الرواية العربية
تيّار الثقافة بين الراوي والمتلقّي
د. علي منير حرب
29/01/2022
أرحب بكم جميعًا باسم الاتحاد العالمي للمثقفين العرب وباسم صالون مرويات ومؤسسته الدكتورة زينب لوت التي تطلق فعالياتها الثقافية مع بداية العام الجديد، وباسمي شخصيًا.
كما يسرّني أن أرفع للدكتورة زينب أصدق التهاني لإصدار كتابها الموسوعي الجديد “التحريم في أدب الحريم”، والذي اعتبره مرجعًا تاريخيًا شاملًا لمسار الحركة النسوية والنسائية عبر العصور، في العالم كما في بلادنا العربية.
- كيف تقيّم المثقف في تلقي الرواية من جهة والمثقف الذي يكتبها؟
يتراءى لي، أن العَلاقة بين الكاتب والمتلقي هي علاقة ثقافية تبادلية تولّد تيارًا بين الطرفين. وأقول علاقة ثقافية، لأنني أفترض جدلًا، أن الأديب، أو كاتبَ الراوية، بصفته الثقافية، كجهة مرسلة، لم يتنكّب أعباء صناعة وخلق عالم نصّه الأدبي ليقف فقط عند تخوم المتعة الجمالية وإثارة الخيال والتسلية، كما لم يقصد فضح الواقع الاجتماعي، بصوره المختلفة بهدف الاكتفاء بالفرجة على هذه الفضائح، إنما كان في تصوّره، إعادة خلق قطعة من حياة أو مجتمع حيّ بشخوصه وأحداثه يحرّكهم بواقع أو بخيال، مستخدمًا ثقافته المعرفية ومراقباته الاجتماعية وخلفياته ومكنونات دواخله وتصورّاته، ليسجل في نصّه ما يريد أن يقرع به ذهن القارئ ومخياله ويحرّك المناطق الخامدة في مشاعره ورؤاه.
من هذا الجانب تحديدًا، والمتعلق بفرضية ثقافة الكاتب الحتمية، يمكننا أن نفهم الاتجاهات الحديثة في النقد والتي تنادي بضرورة تجاوز عمليات النقد التقليدي التي تقتصر على البنيوية الجمالية للنص إلى كشف المعاني المضمرة الدالة على الأنساق الثقافية التي انسابت داخل النص بوعي من الكاتب أو من غير وعي منه، والتي تطرح القضايا والخفايا غير المعلنة في السياسة والاجتماع والنفس والمعتقدات والأيديولوجيات ….
فما يمكن أن يكون مختفيًا تحت النص يحتاج بالتأكيد إلى قارئ قارئًا مثقف أيضًا لكي يلتقط مفرداته ودلالاته.
وهنا يكمن الربط بين المبنى والمعنى، أو بين النقد الأدبي والنقد الثقافي.
وأنا أعتقد أن البعد الثقافي، الذي يُعنى بكشف المستور وبيانه وتفسيره، يمثل أهمية لا تقل عن البعد الأدبي أن لم يرتق أكثر منه لأنه يحمل في طياته الكثير من خصائص وأدوات ومرامي النقد الأدبي.
ما يُميِّزُ الطليعيين التنويريين المبدعينَ عن سواهم من البشر هو دأبهم لتوظيف طاقاتهم الإبداعية ونجاحهم في فتح الأفق المسدود في عقول المتلقِّين، يعجز العاديون من الناس عن امتلاك أسرار المفاتيح القاهرة لأقفالها، ومن أولى مهماتهم تحريضُ العقول من خلال استفزاز المشاعر لإشعال الوعي أمام الوقائع التي تحدّ وتعيق الحريات والكرامات.
وهنا تبرز مسؤولية المبدع الثقافية.
كما أن القارئ، كجهة مستقبلة متلقية، إن لم يكن مؤهلًا ومستعدًا لتلقف الحدث والتفكّر فيه والتفاعل معه، أي إن لم يكن ممتلكًا لإرهاصات الفعلين الثقافي والنقدي معًا، فإنه سيبقى تحت تأثير الانفعال العاطفي الذي سرعان ما تخبو جذوته بعد حين، من غير أن يتحوّل إلى مؤثّر محفّز ومساعد على تحديد موقف إيجابي تجاه معطيات النص ومضامينه.
فالكاتب والمتلقي هما وجهان متكاملان لصورة الثقافة في نهاية المطاف.
أعتقد أن خاصية السرد تتجلى بأروع حللها البلاغية ومعانيها في التحرير والتنوير، في القصص القرآني الذي شكل ثلث القرآن الكريم وتناول موضوعات شتى كالعقيدة والأحكام والأخلاق ووصفها الله سبحانه وتعالى بأنها:
– أحسن القصص
– فيها عبر وعظات
– صدق وحق
فقد عدّ عبد الكريم الخطيب المجاهد المغربي من أصول جزائرية هذا القصص “وثيقة تاريخية من أوثق ما بين يدي التاريخ من وثائق، فيما جاء فيه من أشخاص وأحداث وما يتصل بالأشخاص والأحداث من أمكنة وأزمنة”.
ألا تذكرون كيف أن الحكّائين الساردين عبر التاريخ كانوا ندماء الملوك ومرشديهم؟
ألا تعتقدون معي أن أروع ساردة في التاريخ العربي كانت شهرزاد التي بنيت على شخصيتها قصص وحكايات ألف ليلة وليلة، لمهارتها الفائقة في الرواية ونقل الحدث، وحيث تمكّنت من خلال القصص تطهير الملك شهريار من العقدة المتحكّمة به وإنقاذ بنات جنسها من جرائم انتقاماته.
