(القيت في الحفل الذي أقامه الشاعر خالد عبد الباقي في صالة شاتو رويال في لافال، لمناسبة توقيع ديوانيه الشعريين، بتاريخ 28/10/2018)
د. علي منير حرب
أيتها الصديقات
أيها الأصدقاء في الشعر والأدب والثقافة
أحييكم جميعًا،
جميل أن يهيم الأدب بالحياة، والأجمل أن تستجيب الحياة لهمسات الأدب، فتمده بمصل الزمان وتمسحه بزيت البقاء، فالأدب للحياة جمال، والحياة للأدب خلود، وما أجمل الحسن والخلد إذا اقترنا.
وها أنت يا خالد، تزرع الحسن وتحصد الخلد في شعرك المجدول بالجمال والحب والصفاء.
كلما حضرت أمسية من أمسيات الأدب والثقافة، أشعر بفرح غامر، وكأنني من المحظيين الذين منحهم الله نعمة الدخول إلى حديقة من حدائق الآلهة.
إلى روضة من رياض الجنة… إلى مدينة الفرح
قد لا تكون المدينة الفاضلة لكنها بالتأكيد قريبة منها في بهائها وروعتها.
لا حقد فيها ولا حسد ولا رياء ولا بغضاء، كل ما فيها جمال وسمو وحب في الله.
حب في الله على حد قول صديقنا الأديب والمفكر أسامة أبو شقرا.
وكلما التقيت ثلة من الشعراء أغتبط وأسعد لأنني سأكون في حضرة “الزمرة المقدسة” كما يصفونها، والتي وهبها الله جانبًا من صفة الخلق، يضيف إلى معرفة الإنسان بالإنسان ما لا تقدّمه كل العلوم مجتمعة ومتفرقة.
الشاعر الألماني الكبير فريدريش هولدرلن قال ذات يوم عن “الزمرة المقدسة”:
لقد كان الليل والصقيع خليقين أن يسودا الأرضين
وكانت الروح خليقة أن تجهز على نفسها، أن تنتحر
لولا أن الإله الرحيم لم يبعث من حين إلى آخر بمثل هؤلاء الفتيان لتنتعش الحياة الذابلة
لينتعش الإنسان!…
وأتساءل بدوري، ماذ يتبقى لنا لو غادرنا الشعر وانتفض علينا وتمرد ثأرًا من عزوفنا عنه؟ ماذا يتبقى لنا في هذا العالم غير البشاعة والقباحة والحشيش اليابس.
تقول الرواية، والعهدة على الراوي: إن أول شاعرة وجدت بين مخلوقات الكون كانت أمّنا حواء، لأنها قالت لأبينا آدم: ما أجمل التفاحة! ولم تقل له كلِ التفاحة، وكان سحر كلامها كافيًا ليستغني آدم عن الجنة وما فيها، ويسقط مع محبوبته إلى عالم الدهشة والانبهار.
لمناسبة وفاة المغني والشاعر الغنائي الفرنسي العملاق شارل ازنافور: قال ماكرون هنا في فرنسا لا يموت الشعراء أبدًا.
وقال صديقنا الشاعر والأديب الكبير عقل العويط، للمناسبة: ترى، كم كانت فرنسا لتفقد الكثير الكثير من مهابتها ومن مكانتها في عالم القيم، في الإنسانيات، في العقل، في الروح، في الثقافة، وفي معنى الوجود نفسه، لولا الشعر؟
ونعود إلى شاعرنا خالد،
ما أعياني البحث وأنا أفتش عن خالد في طيات قصائده، فوجدته أنيقًا ساميًا في لغته ومفرداته، ووجدته رفيعًا سامقًا في أفكاره ومعانيه، ووجدته شامخًا كبيرًا في علاقاته الأسرية وصداقاته، ووجدته أصيلا شريفًا في تجذره في وطنه وقريته وانتمائه العربي الكبير، ووجدته عبقريًا فذًا في بلاغته وبيانه وبديعه.
والأجمل من هذا كله، أنني وجدته إنسانًا مسكونًا بالتوحيد ومنصهرًا في مطهر الإيمان حتى الذوب.
إن وصف أدهشك، وإن مدح رفعك إلى حب الممدوح وصفاته، وإن رثى أبكاك وأدماك، وإن افتخر إستولد فيك روح التوق إلى معارج السؤدد والنصر.
خالد في ديوانيه الجديدين، يغرف من بحر جرير وينحت من صخر الفرزدق في آن واحد، إنه فريد ذاته في إتقان توظيف الحسنيين معًا موهبته وصناعته الشعرية، ليصوغ قلادات ثمينةً خالدة.
هذا هو خالد عبد الباقي في ديوانيه، اللذين يأخذان القارئ، بدءًا من عنوانيهما، وحتى آخر نقطة في صفحاتهما، إلى عالم جميل جميل ينضح بالعطر والشهد وروح الإنسانية العالية.
لا أدري، يا صديقي، هل أهنئك على ما أبدعت أم أهنئ من قمت بتكريمهم وتخليدهم في ديوانيك التوأمين المولودين من رحم لغتنا وموازين شعرنا الذي كان وسيبقى ديوان حياتنا وتاريخنا مهما تطاول عليه العاجزون والمتسلقون والمتهافتون على أبوابه.