لغتنا العربية
هكذا يشوّهون جمال اللغة وهكذا نستعيده

د. علي منير حرب – كندا

ندوة نظّمها “المركز العربي الأميركي للثقافة والفنون – المنتدى الثقافي في ديربورن”

السبت في 2021/12/04

سأتناول في ورقتي ثلاثة محاور مستمدة من عنوان النَدوة

“جماليات اللغة العربية – التشويه والتهديد الداخلي والخارجي – سبل الحماية والاستعادة”

 

أولًا: في جماليات اللغة العربية

من مزايا هذا اللقاء الثقافي هو أنه يأتي عشية احتفالاتنا بإحياء اليوم العالمي للغة العربية في الثامن عشر من الشهر الجاري.

هل ما نتغنى به في جماليات لغتنا العصماء هو ادّعاء تعصّبي، أم أنها تستحق هذا التغنّي والإجلال، لما تتمايز به وأكاد أقول تنفرد بصفات تليق وتجدر أن تشكّل هويتنا وأوطاننا وتاريخنا وتراثنا ومستقبلنا؟

هو الجمال في الشكل والمضمون

الجمالُ في فنون الخط العربي والأحرف العربية والجمالُ في النطق والأداء والخَطابة والتعبير والغناء

هو جمالٌ في غنى الجذور وثراء المفردات والمترادفات المتدرّجة في التعبير عن الحالات النفسية والمواقف والصفات الذاتية 

هو جمال البنى الاستثنائية للعقل البشري

هو جمال الإعجاز في القرآن الكريم

هو جمال المهارة لتكون لغة الشعر والعلوم والفلسفة والقانون والاجتماع والحكايات

هو جمال المرونة والحيوية في التوليد والنحت والاشتقاق والتعريب

جمال البلاغة والفصاحة والبهاء في الإيجاز

جمال الطواعية لاستيعاب التقنيات ومعالجة الكلمة والجملة والقابلية لاحتواء العلوم القديمة والمعاصرة ومستحدثات التقنيات والحاسوبيات والبرمجيات

هو الجمال كل الجمال في قدرتها على صياغة المعرفة

وقد شاركنا الكثير من المنصفين الغربيين هذا التغنّي فأشادوا برونق هذه اللغة وسحرها ومنطقها السليم ومرونتها وثروتها وماضيها المجيد وقدرتها على أن تكون وسيلة للتعبير عن الفلسفة القديمة وحكمة الأولين وعن أدقّ خلجات الفكر أو خيالات النفس وأسرارها.

ووصفوا الخط العربي بأنه سمفونية متناسقة الأنغام تتجدّد كلما نظرت إليه.

 

سأذكر مثالين اثنين فقط لأبيّن خصائص هذه الجماليات وفرادتها:

– الواو حرف عطف

والعطف يقتضي التقارب والتماثل في الحدّ المعنوي الأدنى بين العاطف والمعطوف

فلا يجوز مثلًا أن نقول اشتريت سيارة وفنجان قهوة، لعدم التماثل في الموقف والمعنى.

وقال تعالى في كتابه الكريم:

“وقضى ربّك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا”.

فرفع بهذه الواو العاطفة مستوى الإحسان إلى الوالدين إلى مستوى عبادة الله سبحانه.

 

سأل أحدهم: من أسعدُ الناس؟

فأجابه الفقيه: مَن أسعدَ الناس

حركة واحدة غيّرت المعنى وأعطت الجواب بعدد الكلمات وبالعبارة نفسها.

