اليهود في الأندلس: عصر ذهبي في ظلّ الحكم العربي

“اليهود في الأندلس: عصر ذهبي في ظلّ الحكم العربي”

محاضرة ضمن حلقات برنامج “تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي”، الذي ينظمه المركز الثقافي العربي الأميركي، برئاسة الدكتور السفير علي عجمي، وإشراف  الأستاذ وسام شرف الدين.

الحلقة الرابعة – السبت في السادس من يناير / كانون الثاني 2024

د. علي منير حرب

كندا – كيبيك

فيما يتصاعد طوفان الدم والدمار في غزة والضفّة وما يحيط بهما، ويمتلئ جوف الأرض وظهرها بجثامين القتلى المتحاربين والضحايا الأبرياء. وفيما يقف العالم، على شفا كارثة جديدة من فوضى الفناء، بات من طوارئ العمل المطلوب فورًا، التقاط ما يمكن من أنفاس متحشرجة، تحاول أن تلفظ كلمة سواء توقظ الإنسان المنحدر نحو الهمجية، وتتعلق بخيوط متهالكة من الأمل، لتسحب مواقع الصراع من الساحات إلى العقول، ومن البارود إلى الحوار، ومن زعيق الإبادات سحقًا أو إغراقًا، إلى زاوية مهما ضاقت، تبقى فرصة اللحظة الأخيرة للتلاقي عند حدود التعلّق بالحياة.

في ورقتي التي أعرضها اليوم، تحت عنوان “اليهود في الأندلس”، لن أنحو المنحى التاريخي لأعيد سرد الحكاية الأندلسية، والانتصارات والهزائم التي شهدتها، وليس الغرض منها التأريخ للحضور اليهودي فيها، ولكن ما أهدف إليه فعلًا، هو كشف الحقائق المغيّبة، لإعادة تشكيل الوعي الثقافي لدى العرب واليهود، وتسليط الضوء على الحقب التاريخية العريقة التي جمعت الشعبين معًا، كونهم شركاء في التوحيد، وشركاء في الأصل والمنبت واللغة والثقافة، وشركاء في الأرض والتاريخ، ولكي أجمع منها ما طرحتْه من دروس وأمثلة وشواهد، تقودنا إلى مساقط الضوء في ظلمات النفق، نتلمّس بها درب المخرج، ونفتح ثغرة في جدار الأحقاد، لإمكانية التخاطب بين الأخوة الأعداء، والأعداء غير الأخوة، وآخرين مأسورين وراء هذا الجدار.

قد يتراءى للبعض أن الحديث عن الأندلس، في مثل هذه اللحظات المأساوية الخطيرة، هو ضرب من الترف الأدبي، غير المسموح به، في وقت لا صوت فيه يعلو فوق صوت المعركة، ولا حديث يُقبل خارج إطار الاصطفاف السياسي، ولا رأي يطرح من دلو من غير دلاء الزيت المؤجّج للنار.

لكن ما دفعني إلى هذا الاتجاه، هو أننا نعرض أفكارنا في رحاب مركز ثقافي بدرجة أولى، وعلى منبر عربي أميركي معني بهذا الصراع بدرجة ثانية، وبين نخبة من المتنوّرين المؤرخين والباحثين والمحلّلين المهمومين في التفتيش عن إبرة خلاص ثقافية بين أكوام القش المتكدّسة، يحفرون بها طريق التعايش، وقفًا لحمامات الدماء، وحماية لانهيار آخر أسوار القيم والديموقراطيات والحريات والمؤسسات الدولية المتهالكة.

في الوقائع:

يصعب على الباحثين والمؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا، أن يعثروا على شعب نظير للشعب اليهودي، بما عاناه من الشتات والتبعثر.

ويصعب كثيرًا، على أي دارس لموضوع الصهيونية، بحلّتها القديمة أو الجديدة، والتي حملت أغلب الشعب اليهودي إلى ذروة التزمّت والتطرّف، أن يقارب هذه البدعة – كما يسميها روجيه جارودي – من غير أن يستند إلى أصولها المشحونة بالأساطير والخرافات.

ويصعب على أي باحث سياسي أن يسجّل مسألة تاريخية، توازي المسألة اليهودية، التي شغلت العالم وأقلقته وشكّلت استراتيجياته وعلاقاته.

مدخل لا بد منه:

-1 اليهود بين الشَتات والدولة

نشأ الشتات اليهودي الأول في مصر في القرن الأخير من الحكم الفرعوني، والذي يشير إلى نزوح اليهود خارج أرض أجدادهم واستقرارهم لاحقًا في أجزاء أخرى من العالم، حتى أصبح بنو يهوذا يعرفون باسم “اليهود”.

