الأسرة العربية وتحدّيات الاغتراب
"التفكّك الأسري"

د. علي حرب

الحلقة الثانية لندوة “الأسرة العربية وتحدّيات الاغتراب” – 17/10/2021.

تصدّع العلاقات الأسرية يعني حدوث التشققات في جدران الصدّ التي تحمي الكيان الأسري، ما يقود حتمًا إلى تفكّك وانفراط عقد الأسرة وتبعثر حباته.

وهذا التصدّع، إن تأخّر إصلاحه، يتيح تشريع الأبواب أمام عواصف الهدم التي تطال أعضاء هذا البناء زوجًا وزوجة وأطفالاً، وبالتالي تعريض أهم ركن في أساسات البنية الاجتماعية للخطر. ولهذا ينعتونه في بلادنا بخراب البيوت.

لست هنا بصدد تحديد المسؤوليات وتوجيه التهم والإدانة لأي من طرفي هذا العقد، لكنني أبحث عن الأبعاد والتأثيرات التي يخلّفها هذا العصف، وخصوصًا في عملية التنشئة النفسية والاجتماعية  لدى الأطفال.

فالأسرة المستقرّة والصحية هي بيئة الأمان للصغار كما للكبار. وهي مادة الدعم الأولى للاستمرار في أداء الوظائف المناطة بهذه المؤسسة الاجتماعية.

إن الحب والدعم اللذين يشعر بهما الأطفال من الوالدين والأقارب يمنحهم القوة للنمو والتطور.

وكلّما سادت بين أعضاء الأسرة أجواء المحبة والوئام والتفاهم، وتعمّقت وشائج الرحمة والمغفرة، كلّما ترعرعت في أوساطها أسباب السعادة وخيّمت عليها ظلال الاستقرار والاطمئنان.

وعلى عكس ذلك تمامًا، فكلّما تنامت في هذه الأسرة الخلافات والنزاعات وترسّخ الخلل في أدوار الوالدين، وعلى مرأى ومسمع من الأطفال، كلّما تهيّات الظروف لعوامل الانهيار.

ولا يظنّ أحد أن هذا التفكّك يتجلى بأسوأ مظاهره عند الطلاق أو الانفصال فقط، بل إن ما يسبق هذا القرار من تراكم المشاحنات والمواجهات العنفية، قد يكون في أحيان كثيرة أسوأ تأثيرًا وأشد قساوة وإيلامًا على صحة الأطفال وسلامهم النفسي والعقلي والأكاديمي والاجتماعي، إضافة إلى ما يراكمه في نفسي الزوجين من مشاعر البغضاء والكراهية والكيدية والانتقام.

وقد عبّر أمير شعرائنا أحمد شوقي عن هذا الواقع بقوله:

“ليس اليتيم من انتهى أبواه       من همّ الحياة وخلّفاه ذليلا

إن اليتيم هو الذي تلقى له       أمًّا تخلّت أو أبدًا مشغولا”

لقد أثبتت الخبرات التربوية، والدراسات النفس- اجتماعية، أن الأسرة المتصدّعة هي وراء الأسباب لوجود أبناء غير أسوياء نفسيًا وسلوكيًا، وأن نسبة عالية من أسباب التخلّف والتراجع الأكاديمي، أو بروز الاضطرابات السلوكية كالعنف أو الإدمان أو التنمرّ أو الانطواء أو الاكتئاب، وظهور بعض الأعراض الصحية العضوية لدى الطلاب، يعود لظروف أسرية سقيمة وغير صحية يعيشها هؤلاء الأبناء مع أسرهم.

وإذا انكبّ الكثيرون على إبراز النسب العالية لحالات الطلاق لدى الأسر العربية في الاغتراب، فإن الوجه الآخر لحقيقة هذه المعضلة هو أن هذه النسب لا تزيد كثيرًا عن مثيلاتها في الأوطان الأم.

