حرق المصحف أم إحراق الديموقراطية؟!...
مرّةً جديدة تطعن الديموقراطية في عقر دارها وعلى أيدي دعاتها ومعتمديها.
لا اتوقّع أن تكون حادثة حرق نسخة المصحف التي جرت مؤخرًا (2023/01/21) في ستوكهولم (السويد)، هي الأخيرة في مسلسل العنف والكراهية، ما دام تيار اليمين المتطرّف يجتاح العالم، لاسيما في أوروبا.
من الظواهر الشائعة في مسألة حيازة السلطة والقبض على كراسيها، أن الطامعين إليها في البلاد النامية، يتوسّلون ما هو مباح وغير مباح لتحقيق مآربهم.
ولكن، يبدو الأمر فجًّا ومقيتًا جدًا، عندما تنتقل هذه العدوى القاتلة إلى عمق الأرض الديموقراطية، إذ تتلبّس أبشع صور التكاذب، ويكتنفها الكثير من الرياء والمصلحية والشعبوية المضلّلة، وأمثلة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وغيره ما زالت طازجة في الذاكرة.
قدّمت السويد نفسها، على أنها من أعرق الدول الديموقراطية في العالم، وأنها من أكثر الدول استقطابًا للمهاجرين، من كلّ الأطياف الإنسانية دون تمييز، نظرًا لما تؤمن به وتطبّقه من قيم التسامح والعدل وحرية المعتقد والتعبير وحقوق الإنسان.
ندرك جيدًا أن للسويد الحقّ الكامل في اختيار سياستها وخططها وعلاقاتها، وتحديدًا في موضوع سعيها للانضمام إلى مجموعة الحلف الأطلسي.
ونتابع ما يعوّق هذا الطموح بفعل الفيتو التركي.
ولكن ما لم نتمكّن من تفسيره إزاء هذه الحالة، هو العلاقة الملتبسة بين حرق المصحف أمام القنصلية التركية ورفع الصور المسيئة للنبي وللدين الإسلامي، إلّا إذا كان القرآن الكريم، قد تضمّن نصًا خفيًّا، لم يكتشفه علماء التفسير والفقه، يدعو إلى رفض دخول السويد في حلف الناتو، وتفتّقت عبقرية زعيم حزب “الخط الصلب”، اليميني المتشدّد، الدانماركي المهاجر هو أيضًا، راسموس بالودان، عن اكتشاف هذا العائق الإيديولوجي الخطير، وهو يعلم جيدًا، كما دولة السويد، أن المهاجرين المسلمين في السويد لا أثر ولا تأثير لهم في هذه القضية، وأن تركيا دولة علمانية، وأن رفضها قائم على شروط تتعلق ببعض الأحزاب والأشخاص الذين تتهمهم بالإرهاب، ولا يمتّ بصلة عقيدية دينية.
كان بإمكان بالودان، لو كان حريصًا على مبادئ الديموقراطية حقًا، وعلى حق بلده في طلبها، أن يطالب مجموعة الحلف بتعديل دستوره الذي يوجب موافقة جميع الأعضاء على طلب أي دولة بالانضمام إليه. أو أن يساهم في إيجاد أي مخرج تفاوضي سياسي من هذا النفق.
ولكن ما كان يرمي إليه حقيقة هو رفع منسوب الخطاب الشعبوي لاستقطاب المؤيدين لحملته الانتخابية، وإيقاظ غرائز الحقد والكراهية والعنف الديني، واستدعاء ردّات الفعل الجامحة في مثل هذه المواقف، في محاولة لكسب معركة سياسية يعلم جيدًا أنها خاسرة كما خسر سابقتها، باستخدام أفتك الأسلحة وأقذرها والتي جرّت على البشرية ويلات دموية مدمّرة.
والأدهى من ذلك أيضًا، أنه قام بارتكاب فعلته المشينة بسماح وتأييد من السلطات وحمايتها. وهذه هي الطعنة الأمضى التي أصابت الديموقراطية جراء ذلك، لأن الدولة هي الموكلة بأمر حماية الحريات – عصب الديموقراطية – من تفلّتها وجموحها وخروجها عن مسارها الأخلاقي والاجتماعي، وخصوصًا أن من تحميه وتؤيده صاحب سجل عدلي سيّئ لديها.
في حوادث مماثلة سابقة، أقدم أصحابها على الإساءة للمسلمين ورموزهم الدينية، سواء في حرق المصاحف أو الاعتداء على أماكن العبادة أو المحجبات، كانت تسارع النخب السياسية والثقافية لتطويقها وإطفاء نيرانها قبل أن تتمدّد.
ولكن، ما يتجلّى من استفحال هذه الظواهر وتصاعدها وتواترها وتنقّلها بين الدول، بحماية المسؤولين وتأييدهم ورعايتهم، بات أمرًا يستدعي التدخل الحاسم، ليس من أجل حماية القيم الدينية والأبرياء المعتدى عليهم فقط، بل من أجل وقف هذا التدهور الخطير لحال الديموقراطية، وهذا الانحدار المخيف في ممارسة الحريات، والذي ينذر بشر مستطير يهدّد سلام العالم وأمنه واستقراره.
بالأمس القريب، تهوّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ولم يحسب لمغبّة تصريحه الانفعالي وأبعاد ارتداداته على عالم إسلامي يضمّ أكثر من مليار نسمة، وفي أجواء عالمية تضجّ بالتطرّف والإرهاب والقتل، فأعلن، مدافعًا عن التهكّم بالصور الكاريكاتورية على نبي المسلمين، أننا “لن نتخلى عن الرسوم الكاريكاتورية…لأن الإسلاميين يريدون الاستحواذ على مستقبلنا”، متناسيًا روح الثورة الفرنسية التي علّمت العالم مبادئ “الحرية والإخاء والمساواة”، ومتغافلًا عما قاله أئمة المفكرين الفرنسيين عن الإسلام.
وكانت النتائج كارثية على المجتمع الفرنسي وما شهده من تداعيات انتقامية.
فهل يعي المسؤولون في السويد الخطورة المترتبة على موقفهم غير المتسامح وغير الديموقراطي، ويتمثلون بأنصع النماذج الحكيمة التي تجسّد أسمى وأنبل القيم الديموقراطية في عالمنا الحديث، رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن، عندما وقفت في ساحة هاغلي بارك، أمام خمسة آلاف شخص، في أعقاب تفجير المسجدين (2019) وقرأت حديث الرسول العربي عليه الصلاة والسلام، مستخدمة اللغة العربية: “مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.” وختمت بصرختها المدوّية في وجه التعصّب والتطرّف والإرهاب: “نحن واحد”!…
إن حرق مصحف من قبل بعض الأفراد الموتورين، لن يقضي على الإسلام، كما أنه لن يقوّض الديموقراطية.
لكن السماح به والسكوت عنه وتأييده من قبل الدولة هو مؤشّر خطير لبداية إحراق الديموقراطية و”نهاية التاريخ” و”صدام الحضارات”.