إنسانًا واعيًا تغييريًا، يحمي هذا الفنان ويوفّر له السلام والاستقرار. وعندما نقول واعيًا فإنما نقصد أن يعي هذا الفرد الإنسان حقيقة حضوره، وأن يفهم جوهر هويته وعقيدته وتراثه وانتمائه ودوره في المجتمع، وأن يحسن اختيار قادته ومسؤوليه. أن يكون حرّا غير تابع ولا إمعة ولا وصولي. أن يكون إنسانيًا أخلاقيًا. 

– للأديب أدواته التعبيرية، وللمثقف أدواته الفكرية الحركية. لكل منهما وسائل تنويره لإيقاظ الناس. يمكن للأديب أن يوقظ فئة بجودة خطابه وروعة بلاغته وصوره وأنغامه وموسيقاه، لكن المثقّف هو الذي يوقظ فعل الوعي لدى الجميع، بمن فيم الأدباء، حتى ولو كان يضرب على صفائح من نحاس.

وهنا، هنا تحديدًا يمكن أن ينكشف الالتباس، فحالما يبدأ الأدب، وكثيرًا جدًا ما يفعل، بإشعال فتيلة التنوير والدخول في معترك حركة التحريض على اليقظة والوعي، يتحوّل صاحبه من أديب إلى مثقّف، ويصبح بذلك مسكونًا بالبحث عن مواجع وهموم الإنسان، ومتصدرًا لحملة التحصين والوقاية، لأنه يمتلك مزيّة يفتقدها الكثير من المثقّفين، وهي قدرته على حشد التأثير والتأييد على مساحة واسعة من جماهير المجتمع، وبالتالي يصبح أكثر خطرًا من المثقّف التقليدي، ويكون عرضة للاستهداف لاقترافه جريمة التعدّي على سلطة ليست من حقوقه.

وإليكم بعض الشواهد:

– يُذكر أنه مع صعود الفاشية في إيطاليا، وأثناء محاكمة المفكر الأديب المثقف أنطونيو غرامشي، قال المدعي العام في دولة موسوليني: «يجب أن نوقف هذا الدماغ عن العمل لمدة عشرين عامًا»، ولا تثير هذه المقولة الاستغراب، لأننا نُدرك خطورة المثقّف الحقيقي، الذي يمتلك ناصية الحقيقة، ويستطيع إيصالها للآخرين.

– الروح العظيم «غاندي» فيلسوف المحبة وناسك محراب السلام وحكيم التسامح واللاعنف، أثار ثلاثماية مليون إنسان وزعزع أركان أكبر الإمبراطوريات في زمانه (بريطانيا)، وأحدث في سياسة البشر أعظم حركة عرفها التاريخ منذ نحو ألفي عام، عندما أطلق مبادئ نظريته الجديدة «الساتياغراها» والتي عُرفت في عالم السياسة بـ«المقاومة السلمية» أو فلسفة «اللاعنف وقوة الحق والإصرار عليه»، كوسيلة لتحقيق الإصلاح الاجتماعي والسياسي. والتي قال غاندي عنها: «إن اللاعنف هو أعظم قوة متوفرة للبشرية. إنها أقوى من أقوى سلاح دمار صنعته براعة الإنسان.»

– يقول الأديب المثقّف توفيق الحكيم في كتابه «فنّ الأدب»: «الأدب ويداه، يمناه الخلق الذي يُنتج ويبتكر، ويسراه النقد الذي ينظّم ويفسّر.»

ويقول الحكيم في كتابه «وثائق في ملفات عودة الوعي»: لما كان كتابي «عودة الوعي» هو في الأصل انطباعات وتساؤلات ودعوة إلى فتح الملفات؛ لمعرفة الحقيقة عن فترة من تاريخ بلادنا، فإن هذا الكتاب هو خطوة في طريق عودة الوعي إلى الأمة بمعرفة شيء من الحقيقة التي ُحجبت عن كثير من الناس. فمن استطاع الحصول على وثيقة من الوثائق، هو الذي يستطيع أن يُسهم بالفعل، لا بالكلام، في إلقاء الضوء على فترات التاريخ».

والدافع الذي حثّ الحكيم لإصدار هذا الكتاب هو أنه: «في أعقاب هزيمة 1967، صدر قرار بتعيين محمد حسنين هيكل وزيرًا، أي بنقله من مجال القلم في جريدة الأهرام، إلى كرسي السلطة.

