الهمّ الوطني في شعر: محمد مهدي الجواهري

الذكرى الثامنة والعشرين لرحيل الشاعر محمد مهدي الجواهري

قنصلية العراق العامة في مونتريال

السبت في 2025/08/30

بقلم الدكتور: علي منير حرب

أسعد الله مساءكم جميعًا.

اتقدّم بأطيب التهاني القلبية من سعادة الصديق القنصل العام المستشار صادق الياسري، لترقيته لمنصب السفير، داعيًا له بمزيد من النجاح والتوفيق في موقعه الجديد، كما أشكر له ولطاقم القنصلية جهودَهم المميزة في إحياء ذكرى شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، ودعوتي للمشاركة في هذا الحفل الراقي.

أيها الأصدقاء الأعزاء،

موضوع حديثي معكم في هذه الأمسية، هو عن المحور الوطني في شعر الجواهري.

وكل الأبيات الواردة في هذا الحديث مستقاة من دواوينه.

سكب روحَه في الشعرِ فتجوهر، وأوقد التمرّدَ بشعرِهِ فتنمّر، وأعلن الثورة بتمرّدِهِ فتثوّر.

إنه شاعرُ الجمهورية، الوطنيُ المتمرّد، الثائرُ السياسي على طغيان الحكّام، نزيلُ القصور والسجون، والرحّالةُ في ديار العرب والشرق والغرب، ورفيقُ المنافي والملاجئ، أبو فرات، آخرُ فحول الشعر العربي:

«أما العراقُ، وقد قضيتَ، فكفّه    مشلولة، وحسامُهُ مفلولُ

إني، إذا شغلَ الغرامُ متبّلًا         فأنا الذي ببلاده مشغولُ».

في طفولتِه، كانت دارةُ أسرتِهِ في النجف، موئلًا عامرًا لمجالس الأدب والأدباء وأهلِ الرأي.

وفي شبابه وعلى مدى عمره الطويل، عاش يتغنّی بالسلام والحرية والعدالة، ويحرّضُ ضدّ السكون والخضوع، ويواجه التسلّطَ والاستهانةَ بحقوق البلاد والشعوب، فكان منارةَ التائهين، وسيفَ الضعفاء والمظلومين، وتحوّلتْ دواوينُ شعره إلى ديوانيات عربية مشرّعة أبوابها، ليحجّ إليها القاصدون إلى العيش الكريم، فأربك بخطابه، مراوغاتِ الحكّامِ ونفاقَهُم، مجاهدًا لوقف طوفان الجنون والدمار.

وعلى مَدفنِهِ الدمشقي نُحتت خارطةُ العراق ونُقش على صدرها: «يرقد هنا بعيدًا عن دجلة الخير».

وبعد وفاته تحوّلت دارتُه إلى مُتحف ومركز ثقافي اسمه بيت الجواهري.

مهما قيل عنه، ومهما حاول النقادُ والباحثون والمشتغلون بشعره وسيرته، مقارنَتَه مع فطاحل الشعر الآخرين، والتنقيبَ عن المتشابهات والمشتركات التي تجمعُه بهم، فإنهم لن يجدوا له مثيلًا ولا شبيهًا، لا في طراز شعره، ولا في نماذج طباعه، ولا في مسيرة حياته، ولا في حجم معاناته وما تعرّض له من ظلم وقهر واضطهاد، في مواجهة الحكّام، دفاعًا عن مبادئه وحقوق شعبه والشعوب المقهورة. فهو فريدٌ متميّزٌ عصيٌّ على المقارنة، كما كان عصيّا على التطويع والتدجين والخضوع.

في حقيقة الأمر، أن الشأن الوطني، أو فلنقلّ الهمّ الوطني، لم يكن جانبًا فائضًا أو منفصلًا عن الجوانب التي أنشدها الجواهري في شعره، إنما كان رهينَ حضوره عذابًا وقلقًا، وحنينًا ولهفة، وبركانًا داخليًا انفجر في وجه العتاة والظالمين:

«لا تعجبوا أن القوافي حزينةٌ              فكل بلادي في ثيابِ حِدادِ

وما الشعرُ إلّا صفحةٌٌ من شقائها          وما أنا إلّا صورةٌ لبلادي».

كانت الوطنية، بكل مفاهيمها الروحية والوجدانية والسياسية والاجتماعية، وبكل أبعادها القومية والإنسانية، وبكل مراميها الإصلاحية الهادفة إلى خير الوطن والمواطنين، ماثلةً متداخلة في كل الأغراض الشعرية التي تناولها في قصائده، لأنها نبضُ قلبِه وصدى فكره وشخصيته، ورفيقةُ دروبه وجهاده، على امتداد رحلة حياته الطويلة.

وكانت الوطنية هي بيتَ القصيد في كل عمارات قصائده الشاهقة. كيفما قلّبتَ صفحاتِ دواوينه، في الحماسة أو الفخر، في المديح أو السخرية أو الهجاء، في الحكمة أو الرثاء، وكيفما تتبّعتَ مسار حياته وتنقلاته وأسفاره وحضوره اللامع في المناسبات المختلفة، فلن تفتقد الحسّ الوطني المتغلغلَ في معانيه وصوره، صراحةً أو تلميحًا، سخطًا ونقمة واستنفارًا للجماهير، رمزًا أو إسقاطًا تاريخيًا، كما كان هَوَسًا مسيطرًا على أنفاسه وإبداعاته، وشاهدًا على العصر، وملتحمًا بما عايشه من أحداث في وطنه العراق، وفي المجتمع العربي والعالمي:

«لقَدِ ابتُلُوا بيَ صاعقاً مُتَلهِّباً           وَقَد ابتُلِيتُ بهمْ جَهاماً كاذبا

كَذِبوا فملءُ فمِ الزّمان قصائدي         أبدًا تجوبُ مَشارقًا ومغاربا

أنا حتفُهُم ألِجُ البيوتَ عليهمٌ             أُغري الوليدَ بشتمهم والحاجبا».