 

ثانيًا: مصادر ومظاهر التشويه والتهديد    

استحضر في هذا المقام، لوصف واقعنا العربي البائس بعامة واللغوي بخاصة، ما قاله الشاعر السياسي السوداني محمد أحمد محجوب في قصيدته “الفردوس المفقود في رثاء الأندلس”:
“نزلتُ شَطكِ، بعدَ البينِ ولهانا‎       فذقتُ فيكِ من التبريحِ‎ ‎ألوانا
‎ وسِرتُ فيكِ، غريباً ضلَّ سامرُهُ‎    داراً وشوْقاً وأحباباً وإخوانا‎
  فلا اللسانُ لسانُ العُرْب نَعْرِفُهُ‎     ولا الزمانُ كما كنّا وما كانا‎”

 

فإذا كان أطول جسر في العالم يمتدّ على طول 165 كلم، ويربط بين منطقتي شانغهاي ونانجنغ في الصين، ونحن في القرن الحادي والعشرين، فإن اللغة العربية، ومنذ ثلاثة آلاف عام وأكثر، كانت وما تزال، أطول وأصلب جسر تاريخي ربط بين مشارق الأرض ومغاربها، وعَبَرَ الزمان والآفاق حاملًا إلينا أزهى الحضارات التي شعّت على الدنيا.

فلغتنا هي نحن بكل ما نعنيه من وجود إنساني، هي وطننا وماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، هي حضور فكرنا وأدبنا وعلمنا أمام العالم.

ولغتنا السامية هذه تواجه تهديدات كثيرة:

 

أ- تهديد داخلي

– أود الاتكاء على ما قالته الشاعرة “سارة الزين” عن موضوع فرض اللغة الفرنسية في مدارس الإرساليات الفرنسية لأقارنه مع ما يجري في مدارسنا الرسمية.

في مدارسنا الوطنية عمّت ظاهرة تسمى بـ(سينيال، بحجّة تعليمنا اللغة الفرنسية. و”السينيال” هو عبارة عن قطعة خشبية صغيرة، حُفر عليها حرف (S )، كان المدرّس يسلّمها سرًا إلى أحد الطلاب، ليقوم بدوره بالتنقّل بين رفاقه أثناء الفرص، حتى إذا سمع أحدهم يتحدّث العربية، دسّ له القطعة في جيبه، لينال عقابه. (وكثيرًا ما كنّا نقذف بهذه القطعة بعيدًا جدًا فور إحساسنا بتسللها إلى جيبنا، رفضًا لهذه الوسيلة القمعية لتعلم لغة الأجنبي.

ولم تكن الشاعرة سارة لتواجه هذا الموقف وتحوّله إلى دافع خلأق في التعلّق بلغتها الأم لولا ذلك الشحن الملتهب الذي آتاها من أسرة مثقفة واعية تحب لغتها وتفخر بها وتمجّدها.

من هنا يتمظهر لنا أول مصدر لهذا التشويه والتخريب، وأول سور للمواجهة وأول مدماك للبناء وهو الأسرة.

 

-استهانة العرب بعراقة رموزهم التاريخية

 في يومها العالمي جميع اللغات الفرنسية والإنجليزية والصينية والإسبانية أوجدت لها خلفيات تاريخية فزامنتها مع رموزها الفكرية والتاريخية والدينية والأسطورية

 الفرنسية (اليوم الدولي للفرانكوفونية)، الصينية (تخليدا لذكرى سانغ جيه مؤسس الأبجدية الصينية)، الانكليزية (الذكرى السنوية لوفاة الكاتب الإنكليزي ويليام شكسبير) الروسية (الذكرى السنوية لميلاد الشاعر الروسي ألكساندر بوشكن) الإسبانية (يوم الثقافة).

أما أهل العربية فاستخفّوا بثقل لغتهم التاريخي ولم يجدوا له سندًا إلا (يوم إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة).

 

-مناهج تعليم اللغة العربية والكتب المدرسية ونمطيتها المنفّرة.

-عدم الاهتمام الكافي بالتنمية اللسانية لدى أبنائنا ودعمها بالكتب والبرامج والحث على القراءة والمطالعة.

-هيمنة اللغات الأجنبية على تعليم المقررات الأخرى عامة.

-انحسار التوجه نحو الدراسات الأدبية أو الإنسانية.

-عدم تأهيل مدرسات ومدرسي اللغة العربية فنيا وذاتيًا.

-عدم تطوير الوسائل التعليمية.