من هنا يمكننا أن نفهم حقًا طبيعة العلاقة اللحمة التي تربط بين المؤلف والمتلقي، أو ما أطلق عليه ثلاثية السارد والمسرود والمسرود له.
إنني أراها مطابقة لعلاقة الشمس بالأرض، وعلاقة الماء بالحياة، وعلاقة الشجرة بالثمار.
وإذا انقطع هذا التيار في أحد اتجاهيه بين الكاتب والقارئ، أو بين أي فن من فنون التعبير والجهة المستهدفة منه، وإذا لم تتحقق إثارة الدهشة والدفع نحو التساؤل والرفض والنهوض لدى المتلقي القارئ، فإننا سنكون أمام احتمالين:
إما أن الكاتب لم يتقن الوصول إلى غايات فنه أو فحوى رسالته الفنية واكتفى بالبقاء على الشطآن دون الخوض في غمار التجارب الإنسانية، وإما أن القارئ لم يحسن قراءة السرد ومرافقة الكاتب في مغامرته واكتشاف المكنون من روح النص وجوهره ليولّد لديه الحوافز ويستفزّه ويثيره.
وفي الحالين فإن أحدهما قد فقد خاصيةً أو مزيّة من مزايا المثقف السارد أو المسرود له.
وسوف تبقى الرواية في مجال الترفيه والمتعة الفنية، ويبقى الكاتب الراوي في مجال السارد للأخبار والفاضح للأسرار والكاشف للخبايا بأسلوب فني إذا لم يحمل في فكره ورؤاه صفات ووظيفة المثقف، وإذا لم يتلبّس شخصية الأديب والشاعر والمفكر والرسام والإعلامي الاستقصائي الحر ويطلق العنان لحكاياته أحداثًا وشخصيات ومواقف وصراعًا وحبكة وصياغة أدبية تصويرية مبدعة، لكي يحوّل روايته إلى قصيدة ثورية تطلق نفير النهوض بعد نكئ الجراح وعرض الآلام والمظالم والمعاناة، وإلى أغنية ثائرة تقرع الأجراس على أبواب الضمائر لاستنهاضها، وإلى عرض سينمائي ومسرحي أخاذ يشعل النفوس المعذبة للتحرّر والخلاص. على الراوي المناطة به مهمة التوعية والتنوير، أن يخلق إنسانًا جديدًا، بطلًا ما، في نفس كل قارئ لا أن يستحوذ فقط على إعجابه ليتلقى منه الشكر والتقدير. ومن المهم كثيرًا أن نربط بين النتاج الأدبي أو الفني وبين مدلولاته الثقافية الخفية وما يحمله من قيم ورموز تكمن خلف الطبقة الجمالية الرقيقة وتعكس الواقع القائم بتناقضاته وصراعاته ومدى تأثيرها في الاختيارات المصيرية للفرد والمجتمع.
ولنتذكر جميعًا مساهمة الكثير من الروايات والقصص العربية والعالمية، ودورها في شحن العقول وتعبئة النفوس وإشعال تيارات الرفض والثورة ومشاركتها في رفع أصوات المعارضة في المجتمع بعد رصدها لوقائع الظلم والقهر.
وإن قصّة المناضلة الجزائرية “جميلة” التي تُعد رمزًا للكفاح والجهاد في سبيل استقلال الجزائر، والتي كتبها الأديب الروائي المصري الكبير يوسف السباعي، وكتب السيناريو والحوار الأدباء نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي وعلي الزرقاني تشارك في كتابتها مجموعة من كبار الكتاب المصريين، وتحوّلت إلى عرض سينمائي مدهش، أخرجه المخرج المصري الكبير يوسف شاهين، عام ١٩٥٨، وشارك في تمثيله ماجدة وأحمد مظهر وصلاح ذو الفقار ومحمود المليجي وتم عرضه في العديد من دول العالم تنديدًا بحكم الإعدام على جميلة بوحيرد، كما تم عرضه في مهرجانات عالمية، وأثار موجة من المظاهرات والتنديدات والمطالبة بالإفراج عن جميلة، وكتبت الصحف العالمية عن جميلة، وانتشرت جُملة “انقذوا جميلة” عبر وسائل الإعلام الغربية، في العالم كله وبالفعل نتيجة الضغوط، خففت فرنسا الحكم عليها من الاعدام للسجن المؤبد ومن ثم تم إطلاق سراحها بعد استقلال الجزائر، بفضل محاميها الفرنسي جاك فرجيس.
واستطاع هذا الفيلم التأثير في الشعب الفرنسي بشكل كبير، لدرجة تعاطف الفرنسيين مع جميلة فكتب الفيلسوف الفرنسي “جان بول سارتر”: “الفيلم جسد أمامي حجم الجرم الذي ارتكبناه في حق الإنسانية.
إن قصة جميلة بوحيرد، بأضلاعها الثلاثة، البطلة جميلة، وكتّاب قصتها ومبدعو فيلمها، والجمهور العريض العربي والفرنسي والعالمي الذي تلقّف واحتضن واستجاب ورفض واستنكر، مثّلوا جميعهم على أرض الواقع أروع ما يكون عليه التفاعل الثقافي بين الفكر والمجتمع، بين الطليعيين التنويريين، بين الكاتب والمتلقي.
فجميلة كانت رمز البطولة الوطنية والكتّاب وصنّاع الفيلم كانوا أفضل من جسّد هذا الرمز، أما الجمهور المتلقي فكانوا أصدق أنموذج للمثقفين الواعين.
