عائد إلى لبنان على قدميّ

بقلم: د. علي حرب

جريدة “الأخبار-النهار”

مونتريال / كندا

العدد 945

01/05/2019

سألني صديقي: متى تعود إلى وطنك الأول لبنان؟

قلت: ومتى غادرتُه حتى أعودَ إليه؟

دهش من إجابتي وأردف: الم تكتف ببعدك عنه؟ ألا تتوق لتقضي ما تبقى من سنوات عمرك على أرضه وتحت سمائه وبين أهلك وأهله؟

أجبت، محاولًا التملّص ممّا يريد: يا صاحبي، لبنان لم يغادرني لحظة واحدة، هو كامن بين ضلوعي وفي ثنايا وجداني. ليس المهم يا أخي أن تستقرّ في الوطن بل أن يبقى هو مستقّرًا في روحك، تغفو على إيقاع صوته في شهقات قلبك وتصحو على دغدغات أنسامه وهي تتراقص على وجنتيك الدافئتين.

ألحّ بسؤاله: دعك من كلام الشعراء والعواطف، وأجبني بوضوح، متى قرّرت الموعد لإنهاء اغترابك؟

استفزّني بإصراره وأخرجني، وكاد يفرج عن دمعة متحفّزة في مقلتي، فقلت: كيف تريدني أن أعود، وكل ما في وطني صار فضيحة ومرضًا عضالًا؟!…

ماذا تبقى من الوطن لأعود إليه؟ وكان الأجدر أن أقول ماذا أبقوا من الوطن لتعود طيوره المهاجرة إليه؟

وودت لو أقول كل ما في وطني يبكيني ويجرحني ويغمد سكينه في صدري فلا يحضّني على العودة إليه ولكن على الوجع منه وعليه.

في كل أوطان الدنيا هناك معضلات ومشكلات وأزمات في هذا الجانب من شؤون الدولة أو ذاك، لكن أن تتحوّل الدولة  كلها، بكل مؤسساتها، وعبر مئات السنين، إلى مصيبة عصيّة على العلاج، فهذا ما نعجز عن وصفه كما يعجز الطب أمام الأمراض المستعصية.

ذهل صديقي من جوابي وقال: ألهذا الحدّ يتملّكك الأسى والقهرمن وطنك الذي حضنك وأنبتك وأنشأك وأعطاك اسمه وهويته؟

قلت: يا صديقي، وطني لم يحضنّي ولم يرحمني ولم يشفق عليّ.

وطني أغلق الأبواب وسدّ منافذ الرزق والعمل في وجهي، وحرمني قطف ثمرة نجاحي العلمي ودفعني للبحث عن وطن آخر، في أعزّ الأوقات التي كنت بحاجة فيها إليه. عفوأ يا صديقي، فقد أخطأت التعبير، ليس وطني من أنزل بي هذا الظلم، لكنها دولة وطني الكسيحة والعمياء والطرشاء والظالمة والفاشلة التي تحرم أصحاب الكفاءات المتفوّقين وتقدّم الفاشلين كرمى لعيون التوازن الطائفي البغيض، الذي حوّل لبنان من أن يكون دولة المواطنية الشريفة إلى ملاكات مذاهبية وطوائفية وحزبية وميليشياوية تتمترس خلف خطوطها الحمراء، في ضربة استباقية لخنق صوت العدل والقضاء، لتنتصر للسرّاقين والنهّابين والخارجين على القوانين وزارعي الرعب في بيوت الآمنين الضعفاء.

راح صديقي في استغراقة مذهلة، وتركني استرسل بحرقتي.

فتابعت أقول: دعني يا صديقي أحتفظ بحبي الطفولي العفوي البريء للبنان، لوطني الجميل الصغير الفتّان البهيّ الخلاب، بترابه وسمائه وجباله ووديانه وسهوله وبحره وأنهاره، التي كانت طاهرة ونقيّة ومقدّسة وكريمة وطيّبة، قبل أن يحوّلوها إلى بؤر للنفايات ومواخير للفساد ومضغ للكسارات ومراتع للأوبئة والأمراض والسرطانات.

دعني اتلذّذ بطعم الطيبة المسكونة بأهله وناسه البسطاء المحبّين الكرماء العطوفين النبلاء المسامحين،

وأسكر بعطر الطيب المنهمر من أشجاره ورياحينه وسنابل حقوله وموارج بيادره. 

