جمهورية "عون م.م." وأشلاء الدستور
بقلم: د. علي حرب
مجلة “المستقبل الكندي”
مونتريال / كندا
السنة الرابعة
22/01/2020
أمّا وقد قامت “الثورة” في لبنان، وأشعلت في طريقها ثورات.
ثورة “بعضٍ” من شعبه.
و”ثورة على الثورة” من “البعض” الآخر.
وثورة من أغلبية سلطوية حاكمة.
وثورة من بعض مرجعيات الطوائف.
– ثورة من بعض شعبه، دبّتْ فيهم روح التمرّد، ولو متأخرة جدًا جدًا!…بعد عقود طويلة من الخضوع للتبعيّة والظلم والفساد، فرفعوا القبضة والصرخة، واحتلوا الساحات، وأغلقوا الشوارع، منادين بالاصلاح والعدالة وحق العيش بكرامة.
– وثورة على الثورة من بعض هذا الشعب، دبّتْ فيهم “غيرة” الطائفة والزعامة والحزب والعهد، فحطّموا القبضة وأحرقوا الخيام واستحضروا النداءات الفجّة لحثّ الفتنة على النهوض قبل أن تستسلم للنوم.
– وثورة من أغلبية سلطوية حاكمة، وثَقت وتعنترت واطمأنت “ألّا أحد قادرٌ على ردّها”، محنّكة، بارعة في قدرتها على التزييف والتزوير وقلب ألوان الطيف وركوب الموج القادم من أيّ اتجاه، وضالعة في احتقارها واستهتارها بشعبها، فأحسنت ركوب الثورة، وتمادت في الضرب على الطاولة وقلبها بغية تحطيم المعادلة، فأسقطت حكومة، وأحرقت أسماء مرشحين محتملين من خياراتها، ثم أفرجت عن “فرخ المزرعة”، وقدّمته رئيسًا لحكومة “الإنقاذ وكل لبنان”، وكل ذلك تحت شعار “عملاً بموجبات الدستور”، و”وفقاً للدستور” و”إستنادًا للدستور” و”متسلّحًا بالدستور”.
وبمراوغة خبيثة لاستهبال شباب الحراك وهدْهدَتِهم إستعدادًا للنوم من جديد، رفعت الخطابات المخملية في وجه المنتفضين:
مع بدء النصف الثاني من الولاية الرئاسية وجّه الرئيس ميشال عون رسالة إلى اللبنانيين قال فيها: “لقد التزمت في خطاب القسم بتأمين الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي…وإنجاز قانون انتخابي يؤمّن التمثيل العادل لكافة مكونات الشعب اللبناني، والتزمت مكافحة الفساد.”
وأضاف متوجّهًا لشباب الانتفاضة: “على الرغم من كل الضجيج الذي حاول أن يخنق صوتكم الحقيقي ويشوش عليه تمكنتم من إيصال هذا الصوت الذي صدح مطالباً بحكومة تثقون بها، وبمكافحة الفساد الذي نخر الدولة ومؤسساتها لعقود وعقود، وبدولة مدنية حديثة تنتفي فيها الطائفية والمحاصصة.”
وتابع: “اليوم نحن على أبواب حكومة جديدة، والاعتبار الوحيد المطلوب هذه المرة هو أن تلبي طموحات اللبنانيين وتنال ثقتهم أولاً ولذلك يجب أن يتم اختيار الوزراء والوزيرات وفق الكفاءة والخبرة وليس وفق الولاءات السياسية أو استرضاء للزعامات.”
وقال: “البلد تجذر فيه الفساد طوال سنوات وسنوات، في الإدارة فساد، في السياسة فساد، في المال العام فساد، وفي بعض المجتمع فساد أيضا…وأول الغيث هو تطبيق القوانين الموجودة ثم إقرار ما يلزم من تشريعات لتعزيز الشفافية وإتاحة المساءلة للجميع. وحتى لا يبقى الدوران في حلقة مفرغة أكرّر ندائي للبنانيين بأن يضغطوا على ممثليهم في البرلمان لإقرار القوانين التالية: إنشاء محكمة خاصة بالجرائم الواقعة على المال العام، إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، استرداد الأموال المنهوبة، ورفع الحصانات ورفع السرية المصرفية عن المسؤولين الحاليين والسابقين وكل من يتعاطى بالمال العام.”
أما رئيس الحكومة الذي ولد من رحم الوعود الرنّانة فقد سارع لغواية شباب الانتفاضة فقال فور تكليفه: “أنتم الذين عبّرتم عن غضبكم ووجعكم…إن انتفاضتكم أعادت تصويب الحياة السياسية في لبنان…الانتفاضة هي الطريق نحو الهدف، ورسمت معالم لبنان الجديد…إنكم تنبضون بالحياة ولا تستسلمون لليأس، وإنكم أنتم مصدر السلطات فعلاً لا قولاً”.
كما أطلق حديث خرافة عن “حكومة بمستوى تطلعات اللبنانيين: تلامس هواجسهم، وتحقق مطالبهم، وتطمئنهم إلى مستقبلهم”…!!!