وأخلص من هذا العرض التفصيلي لأقول إن تقييم المثقّف العربي بين كاتب ومتلقٍ لا ينبئ بمؤشرات السلامة، ليس لأن الروائيين الطليعيين التنويريين غائبون عن الساحة، وليس لأن القارئ موصد أبوابه للاستقبال، بل لأن ما يحيط بأغلب بلاد العرب اليوم هو غياب الثقافة الجامعة الواحدة. حيث أصبح لكل فئة من فئات المجتمع ثقافته المنعزلة الخاصة والتي تتناقض في أحيان كثيرة مع ثقافة ابن مجتمعه ولغته وتاريخه. فالهوية أصبحت هويات، والانتماء أضحى انتماءات، والمطروح هنا مرفوضًا هناك، وخيم منطق بابل على فضائنا الثقافي المشرذم. ولا أقصد هنا أبدًا خرق خصوصيات الثقافة للمجتمعات إنما أريد أن أبين مدى الانشقاقات التي ضربت مفاهيم الثقافة العامة في قضايا الحرية والعدل والكرامة والوطنية والهوية.
وما كان ذلك ليحدث، إلا لأن المؤسسات المفترض فيها أن تكون حاضنة وراعية لهذه الوحدة الثقافية قد ضيّعت بوصلتها في خضّم الصراع على المصالح والمكتسبات الذاتية على حساب المصلحة الجامعة، فلا تربية متجانسة ولا تعليم متوافق ولا إعلام حر وطني نزيه ولا سياسة وطنية رافعة للتنوير والوعي، كل هذه المنظومات والمؤسسات المناط بها دعم تيار ثقافة الوعي وتنميته تخلّت عن رسالتها وغرقت في أتون المشاحنات وتقاسم المغانم، فكيف والحالة هذه من الانحدار والتشظي المسيطر والذي يزداد تجذّرًا يومًا بعد يوم، يمكن أن نأمل بتواصل التيار بين الأخوة الأعداء؟
لم تعد المسألة متوقفة عند حدود الكاتب والمتلقي، بل تعدّتها إلى قضية الثقافة نفسها وما أصابها في بنيتها من قصور وخلل.
عندما نتحدث عن التواصل الثقافي في مجتمعاتنا العربية يبدو أمامنا واقع بلداننا التي انحسرت فيها تيارات التنوير وتراجع دور المثقف وحُجمت مكانته الاعتبارية داخل المؤسسات وفي الحاضنة الاجتماعية أيضًا… حالة التراجع التي شهدها العالم العربي معرفيًا لا يمكن أن تُختَصَر في السياسات التعليمية، أو أنْ تُحشَر داخل غُرف المنظومة التربوية. مما لا شك فيه أن المؤسسات غير الفاعلة ساهمت وتساهم في معادلة النكوص المعرفي والحضاري الذي أصاب بُنيات الوعي الجماعي، وعطل الحراك المعرفي في المجتمعات العربية منذ عصور.
إن التراجع الذي يتسارع في العالم العربي هو معرفي في الأساس، يحدث ذلك لأن الثقافة كمفهوم أولاً وكمشروع عملي ثانيًا وكشرطٍ حضاري ثالثًا تم اختزالها وتقزيم حضورها داخل هامش صغير لا يكادُ يؤثر وربما لا يكاد يُرى.
ومع امتداد الصراعات وتعقد القضايا والأزمات، وأمام تحديات الاستهلاك والإكراهات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، أصبحت المسألة الثقافة برمتها قضية ثانوية للغاية.
إن البنية الثقافية، والإرث الروحي، يحتاجان دائماً إلى تغذية مستمرة في ظل نظام اجتماعي وسياسي سليم.
- طبيعة الثقافة مع تحولات العصر:
من أجل أن نرصد طواعية وأمانة الحركة الثقافوية وقدرة استجابتها لاستيعاب التحوّلات المتواترة للعصور، من المهم بدءًا أن نحدّد العناصر البنيوية العضوية، والجينات التطويرية المزروعة في تكوين الثقافة، حتى نتبيّن عن طريقها، مدى إمكاناتها الطبيعية للتكيّف والتماهي الإيجابي مع التغيّرات المتلاحقة للوجود الإنساني، ومن ثمّ تلقّفها وكشفها وعرضها بمختلف ألوان وفنون التعبير لإحداث التنبيه والتأثير والتغيير.
لن أدخل في تفاصيل تراكمات التعريفات والأوصاف التي أفاض فيها المفكرون وعلماء الاجتماع التنويريون عبر التاريخ حول مفهوم الثقافة، والتي توالت فصولًا وإضافات تبعًا للمستجدات والمعضلات التي فرضت على الإنسان مواجهتها والدخول في صراع أبدي معها، وسأكتفي أن أضع تحت الضوء تعريفًا بسيطًا للثقافة، وهو أنها، بطبيعة بنيتها التركيبية المتنامية، لا تقتصر على جمع المعارف المكتسبة عفوًا أو بالممارسة والخبرة والتعلم، كي تكوّن ميراثًا ماديًا معرفيًا يحتفظ به في خزائن الذاكرة ويرتقي بصاحبه ليقبع فوق برج عاجي منسلخ عن قضايا واقعه ومجتمعه المحلي والإنساني، إنما باكتسابها صفة الكرم الدائم بتوزيع هذا الميراث على احتياجات الإنسان المقهور والمتخلّف ومساعدته على اليقظة واستنهاضه للرفض والتغيير.