دعني أعشْ الحلم السويسري في الشرق الذي مرّ يوماً ببال لبنان وبمدينة الشرائع ومهبط القديسين والآلهة ومنبت الأبجدية والفكر وبيوت ربّات الجمال، ولا تسحبني مرة جديدة إلى الأرض المحروقة بالظلم والفساد والطائفية والمحسوبية والعهر السياسي الذي لا يتورّع عن انتهاك حرمات الوطن ثم يحاضر في عفافه وشرفه ونظافة كفّه وضميره.

دعني أعشْ مع حلم لبنان الرسالة والأعجوبة والمعجزة والحاجة الحضارية للعالم، وليس الوطن الفائض الجغرافي العالة على أبنائه والعالم، والمُنتهَك استقلاله من الداخل والخارج، والدولة الفاشلة الممعنة في فشلها حتى آخر رمق من أرواح مواطنيها المعذبين بها.

دعني أحبه على طريقتي الخاصة، ولا تفتح جراحي التي بدأت تندمل وأنا  بعيد عن مركز التيارات الجارفة التي كسّرت كل أشجار اللوز ومشاتل الياسمين والحبق المتدلي من على شرفات البيوت العتيقة المتواضعة والعفيفة، وزرعت مكانها لوحات وصورًا وشعارات ورموزًا، بعضها غريب عن وطني، وكلها تثير فيك الخوف والرهبة والغربة الوطنية، وتذكّرك بحروب دموية سابقة ووشيكة، بدل أن يرفعوا رموزًا لعباقرة لبنان الذين صنعوا أمجاده وخلّدوا فراديته وجماله الالهي. عفوًا يا صديقي، فقد نسيت أننا نختلف على من صنع هذه الأمجاد أو من أبادها، فاعذر سذاجتي الوطنية الجاهلة!…

دعني يا عزيزي، أعشْ في مخيّلتي وأحلامي، مع لبنان السماوي الرائع، اتغلغل تحت عباءات العباقرة والشعراء والأدباء والفنانين…

لبنان البساتنة والمعالفة والييازجة والرحابنة وخليل مطران ومارون عبود وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وأمين الريحاني وجبران خليل جبران وأمين معلوف وبولس سلامة والياس ابو شبكة وسعيد عقل وصباح وفيروز وشوشو ووديع الصافي ونصري شمس الدين…

دعني اتنقل في خيالي مع أطياف هياكل بعلبك ومعارج عشتروت وأدونيس وأداعب النجوم والأقمار من على ذرى صنين وأتلقى رسائل قرطاجة من بحر صور وصيدا وبيروت، من غير أن ترمقني العيون التي تطعنني بتساؤلاتها المريبة عن هذه العنزة الشاردة: ما اسمك؟ ومن أين أنت؟ ومن أي “مقاطعة” أو “زاروب” من لبنان؟ وإلى أي قطيع تتبع؟

دعني اتفيأ في غربتي ظلّ أرزة سامقة لا زالت تناطح فضاءات الدنيا وتزرع “أنّا تشأ لبنانا”!

دعني أعضّ على جراحي فيما أردّد مع جبران “لكم لبنانكم ولي لبناني”!

دعني مرتاح الضمير والفؤاد، لأنني حميت أبنائي وأنقذتهم من التماسيح كي لا تقضم لحم أكتافهم الطريّة كما قضمت عظامي وعظام آبائي من قبلي.

دعني أقصّ على أولادي وأحفادي حكاية وطن صغير تراءى لأحلام الآلهة،  فزرعته في أجمل بقعة من الشرق،  ومنحته النماذج كلّها من حلاوات الجنّة وقطوفها وعسلها، فحسدته الشياطين وكلّفت أعوانها “الوطنجيين” برمي وجهه القمري بالنار والكبريت.

ومع كل هذا الألم والحزن واليأس الذي يجتاحني يا صديقي، فإنني لو سئلت يومًا، أي الأوطان أحبّ إلى قلبك؟ لقلت: “مريضها حتى يشفى”.

شفاك الله وحماك يا لبنان، يا وطنًا مقدّسًا من السماء، و…من الأرض!

استفاق صديقي من ذهوله وقال: اتلمّس جرحك وجراحات اللبنانيين المغتربين من أمثالي وأمثالك، ولكنني يا صديقي، عازم على العودة بقدميّ، إلى لبنانك ولبناني ولبنان جبران، لأجد لي حفنة ترابي التي آوي إليها، حتى لا أعود في صندوق خشبي تاركًا لهم قرار دفني في تراب لم اختره بنفسي.