د. علي منير حرب
خاص / مجلة همس الحوار – لندن
كندا في 12/01/2022
1- في التحديث وأبعاده
كثيرًا ما دخل المشتغلون في شؤون التنمية الثقافية والاجتماعية، تلك التخوم المحايدة بين حدود مفهومي التحديث والحداثة، إلى درجة الخلط أحيانًا بين مدلولات وركائز ومرامي كل من المصطلحين اللذين إن تقاطعا أحيانًا عند مبادئ التجديد والتغيير والتطوير، لكنهما يتباعدان توازيًا في أسباب النشأة وأنماط التطبيق وأبعاده.
في المعنى اللغوي والاصطلاحي البسيط لمفهوم التحديث، كما شاع وساد عبر حقبات التاريخ الإنساني، أنه يأتي استجابة لحاجة إدخال عنصر جديد واعتماد أسلوب مغاير، على مختلف مراكز النشاط الإنساني، تجنّبًا لترهّل الوسائل التقليدية المعتمدة، وتلافيًا لقصورها وعجزها عن تقديم الاحتياجات الإنسانية الأفضل، ورغبة في تحسين عجلة الأداء لمهام إدارة المجتمعات، ومسايرة لمتغيرات الظروف الطارئة على الحياة، بما يفيد هنا تقاطع مفهوم التحديث مع واقع المعاصرة ومنجزاتها.
من هنا يمكننا أن نفهم حقيقة الدعوات المتلاحقة التي رافقت الإنسانية، والهادفة إلى تطوير المجتمع وتغيير أحواله وبناء أسس الدولة الحديثة، وإنشاء وتشكيل اللجان المكلّفة بتحديث المؤسسات والقوانين والإدارات ومراكز الخدمات وما إليها. وبقدر ما كانت تتّسع حدود الدولة ويمتدّ شعاع سلطانها، بقدر ما كانت تجد نفسها محتاجة للبحث عن التحديث في مختلف مظاهر حضورها المادي والمعنوي.
فالتحديث هو الأخذ بالتطوّر العلمي والتقني، وتشييد البنية التحتية للمجتمع حسب معطيات هذا التطوّر، وفي مختلف جوانب الحياة العمرانية، وأنماط الاستهلاك والعيش والمواصلات والاتصالات، وأدوات وأساليب الرفاه، وغيرها من المنتجات والمخترعات التي وصلت إليها البشرية. وتكاد مجتمعات العالم تتشابه من حيث بنية التحديث وإطاره العام، إذ يتجلّى بكونه صناعة مستمرة، محلية بحتة، استدعتها ظروف التطوّر الطبيعي، على الرغم مما قد يلجأ إليه من عناصر خارجية تطعيمًا أو تقليدًا أو اقتباسًا.
وحركة التحديث، بهذا المفهوم، تعتبر سابقة لكل ما تولّد بعد ذلك من مصطلحات الحداثة والمعاصرة وما شابههما، لأنها بنيت على مبدأ التكامل في الاختلاف الكوني، وعلى مبدأ النزعة الإنسانية المتأصلة في استمرار البحث عن الأفضل والأكمل، وعلى مبدأ الخضوع لإرادة وحتمية التحوّل التدريجي في المجتمع، والتحرّك للتعرّف على المتغيّرات التي تساهم في التقدّم، ومن ثم تفسيرها وتطبيق أصولها.
والتحديث هنا لا يقتصر فقط على الجوانب المادية للحياة، إنما يتوسّع ليشمل الجوانب الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية، ويعمّ مختلف الفئات والنشاطات كافة.
فكما نرصد مفاعيل التحديث في المجالات التنظيمية والعلمية والعمرانية والعسكرية، نستطيع أن نتبيّن انعكاساته أيضًا وبوضوح في الاتجاهات الأدبية والفنية والفكرية.
ومن أجل أن نكون أكثر تحديدًا وتمثيلاً لتطبيقات التحديث، يمكننا أن نشير مثلًا إلى استصلاح الأراضي لضمان صلاحيتها للخصوبة والنماء، وشقّ الطرقات وبناء الجسور وصك العملات وإنشاء الدواوين واجتراح الأسس والقوانين لمراقبة أموال الدولة وحقوق الناس، وما كان يستحدث فصلًا بعد فصل تبعًا لمعطيات الواقع ومقتضياته. يقابل ذلك ما كان يجري في أفق الإنتاج الفكري والعلمي والأدبي والفني من تطوّرات ودعوات للابتكار والتجديد، جسّدتها مجموعة واسعة من تجارب المخترعين والمكتشفين والمجدّدين النهضويين، ممن تولّدت لديهم تطلعات تقدّمية لبناء غد ومجتمع وإنسان أفضل.