والثقافة من هذين البعدين المتحوّل والسخي، تصبح حارسًا واعيًا على بوابة التاريخ، ومرصدًا ذكيًا لأحداثه، ومحاميًا أمينًا للدفاع عن حق الإنسان، في أي زمان ومكان، ليحظى بكرامة العيش على هذه الأرض، ولحماية الأرض نفسها لتبقى مكانًا آمنًا للحياة، وبالتالي، فإن الثقافة، بشموليتها للمراحل الإنسانية ولإنتاجات الفكر كافة، تدخل ضمن مفهوم السلطة الرابعة التي منحت للجسم الإعلامي من بوابة دوره الرقابي والاعتراضي، وقد تترفّع عنه في بعض الأحيان، كونها لا يمكنها إلا أن تكون نبيلة وحرّة. وأعني بذلك الثقافة التي ترتفع بأصحابها من المفكرين النقديين الذين يملكون الرؤية ولا ينساقون إلى أبواب التكسّب المادي أو السلطوي، ولا يتخلّفون أو يتهاونون عن أداء دورهم الرسالي في معرفة قراءة الأحداث واستخلاص التوقّعات واستلهام التنبؤات وتوليد الأنوار الهادية وإثارة الوعي واستنهاض الهمم لرسم مستقبل أفضل.
انطلاقًا من ذلك فقد أجمع العلماء على وصف الثقافة بأنها “العملية الاجتماعية التي بواسطتها يوصّل الأفراد المعاني، ويدركون حقيقة عالمهم، ويبنون هوياتهم، ويحدّدون معتقداتهم وقيمهم”، كما أنها طريقة تفكير ذات خصوصية لصيقة بمجتمع ما، ومقرونة بسلوك محدّد ومنهج متميّز.
إن التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها البشرية في تاريخها وما تبعها من تحوّلات بيئية وعولمية وتقنية ورقمية مع بدايات القرن العشرين، فرضت نفسها بقوة على الفضاء الثقافي حول العالم، كما طبعت لوحاتها بألوان ساطعة عن الظلم والفقر والجوع والحروب والاستبداد والصراع الديني والعنصرية، وشحنت العقول للبحث عن الحقوق الإنسانية كافة، وكان من نتيجتها تحديد الاتجاهات الثقافية في المجتمع تبعًا لاتجاهات رياح التغيير والمستجدات وبخاصة في زمن التحولات الكبرى.
إننا لندرك من إضاءات الثقافة المتمثلة بنقوشات الأولين ورسوماتهم وأساطيرهم وحكاياتهم، وبفلسفة الإغريق والصينين والهنود، وبمعلّقات الشعر العربي، وحكايا ألف ليلة وليلة، كما بروائع تولستوي وهمنغواي وديكنز ومحفوظ وكنفاني ومستغانمي وغيرهم وغيرهم، مرايا عاكسة لكل ما شهدته الإنسانية من تقلّبات وتغيّرات، من هبوط وصعود، وانتصارات وهزائم، وأحلام محقّقة ومأزومة.
وما دمنا في إطار الحديث عن الرواية، وما دمنا نتقلّب على جمر الجائحة التي ضربت العالم، فإنني أعرّج على أحدث إصدار للروائي المصري نعيم صبري، الموسوم “٢٠٢٠”، حيث يستدعي في روايته هذه تداعيات العام الأثقل المثير للرعب، والذي صار يعرف بعام “جائحة كورونا” ولا تزال توابعه مصدر قلق يواجه العالم.
يقول صبري: “لن ينسى العالم هذا الرقم “2020”، شعرت أن تجربة جائحة “كورونا” حدث جلل في تاريخ الإنسانية، غيّرت في سياقاته بشكل مهول، لكنها مع ذلك، استطاعت توحيد مشاعر الرعب والهلع لدى الإنسان في كل الأرض، حتى في تاريخ الأوبئة لم يحدث أن خيّم حدث واحد على العالم كله في ذات اللحظة، فقد كانت تحدث الأوبئة على نطاقات جغرافية مُحددة، ووجدت أن هذا الحدث يجب توثيقه أدبيًا وفنيًا للأجيال القادمة. في الرواية يبدو الفن بكل روافده من سينما وموسيقى وتشكيل شريكًا ملازمًا في تلقي أخبار الموت وتصاعد الوباء.”
كما أستحضر هنا أيضًا، الكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاتشيو، كاتب قصّة “الديكاميرون” أو الليالي العشر، والتي وثّق فيها وباء الطاعون الذي اجتاح فلورنسا وإيطاليا كلها عام ١٣٤٨، وحالات الرعب منه وجثثه الصفراء في الطرق، وكيف جعل الناس في ذروة الأنانية والتهافت والتحلّل من كل فضيلة.
لقد اتخذ بوكاتشيو الطاعون رمزًا للأوضاع المسيطرة في عصره وأراد أن يكسر الأقنعة المتجمدة على الوجوه وأن يلعن النوازع التي تضغط على روح الناس.
وعلى غرار بوكاتشيو، نسج الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز روايته الحب في زمن الكوليرا، والتي صدرت باللغة الإسبانية عام ١٩٨٥، ونال على أثرها جائزة نوبل للآداب.
في أحدث مقالاته المعنون: “مشروع إقلاع العقل العربي”، يقول وزير الخارجية الليبي ومندوبها الأسبق لدى الأمم المتحدة، عبد الرحمن شلقم: “عندما أشعل آل ميدتشي في مدينة فلورنسا الإيطالية مصباحَ العقل، بدأت حقبة جديدة في مسار الإنسان. ومنذ تولي كوزيمو الكبير وهو أحد أبناء عائلة ميدتشي في فلورنسا – حكم فلورنسا، فتح الأبوابَ لكبار الفنانين وأنفق عليهم من دون تحفظ، وبعده جاء حفيده لورينزو، وقام برعاية الفلاسفة وأحيا الفلسفة اليونانية والرومانية وكذلك الإسلامية، وقام برعاية الفنانين الكبار وكانت تلك أكبر خطوات الانطلاق نحو إنسان جديد لعصر جديد.
كانت الفلسفة هي قداحة النهضة، وكما قال سقراط لأهل أثينا: “أنا النحلة التي تقرص الحصان الأثيني الكسول.”