وأراد الحكيم أن يجعل من هذه المناسبة وسيلة لإفهام الرئيس عبد الناصر أن البلاد، وهي تعاني أزمة نفسية شديدة بعد الهزيمة، أصبحت لا تصدّق ما يصدر عن الجهات الحكومية؛ لأن الأزمة هي أزمة ثقة وأن الأقلام الحرة المستقلة هي وحدها التي تستطيع أن تعالج نفسية الرأي العام.  فأرسل رسالة إلى الرئيس عبد الناصر. ولكن هذه الرسالة على الرغم من صيغتها الودية ونصحها الأمين، لم تكن محل ترحيب بل كانت موضع ضيق وأصبحت موضع تحقيقات، مع أن الحكيم كان من أشد المؤمنين بالثورة وقيادة عبد الناصر، حتى أنه يذكر أنه يسمّي عبد الناصر “عودة الروح” بالنسبة إلى مصر نسبة إلى كتابه المعروف (عودة الروح).»

– في كتاب دراسات في الأدب والثقافة، يقول المفكر المثقّف ت س. إليوت (Thomas Stearns Eliot) : «لا نعرف أين يبدأ الأدب وأين ينتهي. هذه الحركة التي تسمّى التنوير، والتي كان موطنها فرنسا، لم تكن حركة أدبية في المحل الأول، بل كان الأدب الذي أنتجته ناتجًا ثانويًا، وغنيّ عن القول إن الثورة الفرنسية كانت مدينةً بالكثير لفلاسفة التنوير مع أنهم لم يكونوا هم أنفسَهم سياسيين ولا شغلوا أنفسَهم بالعمل السياسي.

بعد أن فرّ المفكّر والأديب المثقف فولتير من فرنسا هربًا من ملاحقة آل بوربون، صاح: اسحقوا العار، فسمعته كل أوروبا، ولما عاد دخل باريس دخول المنتصر وكأنه عاهل مستقل للعقل، أو إمبراطور للتهكّم الماحق. ولم يحدث قبله أو بعده أن سيطر كاتب على المجتمع كما سيطر فولتير على مجتمعه طوال خمس وعشرين سنة من حياته.»

 نصل معكم إلى فحوى الموضوع

في عالمنا العربي يكفي أن تضع إصبعك على أي موقع في الخارطة لتحترق.

في هذا العالم المأزوم والمرصود للنكبات والنكسات والهزائم، تضج الساحات بالأدباء والشعراء والروائيين والفنانين والمسرحيين، ولكن أين المردود والمحصول على مستوى الإنسان وأمنه ورقيه واستقراره ومستقبله وصناعة وعيه؟ ولا نعني بذلك أبدًا إدانة أهل الأدب، إنما نقصد انهيار الحاضنة الثقافية التي من شأنها أن تستوعب الآداب وتستلهم منها الرموز لتبني خططها للتطوير والتغيير.

وزارات الثقافة والإعلام واتحادات الكتاب والاندية الثقافية كلها، تهتم بالآداب والفنون، وهذا مطلوب ورائع، لكن الأهم هو بناء الإنسان الواعي القادر على تغيير الأنماط وتعديل السلوك. فمهما كشف الأدباء من العلل، وكيفما بالغوا في تصويرها بأبشع مظاهرها، فلن يحدث التغيير ما دام  الأطباء غائبين عن تلقّف هذه التشخيصات للبدء بالعلاج.

لو فعلت الثقافة، لما كنا نعاني من صراعات مذهبية وطائفية وعرقية، ولما كنا نعاني من فساد سياسي، ولما كنا مدفوعين إلى الهجرة والبحث عن ملاذ آمن، ولما كنا نشهد المآسي الدموية التي تحيق ببلادنا من كل أطرافها، ومستنقع التخلف الذي سقطنا فيه منذ قرون.

أما على مستوى العالم، فحدّث ولا حرج.

على الرغم من ازدهار حالة الآداب بفنونها المتنوعة حول العالم، وارتفاع حصيلة الجوائز العالمية التي ينالها البارزون في مختلف الحقول الأدبية والعلمية، تنتاب العالم حالة من الصدمة بسبب الأخبارٌ والتوقّعاتٌ المذهلة، المشحونةٌ بالتشاؤمِ واليأس، حول سقوط أعلى  الثقافات التي رفعت الحضارة، وتلاشي المثقفين الذين حملوها بفلسفتهِم وأفكارهم المضيئة.

