الشيخ الرئيس "رفيق" لبنان
تعاند في الحقيقة ويمعنون في الاغتيال
د. علي حرب
14/02/2021
مجلة المستقبل الكندي – كندا
لمناسبة الذكرى السادسة عشرة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري
ما أشبه اليوم بكل أيام لبنان الدامية!…
14 شباط 2005، يوم الحزن ويوم الغضب، ويوم الحقيقة التي لا تطفئها أطنان متفجرّات “تي إن تي” و”نيترات الأمومنيوم”.
كل أيام الوطن المعلّق على الجلجلة، أيها الشيخ الرئيس، تحوّلت إلى 14 شباط، يوم اغتالوا من قبلك فيك، واغتالوك وسيغتالونك فيهم.
اغتالوك من قبل، وسوف يمعنون في اغتيالك من بعد، ما دام لبنان “الحقيقة”، يغرّد بأصوات متفرّدة خارج سرب الصيغة “المعادلة المفخّخة” لميثاق 1943، وخارج الارتهان والتبعية والطموح إلى كرسي مجبول بتجويع الأحرار وكسر إرادة الوطن.
اغتالوك صوتًا وإرادة وأملًا، يوم اغتالوا سربًا من الشهداء الذين تجرأوا، كما أنت، على الرفض والتمرّد وتحطيم القيد، ويوم جاهروا بالانتماء إلى الحقيقة الوطنية المغيّبة في دياجير كهوفهم المظلمة.
اغتالوك، أيها الشيخ الرئيس، في كل الشهداء الذين سبقوك، وجدّدوا اغتيالك في من تبعوك على الدرب.
وكلّما أمعنت ورفاقك في رفع القبضة في وجوههم، سوف يتمادون في استخدام سلاح الموت في وجوهكم، لأنهم لا يملكون سواه.
أعادوا اغتيالك وسائر الأحرار في 17 تشرين 2019 يوم تفجّر الغضب في قلوب الناس، اغتالوكم على الرينغ وفي ساحة الشهداء وفي ساحات طرابلس والجنوب والبقاع، وفي سياسة التجويع والقهر وسرقة حقوق الناس وأموالهم، وفي اصطياد رموزكم الثائرة وإحراق خيمهم وقبضة ثورتهم المرفوعة كالمخرز في عيونهم.
واغتالوك مجدّدًا، أيها الشيخ الرئيس وسائر رفاقك الشهداء، يوم زلزلوا عاصمتك الحبيبة الأثيرة على قلبك، وهدموا وقتلوا وشرّدوا، ثم هجعوا يستعدّون وأزلامهم لجولة أخرى من جولات القتل والتدمير والتمديد لأزمنة العار والبؤس، وتجهيز المخانق لكل صوت شاذ يخدش أحلامهم ويخالف نعيقهم ويكشف طغيانهم في طمس “حقيقة” لبنان اللاطائفي والسيّد الحرّ المستقل.
مقتلك أيها الشيخ الرئيس، لم يكن في نقطة الكعب كما هي عند “آخيل” الطامح أن يكون من الخالدين، بل كان في صوتك الجريء وإرادتك الحرّة وتصميمك الصلد وحلمك الكبير في أن تعيد للبنان “حقيقة” وجهه المعتدل الناصع العابر للطوائف، وحضوره المشرق أمام العالم.
قدر لبنان، المنحوت بمعجزته الكيانية الفريدة منذ آلاف السنين، والقابع بعناد صخوره وأرزه بين أشفار السيوف، شرقية وغربية، أن يكون مركزًا للزلازل التي لم تتوان يومًا عن زعزعة أركانه، ما دام ممعنًا في عناده نحو الحرية ومغرّدًا خارج أسراب الغربان والبغاث.
قدر هذا اللبنان الوديع الصغير العنيد أن يُسقى ترابُه دمًا وأشلاءَ أبناء جاهروا بعشقه حتى حافة الجلجلة التي كانوا مدركين تمامًا أنها مصيرهم المحتوم.
كل صوت وطني جامع وشاذ عن صخبهم هو مشروع تخوين واغتيال.
وكل أمل يتململ في مخاض الولادة هو مشروع وأد ونحر.
وكل طموح ببناء وطن السيادة والعدالة هو مشروع استشهاد.
وتستمرّ المعركة ويستمرّ النزف.
على أرض هذا الوطن أرتكبت ولا تزال ترتكب أكبر مجازر الاغتيال بحق قادته وأحرار شعبه، حيث تتوالى مواكب الشهداء اغتيالا، قافلة إثر قافلة، مسجلة رقمًا قياسيًا شنيعًا في تاريخ الشعوب والدول.
والمذهل ان كل الذين سقطوا هم من فئة واحدة ومن انتماء وطني واحد ومن المنادين بالحرية والسيادة والاستقلال.
وكل هذا التغوّل في الاغتيال بقي مطمورًا مع رفات الشهداء دون أن يُكشف المرتكب المعلوم – المجهول، ومن غير أن يُقدّم واحد من المجرمين إلى منصّة العدالة.
ذنبكم جميعًا، أنكم آمنتم بوطن ترخص له كل الدماء والأرواح، وأنهم آمنوا بكرسي يرخص لها كل الوطن.
ذنبكم جميعًا أنكم ماهرون في إطلاق كلمة الحقيقة وفاشلون في إطلاق رصاص الموت.
يكفيك شرفًا ونبلًا وفروسية أنك لم تلوّث يديك مرة بالدماء حتى مع ألدّ خصومك.
يكفيك رفعة وكبرًا أنك خاصمت بشرف وهادنت بشرف واستشهدت في أرض معركتك ولم تستسلم ولم تهرب.
يكفيك خلودًا أنك كنت رفيقًا لوطنك ولم تكن عدوًا له ولشعبه وتاريخه.
ندرك أنك تئنّ وجعًا على مصاب الوطن، لكننا نثق أيضًا أنك تزداد أملًا في لحظة القيامة الآتية مع الأحرار القادمين على صهوات الحقيقة التي تعرّيهم وتكشف عوراتهم السياسية والوطنية والطائفية الفاضحة.
جيّشت العالم من أجل لبنان، وحشدت الدنيا لإعادة إعمار ما دمّروه بوحشية حروبهم، وها هم يعيدون التدمير ويسحبون لبنان إلى بؤرة معزولة عن الدنيا ليأسروه في خندق المحاور وصراع القوى.
ما قتلوك وما فجّروك في 14 شباط 2005، ولن يقتلوك لأنك صوت الحقيقة وضميرها كنت، وستزهر دماؤك ملايين الشقائق الحمراء التي تعلن الولادة حتى على شفار المقصلة.
أثخنوك جراحًا يا “رفيق” الوطن، ولم يتركوا في “جسدك شبرًا إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم”، ولمّا أعجزهم صمودك الوطني في ساح المواجهة استحضروا طنًّا من المتفجرات وأحرقوا الجسد، لكنهم عجزوا وسيعجزون عن حرق الرسالة والمدرسة والمشروع والمبادئ التي آمنت وجاهدت واستشهدت من أجلها.
أيها الشيخ الرئيس،
ستبقى خالدًا في ضمير لبنان وتاريخه ومستقبله، لأنك حامل لقنديل “ديوجين” الذي يفضح عماهم وقزامتهم وخضوعهم.
نمْ قرير العين في عليائك، وحدّق بهم لترى شظايا قرونهم وهي تتفتّت في مناطحة “الحقيقة” التي لن تموت.