وأنهي حديثي في هذا المحور، مؤكّدًا، أن موقف الثقافة من التحوّلات الحاصلة أمامها هو موقف المواكب والحاضن والعاكس لها لكن دون أن ينعكس تحوّلًا أو تبدّلًا أو تخلخلًا في مبادئ المثقف ومواصلة مخاطبة العقول بالنبل والأخلاق والأمانة والعدل والحرية بمعيار وميزان واحد وهو كرامة الإنسان.
- ما أهم الروايات التي تضيف ملامح ثقافية؟
تحملني الإجابة على هذا السؤال إلى التطرّق لما ألمحت إليه في موضوع النقد الثقافي في بداية كلامي.
لا أريد أن أخوض عميقًا في هذا الجانب، كي لا أحمّل موضوع الندوة أكثر مما يحتمل، لكن لا بد من استعراض بعض العناوين العريضة للعلاقة القائمة بين الثقافة والنص الأدبي، وبالتالي بين الثقافة والوجود الاجتماعي، ما دامت الرواية تحديدًا تحمل لنا قطعًا متنوعة من هذا الوجود.
فالنقد الثقافي بالمعنى ما بعد البنيوي الذي دعا إليه أبرز مؤسسيه الأمريكي “فنسنت ليتش” Vincent Leitch مشروع جديد في الخطاب النقدي العربي المعاصر مهمّته القيام بدور مفقود في ميادين ومناهج البحث المعاصر للخروج من نفق المظهرية الشكلية الذي أسّسه النقد الأدبي، والتوجه إلى الحراثة من أجل التقاط مضمرات الخطاب والغوص في أعماق النص بحثًا عن دلالاته المضمرة التي تتجمّع لتشكّل أنساقًا ثقافية.
وقد تلقّف الدكتور “عبد الله الغذّامي” هذه المنهجية كما تلقّفها آخرون، ليبنوا عليها رؤيتهم الحديثة في نقد النص الأدبي، وتوالت بعدها التوجّهات للبحث عن الأنساق الثقافية في الشعر الجاهلي والعباسي والأندلسي وكذلك في مختلف الروايات العربية.
الأدب برأيي هو روح الثقافة المتغلغلة في ثنايا النص. هكذا تعاطى الأقدمون مثل الجرجاني والجاحظ وابن رشيق في تناولهم للنصوص الأدبية بعامة، وإلّا كيف يمكننا أن نفهم إطلاق مصطلح الشعر ديوان العرب إن لم يكتشفوا فيه معظم إن لم نقل كل، الأنساق الثقافية أو الهوية الثقافية، التي سادت المجتمع.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هو هل يمكن للناقد إقصاء الروافد والأنساق والملامح الثقافية المتشكلة في حياة المجتمعات عن الأدب بعامة والرواية بخاصة؟
فالرواية، فرضت نفسها فنًا تمكّن أن يحتلّ المرتبة المتقدّمة بين الفنون، كما تنبّا لها الكاتب الكبير الدكتور جابر عصفور، لأنها تقوم أساسًا على سرديات عامرة بتمثيلات الثقافة الشعبية، ولأنها تعكس المضامين الكامنة في المجتمع، وتنقل أبعادها، وتبرز تجلياتها، فمنذ التأسيس كانت الرواية حاضرة لتسرد تاريخ الأمة، وتعرب عن تجاربها، وثقافتها، وحياتها.
وحين نعود إلى الرواية العربية، فإن الملامح الثقافية فيها تكمن في تفاعل الكاتب مع مخزونه التراثي والثقافي، وكيفية حضوره في العمل الإبداعي.
أما القضايا العامة التي نجدها في الرواية العربية بشكل عام، فتتمثل في العلاقة الأسرية – الحب والعاطفة – وضع المرأة – التعليم – الزواج – الطلاق، كما طرحت بعض القضايا التي تتمثل في الحرية والديمقراطية والهوية، في سياقات مختلفة سياسية أو اجتماعية أو دينية، غير أن التطور الذي يطرأ على الكتابة وموضوعاتها ومادتها يؤكد ما نراه ونقرأه حالياً في كثير من الأعمال السردية التي نظرت إلى ما يتمظهر في المنطقة العربية من تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية.
من هنا أريد أن أقول إن الرواية التي تضيف ملامح ثقافية هي التي تخرج من بين يدي كاتب رؤيوي مبدع مثقّف مشغول بهموم الناس وأشواقه للعدل والحرية وخلق مواطن يصعب استغلاله أو خداعه، وبطل لا يكفّ عن مشاغبة الحياة يعرف معنى الحرية السياسية ومقاتل حر في كتاباته كما في سلوكه، ومثير للاستفزاز يكشف أكثر مما يحتمل القرّاء وما تستطيعه السلطة السياسية التي تكون وراءه بالمرصاد.
وبالتالي فإن الرواية المولودة في هذا الفضاء الثقافي المحموم، هي التي تنجح في إعادة تشكيل الحياة من جذورها وفي صميمها كما يقول الدكتور زكي نجيب محمود، وهي التي تحسن التفاعل بين الشمولية والمحلية ومواكبة الاتجاهات المستقبلية.
وأريد في إطار الحديث عن الأنساق الثقافية في الرواية العربية، وكي أبرز حقيقة الكاتب المبدع الذي يسكنه الهاجس الثقافي الإنساني وينعكس على إنتاجه، أن أعرض ما يتناوله الكاتب الجريء والمقتحم في معظم سردياته ومقالاته وقصائده، الدكتور محمد إقبال حرب، الذي ينحو في كتاباته منحى تنقيبيًا استكشافيًا ويعتمد أسلوب التحليل السوسيو اجتماعي وسياسي وديني وفلسفي، مستخدمًا الرموز والشخوص المصطنعة والتخيلية لسبر أغوار النفس الإنسانية.