فولدت حكومة “الاختصاصيين”، والتي تضمّ “الجميع”؟ والكلّ يعلم من غير استثناء، أن رئيسها وأعضاءها خرجوا من كمّ العباءات السياسية والحزبية، وكرمى لعيون المتحاصصين من أهل البيت الواحد واللون الواحد.
– أما الثورة غير المفاجئة فهي التي انبرى على رأسها بعض المرجعيات الطائفية، منهم من جاهر معلنًا إنضمامه إلى صوت الثوار، ومنهم من غمغم ففتح الباب وألزم من دخله بالتنحي والعزوف، ثم أغلقه في وجه من استعصى وتمرّد، ومنهم من تستّر بعباءة الكينونة الوطنية، فقبل بشعار “الكلّ” باستثناء الرمز.
أمام مشهد “الثورة” و”الثورات”، وتقاذف كرات النار، تنفجر الأسئلة الملتهبة لدى اللبنانيين الضائعين بين الحقيقة والحلم الزائف:
- أين هو “كتاب لبنان” بين كل الكتب المرفوعة فوق الأشهاد؟
- أين أصبح دستور لبنان، الحَكَم والمرجِع والكلمة الفصل التي تلزِم الجميع، رؤساء ونوابًا ورؤساء حكومات ووزراء ورجال دين وإعلام ودنيا…باحترامه وتطبيقه؟
- من أين أتى خرق القوانين، ولماذ نامت مشاريع القوانين في الأدراج؟
- لماذا استيقظت فجأة لدى أغلب المسؤولين، تُهم الفساد وتهريب الأموال ونهبها، علمًا أن الكبار منهم اعترفوا بوجود هذه المآسي وبرّروا عجزهم بأنهم “ما خلّونا نشتغل…وما تركونا نعمل ونغيّر”؟ فلماذا لم تنتفضوا ولم تقلبوا الطاولات لكشف المعرقلين والمتواطئين ومحاسبتهم وحماية حقوق الوطن والشعب؟
- ماذا تبقى من الدستور الذي أقسمتم على حمايته غير أشلاء ممزقة يحتفل بلملمة جزيئاتها كل ست سنوات أداة للقسم؟
ها نحن أمام سيّد العهد الذي أقرّ بالتزاماته ووعوده، يعترف جهرًا وعلنًا بعجزه، خلال ثلاث سنوات من ولايته، على تحقيق ما التزم به وما وعد.
وها نحن أمام سيّد العهد الذي استنجد بالشباب المنتفضين لتكثيف الضغوط على ممثليهم في المجلس النيابي لإقرار قوانين مكافحة الجرائم على المال العام.
وها نحن أمام سيّد العهد الذي نكث بالتزامه بأن يتم اختيار الوزراء والوزيرات في الحكومة المقبلة وفق الكفاءة والخبرة وليس وفق الولاءات السياسية أو استرضاء للزعامات.
وها نحن أمام صورة مصغّرة لرئيس حكومة تنكّر لعهوده قبل أن يبزغ الفجر، فهرول مطواعًا لتشيكل “المجلس الأعلى للثورة المضادة” والتي أسماها حكومة إنقاذ، والذي سيتولّى ضمان استمرارية تمادي العهد في عجزه وفشله وتخلّفه عن الوفاء بالتزاماته، وحصرية الدولة بفئة متشبثة بأنيابها لتحويل الجمهورية اللبنانية إلى جمهورية “عون م.م.”، إستدراكًا لما قد يحمله النصف الثاني من الولاية الرئاسية من مفاجآت متوقعّة، وبعد أن تمّ لجم جميع الحالمين بالوصول إلى بعبدا، بدءًا بالقائد جوزف عون، ومرورًا بالحاكم رياض سلامة وزعيم المردة سليمان فرنجية وانتهاء بالحكيم سمير جعجع، لتعبيد الطريق أمام الوريث الحصري لجمهورية العائلة.
أيها اللبانيون الثائرون،
لا تستهينوا بمن يتهيأ للسكن في القصر الحكومي، فقد أُشبع من حليب السباع، وسوف يصفعكم بقرارات لم ولن تسَعَها خيالاتكم، وفي مقدّمها ترجمة أقوال سيّده إلى أفعال صادمة، “إذا ما في عندهم أوادم بالدولة يروحوا يهجّوا، ما رح يوصلوا للسلطة”.
إرحلوا يا شباب لبنان، فالوطن لم يعد لكم.
واستريحوا يا مغتربي لبنان، واطردوا أمل العودة من أحلامكم .
واخرسوا يا ثوار لبنان، فللجمهورية العتيدة دستورها الحصري، أما دستوركم، فعبثًا تبحثون عنه، لقد أكله “حمار غوّار”.
لقد نهبوا لبنان بمئة مليار دولار، وهو بعد وطن الحرف والثقافة والسياحة والطبابة، ووطن التفاح والمشمش والكرز. فهل تتوقعون أن يتركوه سائغًا لكم بعد أن يصبح بلد الغاز والنفط؟!
لكن…
لكن…سوف ينتفض طائر الفينيق ويزيل الظلمة بأظافره وأسنانه، ليعيد مجد وطن كان موئلاً للآلهة وسيبقى، وسوف تبكي أيها المتسلّح بسيف عنترة، دمًا “مثل النساء ملكًا ضائعًا لم تحافظ عليه مثل الرجال”.