وفي هذا الإطار رأى عالم الاجتماع الفرنسي “ألان تورين”، أنه “صار أسهل الفصل بين “الحداثة والتحديث”. كما تعالت الدعوات إلى أهمية استخدام مصطلح “التحديث والمعاصرة” والحدّ من استخدام مصطلح “الحداثة”، ما دام التحديث يمثّل عملية متواصلة لإضفاء مظاهر الحياة الحديثة على الدولة والمجتمع.
2- في الحداثة وملابساتها
يلاحظ الدارسون لموضوع الحداثة، أن جذور هذا المصطلح، كما نشأ وطرح وسوّق له أصحابه وأذاعوه ودعوا إليه، قد نمت وترعرعت على مدى قرون متواصلة، منذ مخاضات النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر وصولًا إلى القرن التاسع عشر، حيث انفجر بأعتى تجلياته الانقلابية على كل ما هو كائن في المجتمع.
ويشير هؤلاء الدارسون أيضًا إلى أن انبلاج فجر الحداثة جاء في أعقاب ثلاث حوادث غربية كبرى، وهي: حركة الاكتشافات الجغرافية التي أدت إلى وصول الأوروبيين إلى العالم الجديد، وحركة الإصلاح الديني المسيحي التي قلّصت النفوذ المادي للكنيسة، والثورة الصناعية وما صاحبها من ازدهار في العلوم الطبيعية والبيولوجية.
ويدلّ مصطلح الحداثة إلى السعي الحثيث “لخلق بنى وأنظمة فكرية ومجتمعية واقتصادية وسياسية جديدة، والإطاحة بالبنى والأنظمة القديمة القائمة”، كما يشير إلى “انتشار منتجات النشاط العقلي العلمية، والتكنولوجية والإدارية، ويشير كذلك إلى الفصل الحاد بين قطاعات الحياة الدينية والاجتماعية، والسياسية والاقتصادية والثقافية.”
ونتيجة لهيمنة الكنيسة انبثقت بعض الاتجاهات التي تحضّ على التمرد ورفض القيم المسيحية السائدة وتطالب بالانسلاخ عن الدين وفصل المجتمع عن الكنيسة، وبالتالي فصل الدين والممثلين له وكفّ يدهم عن التدخّل في شؤون الدولة والدنيا، وصولًا إلى تبنّي إلغاء كل النظم والعقائد الشمولية، والدعوة للاتجاه نحو الليبرالية والعلمانية والرأسمالية والماركسية، والارتكاز على العقل وحده وما ينتجه من علوم تطبيقية ملموسة في حلّ مسألة المعرفة والتوصّل إلى الحقائق الوجودية الكبرى التي يبحث عنها الإنسان.
وصف أحد الباحثين الغربيين الحداثة “بأنها زلزلة حضارية عنيفة، وانقلاب ثقافي شامل، وأنها جعلت الإنسان الغربي يشك في حضارته بأكملها، ويرفض حتى أرسخ معتقداته الموروثة.”
وقد عرف “رولان بارت” الحداثة “بأنها انفجار معرفي” قائلًا: “في الحداثة تنفجر الطاقات الكامنة، وتتحرّر شهوات الإبداع في الثورة المعرفية مولدة في سرعة مذهلة وكثافة مدهشة أفكارًا جديدة، وأشكالًا غير مألوفة، وتكوينات غريبة، وأقنعة عجيبة، فيفيق بعض الناس منبهرًا بها، ويقف بعضهم الآخر خائفًا منها. هذا الطوفان المعرفي يولّد خصوبة لا مثيل لها، ولكنه يُغرق أيضًا.”
وقد انسحب مفهوم الحداثة بثورتها وجموحها على الجانب الأدبي حيث ظهرت الدعوات لتحرير الأدب من القيود الأخلاقية أو العقدية. فالذين تبنوا الفكر الحداثي راحوا يهتمون بالجنس الأدبي أيًا كان، من حيث الشكل والنواحي الفنية به، بغض النظر عما يحمله من أفكار قد تتنافى مع العقائد والشرائع والأخلاقيات.
واعتبر الكثيرون أن الحداثة ليست نظرية عابرة وطارئة، إنما هي واقع تاريخي يصدر عنه تيّار تغييري وتطوّري شامل اجتماعيًا واقتصاديًا، ومفهوم ينتمي لكل الأزمان، وأن أوروبا والعالم المعاصر، مدينان لهذا التيار الذي ولّد عصر التنوير ومهّد للنهضة الغربية. وقد نقلت الحداثة العالم، حسب قول أحد الفلاسفة “من الزراعة إلى الصناعة، ومن الإقطاعية إلى الدولة القومية، ومن الاستبداد إلى الديمقراطية، ومن تهميش الفرد إلى المبالغة في سلطته”.
وأشاد الكثيرون أيضًا بما قدمته الحداثة من مفاهيم جديدة في الفلسفة وتفعيل العقل وتبنيها لأسس جديدة للدولة الحديثة، كمفاهيم الحرية والمساواة والديموقراطية وتأكيد مفهوم الفرد الحر وإصلاح الفكر الديني ونقد التراث.