سكنته روحان لا تفترقان أبدًا، روحُ الشاعرية المتمرّدة، وروح الوطنية المتعبّدة في محراب تاريخ العراق وأمجاده، والملوّعة بأوجاعه ومظالم حكّامه.

رافقته الروح الوطنية في حلّه وترحاله، في إقامته ونفيه ولجوئه. كان صلبًا عالي الصوت في مقاومة الاستبداد، ساعيًا لخلاص بلاده من الجَور، من دون أن تلين عريكتُه ولا تضعفَ عزيمتُه، ولا يكلَّ لسانُه، ولا يكفَّ عن نهجه في الدفاع عن حقوق الوطن والأمة والمواطنين، ومهاجمةِ الحكّام والطغاة، على الرغم من كل ما تعرّض له من سجن وقمع وقهر وضغوط، وإغلاق صحفه وسحب جنسيته، وطرده من بلاده وإغلاق بلاد أخرى في وجهه، يشحنُه في كل ذلك اعتزازٌ بكرامته، وثقةٌ برأيه، وثباتٌ في مواقفه. 

لم يدخل ساحة، ولم يشارك في مناسبة أو احتفال، إلا وكان صوتَ الضمير شعرًا هادرًا بالتحدّي والرفض والغضب، وداعيًا إلى الإصلاح والثورة والوعي، مفجّرًا في نعوت الحاكمين الطغاة، قنابل ألفاظه وأقذعها وأفظعها قدحًا وهجاءً:

«خلتُ أني فررْتُ مِن جوّ بغدادَ       وطُغيان جَوْرها الَّلَّهابِ

ومِنَ الزّاحفين كالدُود هُونًا            تحت رِجليْ مسْتَعْمِرٍ غَلَّابِ

خِلْتُ أنّي نجوتُ مِنْ ذا، ومن          بَطشةِ عاتٍ، وخائنٍ كذّابِ».

من اشتغاله مستشارًا في البلاط الملكي زمن فيصل الأول في أواخر عشرينيات القرن الماضي، إلى مجال التعليم، ثم إلى معترك الصحافة ورئاسة نقابتها، ومنها إلى تأسيس الحزب الوطني، والاتحاد العام للكتاب العراقيين، وعضوية مجلس النواب، والمشاركة في مؤتمر أنصار السلام العالمي في بولندا عام 1949، خاض كل هذه الميادين، شاهرًا سيف التحدّي والتغيير، وخرج منها شامخًا متعاليًا على كل المناصب والمواقع.

الحكّامُ في شعر الجواهري طغاةٌ دائمًا، يتصفون بالغدر والحقد، وإذا لاحت على سنّ أحدهم ضحكةٌ فإنها تنفث السمّ الزعافَ بالخفاء:

«أمامكُم مُوعِرٌ، مُلغَمٌ         بشتّى المخاوف، مُستَصْعَبُ

يَسُدُّ مداخلَه أرقمٌ                وتحمي مسالِكَهُ أذؤبُ

فسوف يدوِّرُ ساعاتِكم          بما لا يَسرُّكُمُ عقربُ

وسوف تَضيقُ بِكُم دُورُكُم    وسُوحُ السجون بكم تَرحُبُ».

في خطابه الوطني الإصلاحي الغاضب، ينادي الشعب ويحضّ الشباب، ويستنهض همم الجميع، لمواجهة التخلّف والجهل والتكاسل والاستكانة والعجز، ورفض الحالة الفكرية والثقافية البالية، والالتحاق بمواكب العلم والحضارة، من دون أن يغيب عن باله انتماؤه القومي وما ترزح تحته البلادُ العربية من مآسٍ وذلّ وهوان.

في ذكراك أيها الثائر المناضل الأبيّ، نناديك ونقلقُ مثواك في تراب الشام.

باسم العروبة المكسورة والحزينة نناديك.

باسم الجوهرِ الإنساني المعطوب نناديك.

باسم من تبقّى من حاملي الراية وشموع النور نناديك.

لنستحضر هديرَ نهرِك الجواهري العراقي الثالث، علّه يغمر بطوفانه المتمرّد، ما يعوج في أرضنا من مهانة وتفرّق وهزائم.

السلام عليك أيها المنتفض المزمجر في رقاده. وكم نهفو لنردّد ما قلته في تأبين رئيس الحكومة اللبناني الأسبق عبد الحميد كرامي، وعوقبت بسببه بإخراجك من لبنان:

«باقٍ وأعْمارُ الطُّغَاةِ قِصَارُ          من سِفْرِ مَجْدِكَ عاطرٌ مَوّارُ

عبدَ الحميدِ وكلُ مجدٍ كاذب          إن لم يصن للشعب، فيه دمـارُ

والمجد إشعاع الضمير، لضوئه    تهفو القلوب وتشخص الأبصارُ

والمجد جبار على أعتابه            تهوي الرؤوسُ ويسقط الجبّارُ».

 

شكرًا لحسن استماعكم والسلام عليكم جميعًا.