إن مبضع الكاتب حرب لا يكاد يتوقف للبحث عن المدسوس في الطبقات الداخلية ليكتشف ما تغلغل فيها من ترسبات الأوهام والزيف العقائدي والعادات والتقاليد التي تتحكم بأفعالنا وردود أفعالنا ومواقفنا وقراراتنا تجاه الأحداث.
همّه أن يبحث عن بقايا الإنسانية داخل الإنسان ليبني عليها، أن يستحثه ويحرّضه، أن يبرز الأمراض المعششة داخله وأن يسلّط الضوء على كل المعوقات التي تعطل العقل العربي عن العمل، حيث يبدو، من إشارات انهزاماتنا المتتالية، أننا لا نعمل بعقولنا إنما نعمل بما تمليه علينا نوازعنا المتأتية من أكوام من المزيّفات والأوهام والعادات والمترسبات النفسية العالقة فينا والموجِهة لنا.
في روايته الرمزية السياسية والاجتماعية “العرّافة ذات المنقار الأسود، والتي أهداها “إلى من يدرك إنسانيته قبل الفناء”، وعرض فيها، على لسان مجتمع الديوك والدجاج، الذي يعيش في مملكة الجد “سهم” أبعد ما يمكن لجرّاح نفسي واجتماعي وسياسي أن يتوصّل إليه من مضمرات مشحونة بنوائب المجتمعات البشرية.
وهكذا فعل في روايته هنا ترقد الغاوية، وفي مجموعته القصصية العميان الجدد.
هو كاتب مثقّف معجون بالثقافة، وكاتب إنساني شفّاف متنوّع الأساليب والأنواع، يقدّم فكره في لوحات بلاغية فائقة الجمال والتأثير. صاحب مدرسة روائية حديثة على نحو ما اتصف به محفوظ في الرواية الواقعية وأجاتا كريستي في الرواية البوليسية. طرح مسائل وقضايا إنسانية واجتماعية قلّ أن تتطرّق إليها الأخرون، فتناول قضية توظيف الخرافات والتاريخ المقدّس والدهاء باسم الكهانة من أجل التحكم بمصير الشعوب، كما عالج موضوع الحكمة، وخطر المعرفة عندما تتحد مع الدهاء والجشع، وتعرّض لمسألة تفكيك الدول وسرقة خيرات الأوطان ومصائب الثروات التي يحظى بها شعب جاهل.
أدبه ونتاجه يحظى باهتمام واسع لدى القراء وهو محط دراسة ونقد وتحليل لدى الكثير من النقاد. وما ذلك إلا لأنه يحمل في مضامينه ذخرًا ثقافيًا عميقًا يضعه في خدمة الإنسان والإنسانية.
وأريد أن أغتنم فرصة حضور الدكتور حرب معنا لأدعوه، بالإدلاء برأيه في هذا الجانب.
- ما رأيك بالرواية العالمية؟
دعونا نحاول معًا تفكيك مفهوم العالمية وتحديد عناصره.
من المتفق عليه أن إطلاق صفة العالمية على أي عمل أو إنجاز فكري إبداعي في الفنون والآداب والعلوم والفلسفة وما إليها، يعني أن هذا المنتج أو الإنجاز نجح في تطبيق مجموعة من المعايير الموضوعية والفنية أهلته لتجاوز المحلية والانطلاق إلى آفاق العالم، نظرًا لما قدّمه من رؤية إنسانية مثالية قوية فتحـت أمامه أبواب الشهرة العالمية وسلّطت الأضواء عليه وعلى مؤلّفه فنال بذلك حظوة واعترافًا دوليين.
في الرواية تحديدًا فإن ما يشاع في موضوع العالمية هو أن هذه الرواية أو تلك مؤهلة لتمثيل العالم، فلذا حلّقت بصاحبها خارج حدود منطقته واستطاعت أن تستقطب تأثيرًا وإعجابًا وتقديرًا لدى فئة واسعة من المترجمين والقراء والنقاد والمشتغلين في عالم الثقافة والأدب.
ولا أؤيد ما ذهب إليه البعض من أن التوجّه نحو العالمية يمكن أن يفقد الكاتب خصوصياته الثقافية، أو ما يقوله آخرون إن الروائي عندما يكتب أعمالًا عالمية فإنه يتجاهل “العوائق المحلية” حتى لا تقف أمام الانتشار العابر للحدود، ما يحمل في طياته اتهامًا بأن الأدب العالمي يتضمّن نوعًا من خيانة المبادئ الثقافية واللجوء إلى النفاق من أجل إرضاء الناشرين الكبار.
فأنا أعتبر أن الوصول إلى العالمية لا يشكّل على الإطلاق أي انتهاك لهذه الخصوصية، فالخصوصية الثقافية لأي شعب أو مجتمع ما هي إلا جزء أساسي وعضوي من اللوحة الإنسانية التي لا يكتمل تركيبها إلا بها، ولا يصحّ توجيه التهم لأي كاتب يطمح لنيل لقب كاتب عالمي بأنه يسعى إلى ممارسة النفاق أو الخيانة ما دام ملتزمًا بقواعد الثلاثية التاريخية للقيم، والمتمثلة بالحق والخير والجمال.
أما ما يقال عن المعايير المختلفة التي يجب مراعاتها لبلوغ العالمية، والتي يستند إليها معظم المحكّمين والنقاد، في مراكزهم المحلية أو العالمية، للحكم على عالمية العمل الروائي، فلا شك أنها في معظمها معايير عادلة ومنصفة من حيث تقييم العمل الأدبي نصًا وأهدافًا، لكنها قد تبدو ظالمة ومنحازة وغير عادلة حين ترتكز على توجّهات تنحو نحو المحاباة، والانحيازات غير الأدبية.
