الجهاد في القرآن
الباحث الأديب: أسامة أبو شقرا
منهج جديد في علوم الدين
د. علي منير حرب
ألقيت الأحد في السابع من تشرين الأول 2018، في مقر جريدة الرسالة، في مونتريال كندا، لمناسبة حفل توقيع كتاب “الجهاد في القرآن” للأستاذ أسامة أبو شقرا.
الحضور الكرام،
أسعدتم مساءً
حين تكرّم صديقي الأديبُ والباحث أسامة ابو شقرا، وأهداني مجموعة كتبه، ومن بينها كتابُه الجديد “الجهاد في القرآن – لا قتال بعد وفاة النبي” (عليه الصلاة والسلام)، وهو موضوع لقائنا وحديثنا اليوم، شدّني عنوانُ الكتاب، في شقيه “الجهاد في القرآن”، أي بما يتضمنُه الكتابُ الكريم في ما يتعلق بالإذن للجهاد بالمواجهة والقتال تحديدًا، والشقُ الثاني وهو أنه “لا قتالَ بعد وفاة النبي” عليه السلام، وهو لعمري طرحٌ مستجد وعبقري وفذُ، لم يسبق الكاتبَ أسامة أحدٌ إليه، إذ يقرّر، أن أي دعوة للقتال، أي الجهاد بالسيف وحروب السلاح، قد انتهت بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن أذن له ولأتباعه المؤمنين في مواجهة الكافرين الذين تمادوا في أذيّة المسلمين، واضطهادهم والاعتداء عليهم ومصادرة أملاكهم وإخراجهم من ديارهم، طوال ثلاثَ عشرةَ سنةً على انطلاق الدعوة الإسلامية بالحسنى والحكمة والحوار.
وحين عكفت على تقليب صفحاته قلت في سرّي: كان الله في عون هذا الصديق، فقد خاض حقلا شائكًا مفخّخًا بالألغام، شكّل في الماضي جدلًا طويلًا بين الفقهاء والعلماء والمشتغلين بأمور الدين، كما يشكّل حاضرًا، بؤرةَ صراعٍ دموي ضار، تداخلت فيه وتشابكت أهدافٌ ومصالحُ وأطماعٌ، من قبل قوى كانت تعتبر نفسَها سيدةَ القرارات في العالم، وأخرى تطمح لاسترداد نفوذِها واستعادةِ مواقعِها على الخريطة الكونية، وسيطرت عليه أفكارٌ وفتاوى واجتهاداتٌ ودعاوى هي أقرب إلى السفسطة والتزوير والدجل، ولا تهدف إلا إلى دسّ السمّ في العقول والنفوس، وتعمية البصائر وقلب الحقائق وتجييش الغرائز واستنفار العصبيات، لتشويه صورة الله سبحانه وتعالى، ومسخ جوهر الأديان بعامة، لا سيما منها الدينُ الإسلامي الحنيف، في أعنف موجة من موجات التسونامي التي تجتاح أسس الايمان والتقوى والتسامح والمحبة والانسانية، لاجتثاثها من الأفئدة، بأسلوب أعاد إليّ ما طرحه الكاتب الأميركي من أصل ياباني فرنسيس فوكوياما، في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” الصادر عام 1992، والذي جادل فيه بأن انتشار الديموقراطيات الليبرالية والرأسمالية والسوق الحرّة في أنحاء العالم قد يشير إلى نقطة النهاية للتطوّر الاجتماعي والثقافي للإنسان. والذي ألحقه أستاذه صمويل هنتجتون بكتابه “صدام الحضارات”، والذي يقول فيه بأن صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون الاختلافات الثقافية المحرّك الرئيس للنزاعات بين البشر في السنين القادمة. وتوسّع هنتجتون في نظريته عندما أكّد أنه خلال الحرب الباردة كان النزاع أيديولوجيًا بين الرأسمالية والشيوعية، ولكن النزاع القادم سيتّخذ شكلًا مختلفًا ويكون بين حضارات محتملة ومن بينها الحضارة الإسلامية.
وعندما خضت في قراءة عناوين فصول الكتاب ردّدت قائلاً: ماذا سيفعل هذا العاشق للقرآن وللإسلام وللتاريخ، والمشتغل بالعقل والعلم والمنطق والحجّة والرقم، وهو من غير عِمّة ولا جُبّة ولا لحية؟ في ساحة احتكرتها جهات مختلفة، وضجت بالخطاب والشعارات والأصوات الصارخة، والتقولّ والتفيقه والإفتاء عن الجهاد والإسلام والأديان.