تأسيسًا على هذه الوقائع والأحداث والظروف التاريخية التي كانت وراء ظهور مفهوم الحداثة بطابعه الاصطلاحي الأوروبي الغربي، وما نتج عنه من تداعيات جوهرية طالت الفكر الإنساني، تصاعدت أصوات الرفض لهذا المفهوم، ليس كونه حاملًا لمعاني التجديد، إنما لاعتباره بضاعة مستوردة خارجة على المبادئ والقيم والعادات، ومناهضة ومهدّدة لبعض الأنظمة والكيانات السياسية التاريخية.
وخلاصة القول إن الحداثة كما ظهرت وتحوّلت عبر تطبيقاتها وتجاربها التاريخية، لم تكن ولادة طبيعية لفعل التحديث التدريجي الذي يحترم معايير التطوّر ومراحله، إنما كانت ردّة فعل ثوري مزلزل، لواقع سياسي واقتصادي واجتماعي أغرق أوروبا في ظلمات القرون الوسطى وأحدث فيها، كما في العالم من حولها، ارتدادات فكرية وفلسفية عميقة لا زالت تداعياتها قائمة حتى يومنا هذا.
3- فصل الحديث
مما لا شك فيه، أن قانون التطوّر والتحوّل الذي يحكم الحياة الإنسانية يفرض موجباته الملحّة بحتمية انتهاج سبل التحديث في مرافق الحياة بعامة مع كل إشراقة جديدة ليوم جديد.
فما كان صالحًا لأمسنا ليس بالضرورة أن يكون ملائمًا لحاضرنا وغدنا.
وإذا كانت الحكمة تقتضي أن نلحّ في البحث عن الدواء العلمي العقلاني الملائم لما يصيبنا من علل في بنيتنا الجسدية والعقلية والنفسية، فإنها تلزمنا – ونحن نخوض غمار القرن الواحد والعشرين – مع ما أنتجه من خروقات هائلة في مجالات التقنيات والرقميات والفضائيات، أن نخرج من النفق الذي يعطّل حركتنا وقدراتنا لكيفية التعاطي مع مستجدات المقبل من الأيام.
إن نظرة واعية متفحّصة لواقعنا العربي، تبيّن لنا بوضوح المسار الانحداري المخيف الذي يتوجه إليه مستقبلنا، وتضعنا أمام الحقيقة المرّة الساطعة بأننا فقدنا حاسة التحديث وحواس المعاصرة والحداثة جميعًا، وبتنا أشباه دمى بلا روح ولا عقل تحرّكنا الخيوط وتتقاذفنا أهواء المحرّكين لها.
فسواء أيَّدنا تحفظات نجيب محفوظ الذي اعتبر الحداثة بلبوسها وطابعها الغربي المستورد أمرًا استعماريًا مرفوضًا، أو رفضنا دعوات الجابري (محمد عابد)، نحو تحديث العقل العربي، لما تشكّله دعوته عند البعض، من تهديد لتراثنا العقدي والقومي، أو توجسّنا خيفة مما فرضته الممارسات الانحرافية للعلمانية والديموقراطية وما جرفتنا إليه رياح العولمة الثائرة منهما.
سواء ما كان موقفنا من هذا ومن ذاك، فإننا مدعوون بجرأة وعجلة على وقف حالة الانهيار بالانحياز إلى تفعيل حركة التحديث السريع والطارئ، وتجنيد كل القوى من أجل إيقاظ العقل العربي من سباته الذي طال، وضخّه بدم تنويري جديد، ينتج كل صباح لقاحًا تحديثيًا جديدًا يشمل مفاصل حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية جميعها، ليتحوّل يومًا بعد يوم، إلى تيّار تغييري شامل ينبع من أرضنا وينسج بأيدينا وعلى مقاساتنا ويكون مستعدًا لمواكبة ما يجري في عصرنا من تحوّلات وتحدّيات.
لكل عصر سماته وهوياته وأدواته، ولا يمكننا أن نواجه عصر التقنيات والذكاء الاصطناعي المخترق لكل الحدود، بسيوفنا الخشبية.
نحن – في عالمنا العربي – لا نحتاج حداثة معلبة، ولا طبقًا حداثويًا جاهزًا.
لكننا بأمس الحاجة إلى حداثة تنويرية يومية واعية عقلانية، وبحاجة أكبر إلى تحديث متواصل نبني عليه هذه الحداثة مدماكًا مدماكًا.
ويبقى الأمل معقودًا على حرّاس التنوير وقادة معركته وحملة مشاغله من المثقفين الذين عليهم أن يسهروا بلا هوادة لاجتراح خطط وخرائط التغيير والتحديث، وابتكار أساليب تترجمها إلى وقائع ملموسة على مختلف الجبهات، وذلك قبل أن يعمّنا ظلام قرون حديثة أراها أشد حلكة وتخلّفًا مما شهده الآخرون.