-قصور الأنشطة المصاحبة (المكتبة – قاعة المسرح – المختبرات اللغوية – الإذاعة المدرسية – إلخ…)

-الاستخفاف في استخدام اللغة في بعض وسائل الإعلام ووسائل التواصل.

-الدور السلبي المؤثّر على لغة الأطفال للعاملات الأجنبيات في المنازل.

-الابتذال والإسفاف في التأليف والنشر.

-عجز مجامع اللغة العربية والمراكز المهتمة ووزارات الثقافة عن مواكبة متغيّرات العصر.

-انحراف التوجهات في بعض دعوات إصلاح التعليم إلى تشويه العلوم اللغوية وتحطيمها تحت ستار التبسيط والتسهيل والتحديث حيث توجّهت لاستهداف اللغة نفسها تكوينا وقواعد وحضارة وتاريخًا وقيمة وجوهرًا على مذهب نجحت العملية وتوفي المريض وكما ورد في كتاب المؤلف شريف الشوباشي عام ٢٠٠٤ “تحيا اللغة العربية وليسقط سيبويه”

-الاعتماد على اللغات الأجنبية كسلاح للتوظيف.

-هجرة عقولنا وطاقاتنا العلمية وبروزهم ونجاحاتهم في بلاد الاغتراب وتسجيل هذه الإنجازات بغير لغتهم الأم.

 

ب- التهديدات الخارجية

-الغزوات المتتالية منذ الغزو المغولي وحتى الاستعمارات الأخيرة. وما تتعرّض له لغتنا من تشويهات وتهديدات ما هو إلا نتيجة حتمية لكل الإصابات والانهزامات التي ضربتنا وما تزال.

-الاستعمار اللغوي لتفريغ الامة من عقيدتها اللغوية وإضعاف الثقة بدور لغتها وجوهرها ووزنها وثقلها في كيان الامة وهويتها وتاريخها، خلق ما نسميه بالنقد اللساني، الشعور بالدونية وتعلّم لغة القوي لنصبح بهوية الأقوياء ونقتدي بلغة المستعمر.

-الترجمات المغرضة والناهبة لتراثنا العلمي والأدبي والمنسوبة إلى مؤلفين غربيين: عالم تركي مقيم في ألمانيا “فؤاد سيزيكين”، منذ ستين عامًا يعكف مع فريق كبير فيهم الأتراك والألمان والعرب على فحص الكتب الغربية ومراجعتها وترجيعها إلى أصولها العربية. وقع على ١٥٠٫٠٠٠ ألف كتاب، وتوصّل إلى ٣٥٠٠٠ تعريف بأصولها العربية. 

كانوا يترجمون هذه الكتب ويزيلون أسماء مؤلفيها وينسبونها لهم: في البصريات، في الجراحة والتشريح، في علم الفلك والجغرافيا والطقس، في علم البحار والملاحة الخ…)

– العولمة والسيطرة اللغوية

تهدد العولمة اللغات بالاندثار وعلى الرغم من مقاومة بعض اللغات لهذه الهجمة حفاظًا على هويتها إلا أن الإنجليزية فرضت نفسها لغة التقانة والعصر والتجارة والاقتصاد وبات تجاهلها صعبًا لا سيما مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي.

 

ثالثًا: سبل الحماية والمواجهة

-أن نحب لغتنا ونحترمها ونعتّز بها ونجعلها عقيدة لنا، وأن نبدأ سريعًا بمعالجة أسباب العلل التي أوردناها داخليًا وخارجيًا.

-أن نبادر سريعًا لإطلاق ورشة الحماية والتحصين والتطوير من بوابة التعليم الذي هو من أهم استراتيجيات الإصلاح.

– التخلّص من مركّبات النقص.

-إطلاق عملية مشتركة لحماية اللغة في البيت والمدرسة والمجتمع والتربية والثقافة والإعلام والبرلمان…وتضافر الجهود لوضع رؤية استراتيجية للنهوض باللغة وحمايتها وتعزيزها لمواكبة العصر.