هناك أدباء محلّقون وعلماء بارعون وثورة علمية وتقنية باهرة، لكن العالم يعاني من أزمة حادة في «الأخلاق والهمجية ونظام التفاهة ونظام العمى والعمه وفقدان البصيرة وما بعد الإنسانية وموت الغرب وصراع الثقافات والحضارات…» وهذه النعوت ليست من ابتكاري، إنما هي عناوين لكتب المفكرين والأدباء المثقفين  في العالم.

يؤكدُ هؤلاء أن الحضارةَ الغربيةَ أُصيبت بما يُعرفُ بعلّةِ النكوص، وهي تعاني من الوقوعِ في مأزقٍ كبيرٍ بدأَ ينحدرُ إليه المثقفون نحو الهاوية، وذلك بسببِ اختلالِ التوازنِ بين الروحِ والمادة، وانفصالِ العِلمِ عن الإنسانية، وتجريدِ الحياةِ من الأخلاقِ والقيم.

لقد دبَّ الوهنُ في روحِ المثقّفِ الغربي وجسدِه، وبدأت الجوانبُ المضيئةُ في حضارتِهِ بالانطفاء، بعد أن كوّنت إرثًا إنسانيًا عظيمًا، دفعَ العلماءُ والمفكّرون حياتَهم ثمنًا له.

عن الحضاراتِ المهووسةِ والمأزومةِ في الغرب، وضعَ المؤلّف البيروفي ماريو فارجاس يوسا، الحاصل على جائزةِ نوبل للآداب عام 2010، كتابه الموسوم «ملاحظات على موت الثقافة» واصفًا إيّاها بـ«ثقافة الاستعراض»، ليكشف فيه ما يعتبره زوال الثقافة بعد أن «أُفرِغَت من مُحتواها».

وليس من المفاجئ أن يرى يوسا ذلك الموت المزعوم للثقافة متجسّدًا في طقس كونّي من التهريجِ السياسي، فهو كاتب وأديب ومثقّف قبل كل شيء، ارتبطت حياته الإبداعية بهاجس الفعل الإيجابي المعمّر.

من هنا جاءت أحكام «موت الداعية وخيانة المثقفين وموت المثقف وتراجع المثقفين وأزمة الثقافة والمثقفين»، وتحميلهم تبعات المآسي المتساقطة على الحياة، من دون أن نجد في المقابل أحكامًا بخيانة الأديب أو موته أو تراجعه ، والدليل الساطع أننا نعاين وفرة في الأدباء لكننا نعاني فقرًا مزمنًا في دم الثقافة والمثقفين.

إن قضيةَ الإنسانِ المثقّفِ تتمحورُ دائمًا، في أوجِ ازدهارِها أو أدنى تراجعها، في كونه رجلًا  مستعدًّا  للانخراط في هموم مجتمعه، ووضعِ معرفته في خدمة علاجِ ما ينتاب هذا المجتمع من علل وأمراض، وليس في تخزين المعلومات والمعارف لتحسين موقعه الشخصي وسلطته ونفوذه وعند هذه المفصليّة الأساسية، يتجسّد دور المثقّف ووظيفته، وتتوقّف أسباب نجاحه أو فشله وهزيمته.

إذا كان مصطلح الثقافة قد تُوّج ملكًا على المملكة الإنسانية، وضمّ إلى رعايا عرشه كل فصائل التنوير والوعي والتنمية والرقي، فإن الأدب هو الدرّة التي ترصّع تاجه، وهو أبهى أثوابه الملوكية، وكبير الأمناء على خزائنه الفكرية والاجتماعية، ولسانه الذي يفيض جمالًا وبلاغة، وكرسي عرشه، وسفيره الديبلوماسي الصادق الحاذق في تمثيله وعقد الروابط مع الآخرين.

الأدب، بتنوّعاته الإبداعية الزاخرة، بين القصيدة أو المقالة أو القصة أو الرواية أو العرض المسرحي، واقعيًا كان أو تخيليًا أو أسطورة،  محفورًا على وجه الصخور أو على صدور الجلديات والأوراق، يبقى من أثمن ما أنتجه حقل الفكر الإنساني، وغاية ما يسعى إليه المثقفون، ومطلب الناس على مختلف طبقاتهم ومستوياتهم العلمية والاجتماعية.

في حضرة الأدباء، نكون محظوظين في الانضمام إلى «الزمرة المقدّسة» التي «وهبها الله جانبًا من صفة الخلق، يضيف إلى معرفة الإنسان بالإنسان ما لا تقدمه كل العلوم مجتمعة ومتفرّقة.»

ولكن في حضرة الأدباء المثقّفين، نكون أمام تباشير الفجر للوعي والنهوض والبدء باقتلاع جذور الطاغية من النفوس والعقول.