الرئيس ماكرون: إمّا أنك لم تقرأ أو أنك تنكّرت!؟
د. علي منير حرب
25/10/2020
“لن نتخلى عن الرسوم الكاريكاتورية وإن تقهقر البعض”.
هكذا صرّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حفل تأبين المعلم “صمويل باتي” الذي قُطِع رأسه في أحد شوارع العاصمة باريس” بسبب عرضه على تلاميذه رسومًا كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد (ص).
وأضاف الرئيس ماكرون أمام حشود في جامعة السوربون: “لا شيء يجعلنا نتراجع أبدًا. نحترم كل أوجه الاختلاف بروح السلام. لا نقبل أبدًا خطاب الحقد وندافع عن النقاش العقلاني. وسنبقى دومًا إلى جانب كرامة الإنسان والقيم العالمية.”
وأضاف أيضًا: “صمويل باتي قتل لأن الإسلاميين يريدون الاستحواذ على مستقبلنا، ويعرفون أنهم لم يحصلوا على مرادهم بوجود أبطال مطمئني النفس مثله…سنبقى نعلّم الأدب والتاريخ والموسيقى والفكر…وستبقى رمزًا للحرية.”
بداية، إننا نرفض ونستنكر وندين هذه الجريمة الشنعاء التي ارتكبت بحقّ المدرّس الفرنسي.
كما أننا نشارك الرئيس ماكرون والشعب الفرنسي غضبهما وثورتهما ضدّ هذه الأعمال الإرهابية الوحشية التي تتنافى مع روح كل الديانات السماوية والنظم والقيم الأخلاقية والاجتماعية والقانونية، والتي لا يمكن أن تؤسس للتلاقي والحوار والتآخي بين الشعوب.
لكننا نتساءل:
ألم يحسب الرئيس ماكرون، مغبّة وتداعيات تصريحه الانفعالي هذا، وأبعاد ارتداداته على عالم إسلامي يضمّ أكثر من مليار نسمة، وفي أجواء عالمية تضجّ بالتطرّف والإرهاب والقتل، وهو من هو، رئيس دولة كبرى، وحفيد ثورة نهضوية نورانية فتحت عيون العالم على قيم “الحرية والإخاء والمساواة”؟
ألم يتفكّر قليلًا ليختار عباراته وينتقي ألفاظه، بعقلانية وروية وحكمة، وهو رئيس دولة يخاطب العالم كما يخاطب شعبه وأهل أستاذه القتيل، وليس زعيمًا حزبيًا أو قائدًا لفصيل ثوري يحرّض أتباعه للانتقام والإيغال في التعدّي على الحرمات والمقدّسات وحريات الآخرين؟
هل كان يظنّ الرئيس ماكرون أنه، وبمنطق استفزازي مثير، على غرار مناهج الصليبية الآفلة، والدواعشية الحاضرة، يمكنه أن يحافظ على صورة فرنسا القوية، ومصالح فرنسا الواسعة، وعلاقات فرنسا الدولية، وصورة النظام الذي لا يخضع لموجة الإسلاموية المتطرّفة، ويشفي غليل الشعب الرافض لأعمال العنف ومشاعر الكراهية؟
يبدو واضحًا أن الرئيس “المنفعل والعصباوي والغاضب”، لم يقرأ التاريخ جيدًا، هذا من جانب، ومن جانب آخر أنه يتنكّر لكل مبادئه وشعاراته.
أما من حيث التاريخ، فإنه يبدو أن الرئيس ماكرون لم يطلّع على أن أول ترجمة للقرآن الكريم كانت بالفرنسية ظهرت سنة 1647، على يد “أندري دي ريور”، ثمّ تلتها في سنة 1925 ترجمة “إدوارد مونتيه”، وفي العام 1949 ظهرت ترجمة “ريجيس بلاشير”. فهل قرأ الرئيس ماكرون في أي من هذه الترجمات ما يشي أو يوحي بأن القرآن والإسلام يدعوان إلى الاستحواذ على بلاده؟ أم أنه هكذا استطاع أن يفهم حكمة مواطنه الدكتور روجيه غارودي في كتابه “إن الإسلام يسكن مستقبلنا”.
ومن حيث التاريخ أيضًا، هل قرأ الرئيس ماكرون ما قاله غارودي عن الإسلام والمسلمين وعن النبي محمد (ص) ودعوته للإخاء والتسامح والتعاطف؟
وقبل أن يعلن الرئيس ماكرون إصراره على “متابعة تعليم التاريخ والفكر والأدب…” والتي يبدو أنه يفهم هذه الفنون على طريقته المزوّرة الخاطئة والحاقدة، فهل قرأ لغارودي قوله: “إن كل تربية وكل فن وكل سياسة لا تساعد على إدراك لما هو إنساني حقًا في الإنسان، إنما تقودنا إلى إنتحار كوني شامل.”
