لقطات من ألبوم العمر

د. علي حرب

كندا في 07/07/2021

(ندوة نظمتها الأديبة الشاعرة إخلاص فرنسيس، عبر “الغرفة 19″، على زوم، حول كتابات الكاتبة باسمة حمود).

هي توارد خواطر رنّت في مخيلتها فتركتها تتراقص على خاطرها بأطراف قلمها الفني.

هي أحاديث باسمة، أوراقُها المبعثرة على ضفاف العمر، بين جنون الريح وتحت الشمس، في القرية وفي المدينة وفي الحقل وفي ظلال الأشجار، وعلى عتبات مرافئ اللقاء والوداع، بين الدموع وبين الابتسامات العصية على الولادة من رحم الشفاه المطبقة.

 ربما من خلال دراساتها المتشعّبة، أحبّت الكاتبة ذاتها المتنقلة بين مرايا السنين وعند محطات الوعود والمواعيد.

احترت كثيرًا وأنا أبحث عن عنوان لهذه المجموعة، أو حتى أحيانًا على عنوان بارز للنص نفسه، فلا هي حكايات ولا مذكرات ولا اعترافات ولا مقالات…هي بعض من كل هذه الفنون، هي رؤى أو أفكار خاطفة، مصبوبة في قوارير فنية وجدانية أنيقة، تنضح تارة بالواقعية والصراحة، وأخرى بالرومانسية، وأحيانًا بالرمزية، لكنها لم تتخل أبدًا عن أثوابها الفنية القشيبة تعبيرًا زاهيًا، وهمسات حارة تشتعل حزنًا وأشواقا للقاء طال انتظاره ووعدٍ غاب حضورُه وموعدٍ لم يجد له ركنًا في روزنامة الأيام.

تلتقط الكاتبة لحظاتِ حياتها وتحوّلاتها حرفًا بحرف وتجمع تقاسيم ذاتِها وترصد قامتها المتغيرة، تراقب تغيرات عقلِها وجسدِها وتلاحق الثواني الهاربة من عمرها والمقبلةَ عليه.

هي تتأرجح ما بين الصورة والصورة، تطير، تغرّد، تحوم كالفراش باحثة عن ضوء أو عن كتف حان تتكئ عليه.

هي المشلوعة من أرض جذورُها بقيت هناك، والمزروعة في أرض غريبة.

هي مجموعة مشاريع لم تكتمل، أو لم تتبلور، أو لم تجد بعد طريقًا محدّدًا تترسمه، فهامت بين الصحافة والتعليم والتاريخ، كما هي هائمة أصلًا بين تراثات شتى بقاعية وبيروتية وفنزويلية وكندية داخلت المسام.

ذاتيتها المنصهرة في موضوعية نصوصها، في مزج هادئ لطيف، تشكّل لها نبعًا فوّارًا تسقي به قلمَها كلّما جفّ ريقُه وأحسّ بالعطش. 

في كل نص يتسرب وجهٌ من هذه الوجوه، ولو بخفاء، ليدسّ أنفه معلنًا حضوره. وقد يكون ذلك بقصد من الكاتبة كي لا تبقى أسيرة أيٍ من هذه المجالات وتطبعَ بها.

وحقًا فقد كانت الكاتبة أصدقَ ما تكون حين أقرّت أنها لا ترى العالم إلا من زاويتها. “وكأنني صرتُ لا أرى العالم الا من زاويتي …أو هكذا تهيّأ لي!!” 

ولعل خاطرةَ فنزويلا التي نشرتها مؤخرًا أبرزُ شاهد على ذلك، لاسيما تضميناتُها الواقعية عن يهايرا وعمّها محمد وذكريات فنزويلا وأسرتها هناك وتداعياتها في إسقاط الحروف المعقدة من لغتها وإسقاطات المشهد اللبناني ومآسيه على النص في الهوية الضائعة وهدايا علب الحليب، وهذا شأنها في النصوص جميعًا، وما تحمّلها من تداعيات وإسقاطات.

إنها شهادة عصر ليس بالمعني التاريخي التوثيقي المنظور من خلال المجاهر ومختبرات التحليل والاستنتاج، بل بمعنى السباحة في خضم الحدث والغرق في غبار معاركه.

فيها ملامح الوطن الممزق بهوياته وحروبه، وفيها القدس التي ما بقيت القِبلة الأولى، وفيها نهاية النظام الشيوعي، وفيها انعكاس وباء الكورونا على التعليم وعلى العلاقات بين الناس، وفيها جشع المدارس الخاصة التجارية، وفيها آلام الاغتراب ومرارته، وفيها معاناة الاندماج في الأوطان الجديدة، وفيها قبلَ هذا كلِه وبعدَه، نكهةُ حكايات القرية اللبنانية وبساطةُ حياتها المسترخية فوق السطوح المتلاصقة كتلاصق قلوب أصحابها ومحبتهم، وطعمُ الكبّة بالبندورة ووشمُ دماء التوت على الأصابع زمن السرقات الصبيانية البريئة. دون أن تتورّع، استجابة لنزعة المذكرات، عن تسمية الأشخاص والأشياء والأحداث بأسمائها، فمدرسة عمر المختار، والسيارة الفولفو، وعائلتها وأقرباؤها وأكاد أقول، البقاع بشخوصه وسماته، ماثل بكل وضوح.

وإمعانًا في التداعي والإفصاح سرعان ما تحضر فيروز ونزار وماجدة وجوزف صقر ومارسيل خليفة ومحمود درويش وغيرهم ليساندوا الكاتبة في البوح والحسرة، كما تحضر عبارات اللغة الانجليزية لتشهد لهُوية المعلمة التي حرمتها الكورونا من مجالسة طلابها وجهًا لوجه.

إن ذاك المصوّر، الذي تنبّا للكاتبة أنها “مشروعُ صحافية” وهي بعد في الثالثة عشرة من عمرها، كان فعلًا على حق، ولكن…تناوبت عليها مشاريع عديدة – كما ذكرنا – بين دراسة الإعلام التي لم تكتمل، ثم دراسة التاريخ، ثم التعليم باللغة الانجليزية.

وأتمنى صادقًا، أن يكتمل فيها مشروع راوية المذكرات أو الاعترافات، لتتحف القارئ العربي والمكتبة العربية، بعمل روائي كامل، يخرج من هذا البحر الزاخر، كاملًا متكاملًا موضوعًا وشخصيات، لاسيما وأنها تمتلك من المادة الحدثية، ومن الأدوت الفنية، بيانًا وصورًا وتشبيهات بلاغية، ما يتيح لها صناعة إنتاجية راقية في هذا الميدان.