وإلا كيف يمكننا أن نفهم مثلًا حجب جائزة نوبل العالمية للآداب عن شيخ الروائيين العرب الكاتب نجيب محفوظ لعدة سنوات ولم تقرّ له هذه الجائزة إلا بعد أن دعا إلى التقارب مع الكيان الصهيوني، علمًا أن ترجمات عدة للفرنسية وغيرها صدرت لكثير من روايات محفوظ والتي كانت في أغلبها تعرض قضية الصراع البشري في مختلف مناحي الحياة حسبما تقتضي شروط الترشّح للجائزة.
وهذا ما حاول الناقد الأميركي آدم كيرش استعراضه في مقالاته الست، التي كتبها تحت عنوان “الرواية العالمية…التناول الروائي للعالم في القرن الحادي والعشرين”. والتي يتساءل فيها عن الآليات المؤسساتية التي يتم بموجبها وتحت رعايتها الاحتفاء بنخبة مختارة من المؤلفين والروائيين، حيث يرى “أنها تظل غامضة وغير مفهومة على نطاق واسع، ولهذا السبب فهي عرضة للشبهات والتشكك على الدوام. فهل الكتب التي أتاح لنا الحظ فرصة قراءتها هي حقًا الأفضل، والأكثر أصالة بين الروايات الأخرى المكتوبة باللغات ذاتها التي كُتبت بها هذه الروايات؟ أم أنها – ببساطة – الروايات التي تناغمت مع الحسابات التجارية القائمة وحسب؟”.
كما يرى غيره من نقاد الجائزة العالمية أن أعضاء اللجنة الذين يختارون الأعمال الفائزة بنوبل للآداب يتحيّزون ضد المؤلفين ذوي الأذواق السياسية المختلفة عن ميولهم.
وفي هذا السياق، شكك الروائي والأكاديمي البريطاني تيم باركس في حيادية أعضاء اللجنة السويديين مشيرًا إلى انحيازهم للثقافة الإسكندنافية، حيث فاز 16 أديبًا من أصول إسكندنافية بالجائزة العالمية من أصل 113 منذ إطلاقها وحتى العام 2016.
ويتساءل باركس كيف أن أدباءَ كبارًا مثل الروائي الروسي ليو تولستوي، والمسرحي النرويجي المثير للجدل هنريك إبسن، والروائي الأميركي الساخر مارك توين، قد حجبت عنهم هذه الجائزة كما حجبت عن الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس الذي رشّح للجائزة عدة مرات، لكن الأكاديمية لم تمنحها له بسبب دعمه لبعض الدكتاتوريين العسكريين اليمينيين في الأرجنتين وتشيلي، وهذا ما حصل أيضًا مع الكاتب المسرحي والروائي السويدي الشهير أوغست ستريندبرغ بحجة ميوله الاشتراكية التحررية، وهجائه اللاذع للطبقات العليا من المجتمع السويدي. بينما مُنحت الجائزة في المقابل للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز المعروف بتأييده للثورة الكوبية وزعيمها كاسترو وللشاعر الدبلوماسي والسياسي التشيلي بابلو نيرودا والذي كان معجبًا بكاسترو.
وهنا يطرح السؤال نفسه، هل أن صفة العالمية هي وقف حصري على اعتراف محكّمي الجوائز العالمية مثل نوبل مثلًا، أم أنها حق مستحق لكل كاتب مبدع أنجز عملًا أدبيًا يتوافق مع كل المعايير النقدية الأدبية والفنية التي يقتضيها مفهوم التمثيل الإنساني في طرح قضايا الحياة، بغض النظر عن عدد الترجمات التي حظي بها هذا العمل.
يقول الروائي المغربي محمد معتصم في هذا الصدد إن الرواية لكي تكون عالمية لا بدّ من أن تكون قد حققت المقروئية الواسعة، وأن تكون مؤلفات صاحبها إنسانيةً يجد فيها القارئ، أيًا كان، ذاته أو جزءًا منها، أي أن تكون قضاياه نفسية واجتماعية، وأن تتضمَّن الرواية موقفًا شخصيًا وإنسانيًا من الحياة ومن العصر وقضاياه، وأن تعالج قضية فكرية أو ظاهرة إبداعية وثقافية في طور التشكّل، وأن تقدِّم أخيرًا اقتراحات خلاقة يكون مؤلفها سبّاقاً إليها عن طريق خلق متخيّل مشترك بين مختلف الثقافات والشعوب والأزمنة والحقب التاريخية.
فلذا أرى مثلًا أن كتاب كليلة ودمنة الذي نقله ابن المقفّع إلى اللغة العربية، وصاغه تصرّفًا بأسلوبه الأدبي، هو كتاب عالمي بامتياز، إذ تتضمن أبرع الصور الإنسانية والمظاهر الاجتماعية للتعبير عن أحوال العصر جاءت على ألسنة الحيوانات والطيور كشخصيات رئيسة
وقد استخدم المؤلف الحيوانات والطيور كشخصيات رئيسية فيه، لتعرض عددًا من القضايا الإنسانية أبرزها العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بالإضافة إلى عدد من الحِكم والمواعظ
وقد ترجم الكتاب إلى معظم لغات العالم السريانية والفرسية والإسبانية والعبرية والإيطالية والألمانية.
كما قام جان دو لا فونتين الكاتب الفرنسي بترجمة الكتاب إلى الفرنسية وأقرّ أن أعماله مستوحاة منه.