هل اطلع الرئيس ماكرون على ما أكّده المستشرق الإنكليزي هاملتون جب من أن “التعاليم الاجتماعية التي جاء بها محمد في أساسها إعادة لإحقاق المبادئ الأخلاقية التي تشترك فيها ديانات التوحيد، فازداد ترسيخ معني الأخوة، ما جعل الجميع سواسية من حيث القيمة الشخصية الفطرية، دون النظر إلى مكانتهم الدنيوية، ووظائفهم وثرواتهم.”
وأما في التنكّر للمبادئ والخطاب، فكيف يفسّر الرئيس ماكرون، الذي يرفض التطرّف والإرهاب والحقد، قوله إن “صمويل كان بطلًا”، عندما تجاوز كل حدود حريات التعبير ليعرض على طلابه رسومًا مسيئة ومدانة للرسول العربي (ص). فهل هكذا تكون بطولات الرأي و”احترام أوجه الاختلاف بروح السلام ورفض خطاب الحقد” على حد قوله؟ كيف تريدنا أن نترجم تعليلك هذا، يا سيد ماكرون، في عالم التربية والتعليم، حيث تتحوّل الرسالة التعليمية إلى معرض للسخرية والاستهزاء من الرموز الدينية والشخصيات التاريخية داخل الصفوف وبين الناشئة؟ أم هكذا دأبتم على بثّ السموم والأحقاد في مدارسكم ومعاهدكم التي تفضّلتم بنشرها لتثقيف مستعمراتكم؟
وهل لمس الرئيس ماكرون مرة، في علاقاته مع الدول الإسلامية، وفي قراءاته عن الإسلام أي إشارة يمكن أن يستخلص منها إساءة إلى السيد المسيح أو إلى أحد الرسل والأنبياء وإلى كرامة الإنسان والقيم العالمية؟
وهل وقع لحظة على رسم كاريكاتوري أو خطاب يسيء إلى السيد المسيح أو السيدة مريم العذراء أو قيم الإنسان العالمية؟
لقد قمت قبل شهور، أيها السيد الرئيس، بتقليد الروائي والكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف وسام الاستحقاق الوطني، وهو ثاني أعلى درجة في الجدارة تكريمًا وتقديرًا “للجدارة والتميّز” لمن “يمثلون الروح المدنية لفرنسا” كما يشير الوسام.
وبالتالي، هل تعتقد أيها الرئيس ماكرون أن خطابك كان رئاسيًا لدولة كبرى؟ وهل تعتقد أنك نجحت في الدفاع عن “الروح المدنية لفرنسا”؟ وعن حرية التعبير وحق الاختلاف والخطاب العقلاني والسلام في العالم؟
وهل تتساءل وتستنكر بعد ذلك ما أثارته خطاباتك ومواقفك من دعوات لمقاطعة البضائع الفرنسية في بعض الدول الإسلامية والعربية؟ أو باتهامك بأنك أمعنت في الإساءة للإسلام والمسلمين بعامة؟ وبأنك كشفت عن “سريرتك القبيحة وإصرارك على نشر الرسوم المسيئة لأشرف الخلق”؟ وبأنك “تغذّي التطرّف”؟ وبأنك “بحاجة إلى فحص قواك العقلية”؟ وبأنك أسأت لفرنسا ومصالحها وعلاقاتها؟ وبأنك تثير الشكوك بأن تنطّحك ومسارعتك للحضور إلى الأرض التي استعمرها أجدادك، لم يكن بدافع إطلاق المبادرة لخلاص لبنان، إنما بدافع إحياء ذكرى ما زرعتموه في كل مناطق استعماركم، من لبنان إلى الجزائر إلى سائر إفريقيا، من حقد وكراهية وضغائن بين شعوبها؟
ألم تشعر، أيها السيد الرئيس، أنك من موقعك كرئيس لدولة عظمى في العالم، قد أخذت المذهب بجريرة صاحبه، وأنك اتهمّت الإسلام ونبيّ الإسلام لمجرّد أن من قام بجريمته ينتمي إلى الدين الإسلامي؟ وهل على رؤساء الدول الأخرى، كبيرهم وصغيرهم، أن يجاروك ويبادلوك باتهام المسيحية لمجرد اعتداء بعض المسيحيين في فرنسا، على الطالب الأردني وشقيقته بسبب نطقهما باللغة العربية؟
هذا ما حصده خطابك من إثارة حفيظة الشارع الفرنسي، وما قد يترتّب عليه من ردّات أفعال من جاليات إسلامية فرنسية في بلادكم، أو من إعطاء المبرّرات للجهات المتطرّفة الإرهابية للنيل من استقرار المجتمع الفرنسي وسلامه.
أيها السيد الرئيس، في المواقف المفصلية التاريخية تتبلور دخائل الشخصيات وتنجلي نواياهم أمام العيان. وقد علمتمونا في ثقافتكم الفرنسية أن (ندير لساننا سبع مرات في فمنا قبل أن نتحدّث).
Il faut tourner sept fois sa langue dans sa bouche avant de parler))
فلماذا لم تطبّق الحكمة لتنطق بكلام عادل وحكيم وعقلاني يساهم في مسح الجراح ويطفئ نيران البغضاء والكراهية، حتى تبقى رمزًا لفرنسا “الحرية والإخاء والمساواة”؟