ولا أنكر أبدًا، أن هذا التساؤلَ لم يكن إلا حافزًا قويًا دفعني للسهر على قراءة الكتاب من “الغلاف إلى الغلاف”، حيث انتهيت وأنا أكبر للكاتب ما اجترحه من طروحات وآراء وخلاصات، وما كابده من جهد ومثابرة وبحث وتدقيق وتقميش وتحقيق، حتى ينجز عملاً يستحق، بكل المعايير والمقاييس، أن يأخذ موقعه في صدر المكتبات ومراكز الأبحاث وطاولات النقاش ومنتديات حوار الأديان.
ومن أبرز ما تمكنت من استشفافه، في هذه الرحلة الشائقة والغنية التي أمضيتها مع كتاب صاحبي، أمور عدة أهمها:
- إيمانه الراسخ والقاطع بالقضية التي يتصدى لها، ويدافع عنها. ليس دفاعًا عن الإسلام فحسب، بل دفاع عن روح الأديان النقية التي لطختها مزاعم وادعاءات باطلة.
- يقينه الايماني العميق بأن الأديان بعامة، والإسلامَ بخاصة، براء من كل ما ألصق بها من المزاعم والافتراءات من أنها كانت وراء كل الصراعات الدموية التي شهدتها المجتمعات المختلفة، وأن ما جرى من أحداث وقتال واعتداءات إنما كان من أتباع الديانات أنفسهم، ولأغراض دنيوية ومطامع استعمارية، ألبسوها أثواب الدين، ليضفوا عليها شرعية إلهية، ويدينوا “صاحب الدين” وهو الله العزيز الحكيم، بتهمة الحضّ على القتل والإجرام والاعتداء وانتهاك الحرمات.
- التزام المنهج العلمي الدقيق في أساليب البحث والتدقيق، دون أية خلفيات وأحكام مسبقة. والحرص على رصد كل الآراء ووجهات النظر والعمل على تمحيصها ومراجعتها وإثباتها أو نفيها بالأدلّة والشواهد والنصوص والأحداث.
- إتباع نهج واضح في تناول آيات القرآن الكريم، من حيث مضامينها وأسباب نزولها والأحداث التي استدعتها، وربطها في ما بينها، أينما كانت موزّعة في السور، لتشكّل وحدة موضوعية متكاملة لا يعتورها تناقض أو نقص أو تأويل خاطئ.
- الخروج بخلاصات وطروحات جديدة في موضوع مفهوم الجهاد والقتال في القرآن، يعتبر سابقة فكرية وفقهية في هذا المضمار، تخالف الكثير من الآراء والمفاهيم، وهذا ليس بشهادتي أنا، إنما بشهادة العلامة السيد علي الأمين، الذي قدّم لهذا الكتاب.
- تحديد التوجّه بطرح واضح وجليّ حول موقف الإسلام من أتباع الديانات الأخرى، وأؤكد هنا على صيغة أتباع الديانات وليس أصحابها، لأنني مؤمن بأن للأديان جميعًا، صاحبًا واحدًا هو الله عزّ وجل، كامل في صفاته وجلاله، لا يناقض ذاته، ولا يمكننا أن نعتقد لحظة أنه في ما يدعو إلى الرحمة والتسامح والإخاء والتعاون يقوم من جانب آخر بالدعوة إلى القتال والصراع والكراهية والأحقاد والانتقام، وهو الذي أطلق على ذاته الأسماء الحسنى: الرحمن الرحيم السلام الملك القدوس العادل الرؤوف البارئ الخالق العفو الغفار….
أيها الحضور الكرام
لن أطيل عليكم في تناول مضامين الكتاب، لأترك لكم شهية قراءته والإبحار في فصوله وأبحاثه وأهدافه. ولكنني قبل أن أنهي، أودّ أن أتوجّه إلى الصديق أسامة بكل التقدير لهذا الانتاج الرصين الذي يأتي في وقت نحن جميعًا بأمس الحاجة إليه بعد أن انحدر الخطاب الديني إلى أسفل دركاته على ألسنة مجترحي الإرهاب وصانعيه، ومقترفي أشنع الجرائم بحق الإنسانية. فهذا الكتاب يشكّل مرجعًا ذاخرًا يغني المكتبات العربية والإسلامية والدينية في آن.
فالصديق أسامة، يتصدّى بكتابه لأخطر داء يضرب عصرنا منذ عشرات السنين، ويهدّد الإنسانية جمعاء بحمّامات من الدماء قد تطول لتأكل أرواح الناس وتهدم ما بناه الإنسان عبر قرون طويلة من الزمن.
وأتمنى على أخي أسامة، وأظنّه فعل، بأن يرسل هذا المرجع البحثي الوثائقي، بأسرع وقت ممكن، إلى المكتبات والجهات المعنية كافة، وأخصّ منها، الجامعاتِ ومراكزَ الأبحاث ودورَ الفتوى، وجمعياتِ حوار الأديان والحضارات، وسفراءَ السلام في العالم.
شكرًا لحسن استماعكم.
والسلام عليكم جميعًا.