وما نراه في عالمية كتاب كليلة ودمنة يمكننا أن نسحبه على كتاب ألف ليلة وليلة
الذي تُرجم أيضًا إلى معظم لغات العالم، وتأثّر به كبار رجال الفكر والأدب، واستلهموا منه أجمل ما كتبوه من نصوص إبداعية. ففي فرنسا وحدها على سبيل المثال، أكّد فولتير على أهمية كتاب ألف ليلة وليلة حين قال: “لم أصبح قاصًا إلا بعد أن قرأت ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرة”. أما الناقد والروائي الفرنسي ستندال فقد أعجب به إعجابًا شديدًا وتمنى أن يصاب بفقدان الذاكرة حتى يعيد قراءة حكايات ألف ليلة وليلة، ويستمتع بها كما استمتع بها في أول قراءة لها، ويؤكد أناتول فرانس أنّه تتلمذ على حكايات ألف ليلة وليلة قبل أن يكون أديبًا.
ومن أجل كسر احتكار التصنيف العالمي وأحاديثه فقد تشكل موقف رافض وبادر الكثير من الجهات إلى تأسيس أكاديميات جديدة، محلية أو قومية لتقوم بمنح جوائزها أيضًا بهدف التحرّر من الشكوك المحيطة بنوبل فنشأت على سبيل المثال: الجائزة العالمية للرواية العربية “بوكر” وجائزة كتارا للإبداع العربي والتي تمنح جوائزها تحت إشراف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وجائزة كونكور الفرنسية وجائزة رينودو الأدبية وجائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة الأدب العربي التي يمنحها “معهد العالم العربي في باريس”، ومؤسسة جان لوك لاغاردير، وجائزة نجيب محفوظ للأدب وجائزة الطيّب صالح للإبداع الكتابي وجائزة معرض الشارقة الدولي للكتاب ….
- ما الرواية العالمية التي أثارتك ثقافيًا وجماليًا
الرواية العالمية بامتياز كما أصنّفها، مع أنها حرمت من جائزة نوبل للآداب بحجة يسارية كاتبها، والتي تسنّى لي قراءتها مبكّرًا، مترجمة إلى العربية، (عوض شعبان)، وما زالت أصداؤها ترنّ في ذاكرتي وترسم خطوط مساري الثقافي الإنساني، وتجسّد صراع الإنسان التاريخي مع أدهى عدو يقهره ويستعمره ويضطهده ويسلبه أحلامه وإرادته وكرامة عيشه، وهو الجوع.
إنها رواية دروب الجوع. رواية الفقراء والمعذّبين والمقهورين، التي كتبها الروائي البرازيلي والمناضل الكبير جورج أمادو، (توفي ٢٠٠١)، في فترة نمو الفاشية العسكرية والديكتاتورية، واستطاع برواياته اختراق حدود وطنه ليخاطب شعوب العالم من خلال هموم شعبه ومآسيهم.
وصفته مجلة “التايمز” الأميركية بـ”جوهرة البرازيل السوداء”، وصُنف ضمن أهم الكتاب الذين ترجمت أعمالهم إلى أكثر عدد من اللغات في العالم، فقد ترجمت رواياته إلى ثمانٍ وأربعين لغة وبيع منها ما يزيد عن 20 مليون نسخة ونشرت في 55 بلدًا. وقيل عن رواياته إنها “الروح البرازيلية التي عمّت العالم مع السامبا والقهوة.”
كتب أحد النقاد فقال: “عالم جورج آمادو مزدحم بالناس والأشياء، زاخر بالأفكار والأحلام، والسياسة والعلوم والآداب والفنون، كلها عالمه المضيء بالنفس البشرية، بالروح المتوثبة نحو الاستقرار الذهني. ورسالته في الحياة أن يكتب عن جميع الناس وكل الاشياء وقد توحّد عنده الناس والموجودات فإذا هو عالمه الرحب.”
ومن أجل هذا تخلى جورجي آمادو عن السياسة لأنها حالت بينه وبين الكتابة. ويقول في هذا الصدد “قررت التخلي عن النشاط السياسي كنائب، وأخذت أخوض المعارك السياسية من خلال الكتابة. فالكتابة أهمّ ما في الحياة.”
كان كل همّه إنصاف البشر المغلوب على أمرهم عن طريق التغيير. ومناهضة العبودية ومكافحة الظلم الاجتماعي، فلذا كان مناصرًا للجياع وللتيار الاشتراكي ومعارضًا شرسًا للرأسمالية الأميركية الاحتكارية والتي تسبّب الجوع للعالم كله.
وتجلت مبادئ أمادو كلها في الزخم الشعري، في خلق الشخصيات كرموز ونماذج وفي أسلوبه الأخّاذ وقوته التعبيرية المصوّرة.
ورواية دروب الجوع تجسد إبداع أمادو في رصد حياة المزارعين البسطاء ومعاناتهم من خلال حبكة بسيطة تتمثل في الرحلة التي يجتازها سكان إحدى المزارع باتجاه حلم غير مضمون.
ومن خلال هذه الحبكة تتوالى أحداث الرواية لتصور تفاصيل وقائع وهموم الحياة اليومية لهؤلاء المزارعين البسطاء وذلك من خلال التحوّل الذي يطرأ على الشخصيات، فمن يسكنه حلم امتلاك أرض يعود نتاجها لعائلته يتحوّل إلى قاتل، والمرأة الكريمة الحكيمة تتحوّل إلى إنسانة أنانية، والفتاة البريئة إلى غانية، وكل هذا نتيجة تحكم فرد واحد بسكان مزرعة أو قرية، إذ بقرار واحد من المالك يؤول مصير عدد كبير من البؤساء إلى التشرد والتيه والدمار إن لم يكن الموت. ولا يغفل أمادو عن تصوير تلك الفئة من البشر التي ينحصر دورها كوسيط بين الفرد والأتباع، كما يبيّن دورها في تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب لمصلحتها الشخصية مستفيدة من الطرفين.