فالطلاق هو في كثير من الأحيان تصنيع عربي تمّ تنفيذه في بلاد غربية، ولا أعني أبدًا أن المجتمعات الغربية منزّهة وبريئة من هذه التصنيعات إن لم تكن متهمة أكثر وأكثر بالتسبّب بهذه المآسي الاجتماعية. والدليل الملموس على ذلك هو ارتفاع نسب حالات الطلاق عند الأسر المكوّنة التي تتشكّل في هذه البلاد.

فحالات الطلاق التي تحدث في بلاد الاغتراب لدى الأسر العربية المهاجرة، إنما هي كالبركان الذي احتقنت نيرانه قبل القدوم ولمّا تهيّات له الظروف المؤاتية لأي من الطرفين، ووجد الثغرة المناسبة انفجر وقذف حممه دون روادع.

وما هذه الثغرة أو هذه الظروف إلا الحرية بكل جوانبها الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والقوانين المطبّقة على مفاهيم الارتباط الأسري من جهة وموقع وخصوصية وتفرّد كل طرف من جهة أخرى.

فإذا كانت المجتمعات العربية وحكوماتها مسؤولة، بأنظتها وتقاليدها وأعرافها، عن كل ما أصاب الأسر من تفكّك وانهيار، سواء منها ما يتعلّق بالزواج القسري أو الزواج غير المتكافئ أو زواح القاصرين أو التحكّم المفرط لأحد الأبوين أو الانفلاش الواسع في الولادات.

فإن المجتمعات الغربية، في إطار اندفاعها الثوري نحو المدنية والعلمنة وفصل الدين عن الدولة، أخذت في طريقها كل المعايير والقواعد التي يقوم عليها البناء الأسري، سواء عن طريق تشريع المساكنة خارج نطاق الزواج، أو تأجير الأرحام أو إباحة الإجهاض، أو فتح آفاق الحريات غير المسؤولة في مفاهيم الزواج والارتباط والفردية والشخصانية وما إليها. 

أمام هذا الواقع الذي يعكس نتائجه وأضراره الفادحة على المرأة والرجل والأبناء والمجتمع، يمكننا أن نستخلص أن أيًا من أنواع الزواج الشرعي أو المدني، وأن أيًّا من التحذيرات والتحليل البغيض أو القوانين المطبّقة في هذا الشأن، وأن الارتباط الناشئ عن مشاعر الحب أو الزواج التقليدي أو الزواج القسري، وأن كل التسويات المؤقتة، ربما تكون قد نجحت جزئيًا في تأجيل الانفجار لكنها أحدها لم يفلح في حلّ هذه المشكلة أو الحدّ من تفاقمها، شرقًا وغربًا.

ومهما كانت الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة المؤلمة، يبقى أن فقدان المناعة بالوعي الأسري هو من أبرز ما سمح لهذه الأسباب أن تنفجر هنا أو هناك.

إن الجهالة الأسرية المتحكّمة والمتفشّية لدى معظم الآباء والأمهات، قبل الزواج وبعده وقبل الإنجاب وبعده، وانعدام ثقافة الإرشاد والحوار والتواصل الأسري، وضعف التدعيم والتأهيل الفكري والنفسي، والتعزيز الإيجابي والتوعية الشاملة في هذا الجانب الاجتماعي الهام لا يمكن غفرانها على الإطلاق نظرًا لما يترتب عليها من نتائج تدميرية على جميع الأطراف وخصوصًا الأبناء.

فالارتباط الأسري لا تحميه القوانين ولا تحميه العادات والأعراف والالتزامات. فقط يحميه الوعي الذي يؤسس للمحبة والرحمة والتفاهم والتضحية والتعاون وتجاوز غرائز التملك والتسلط والتحكم والانتقام.

أبناؤنا لن يترعرعوا بأمان إذا لم يعيشوا في بيئة أسرية صالحة، مهما أغدقنا عليهم من مكرمات أموالنا وأدعيتنا، وإذا لم يجدوا بيننا سلامهم النفسي فلا نعجب أن يبحثوا عنه -خفية عنّا- في مكان آخر.