ويلفتنا في مسألة الشتات، منذ التهجير الأول الكبير وما تلاه  من النفي الأشوري والبابلي والسلسلة الطويلة من النزوح القديم والحديث، شيوع مصطلحات شتى دخلت في الأدبيات اليهودية، وهي النفي والطرد والسبي والخروج، والتي تحمل جميعها مفهوم الترحال وعدم الثبات والاستقرار ضمن حيّز جغرافي واحد، أو مجتمع مؤسساتي بمفاهيم الدولة بكيانها التاريخي والسياسي والجغرافي، إلى درجة لم يعد فيها وجودهم في الشتات يعنى النفي من أرضهم، بل كانوا باختيارهم يعيشون وسط أمم العالم. وقال مؤرّخهم السياسي، الكاتب اليهودي “فلافيوس جوزيفاس”، في كتابه “حروب اليهود”: “إنه لا توجد أمة في العالم لا يوجد فيها شتات من اليهود…”

وتدلّ هذه المصطلحات أيضًا على المواجهات المستمرة مع الجهات المستقبِلة لهم ورفضهم واضطهادهم وتعريضهم لأبشع ممارسات التمييز والكراهية والطرد والقتل. إضافة إلى ما أثارته هذه القضية من سجالات عميقة بين الفئات اليهودية نفسها، التي انقسمت ما بين مؤيد للحركة الصهيونية الداعية لإنهاء مسلسل الشتات وتجميع يهود العالم في وطن قومي على أرض الميعاد فلسطين، وبين معارضين لهذا التوجّه والذين يعتقدون أن التشتت أمر إلهي مصيري لا تجوز مخالفته، لأنها تمثّل بداية النهاية للوجود اليهودي على هذه الأرض.

في كتابه “معجزة جمع الشّتات: قوّة اليهوديّة الإسرائيليّة”، الصادرِ عام 2011، للمؤلف الراب “يوئيل بن نون”، الذي يعتبر أحد أبرز رموز التّيّار الدّينيّ الصّهيونيّ، يقول في مقدّمته: “أنا صهيونيٌ أؤمن بتوجُهي، يهوديٌ إسرائيليٌ في هويتي، أنا أؤمن أن الصهيونية لا تسمح بأيّ شكل من أشكال الفصل بين يهوديتي وإسرائيليتي، وهي التفسير الكامل والصحيح لتوراة موسى وأقوال حكمائنا، وهي تجسيد لأشواق الآباء.”

مقابلَ ذلك، في أواخر أيار 2022، نشر الكاتب الإسرائيلي مايكل بريزون مقالة في جريدة هآرتس الإسرائيلية، بعنوان: “آن لنا – نحن اليهود – أن نعود للشتات.” بدأها قائلًا: “أنا يهودي منفيّ وفخور. أنا مواطن عالمي وليس لدي أي ارتباط مع مسقط رأسي الجغرافي. والأرض، بالنسبة لي، هي مجرد قاذورات يُزرع فيها الطعام ويُدفن فيها الناس، وليست لها أدنى ذرة من القداسة، ولا تستحقّ أن تُسكب من أجلها نقطة دم واحدة”. وإن الشعب اليهودي أولًا وقبل كل شيء “ناجح في أن يكون شعبًا، وعندما نتحوّل إلى أمة، نكون فظيعين للغاية، وسرعان ما نصبح أغبياء وعنيفين وجشعين مثل معظم دول العالم الأخرى.”

-2 اليهود في العهد العربي الإسلامي

العرب واليهود ليسوا غريبين عن بعضهم البعض. فما هو ثابت في الوثائق والآثار، أن الجاليات اليهودية استقرّت في منطقة الجزيرة العربية، لا سيما في الحجاز واليمن، منذ زمان طويل يعود إلى عصر مملكة داوود قبل ألف عام من الميلاد، والبعض يعود به إلى عهد موسى. ويقال إن يهود اليمن هم أقدم يهود العالم.

كان اليهود في جزيرة العرب عربًا في كل أحوالهم وعاداتهم وتقاليدهم وأشعارهم، حتى ليصعب تمييزُهم عن العرب، إلا في بعض الأمور العقيدية التي فرضتها أو حرّمتها عليهم ديانتهم.

يقول المستشرق اليهودي “إسرائيل ولفنسون”، في كتابه “تاريخ اليهود في بلاد العرب”: “ولا أعلم في تاريخ اليهود القديم إقليمًا تأثر فيه اليهود بأخلاق وعادات وتقاليد أبنائه إلى هذا الحدّ، سوى إقليمِ الجزيرة العربية.”

وكان لليهود تجمعات في جنوب شبه الجزيرة العربية، وكانت يثرب (المدينة المنورة) تضم تجمّعًا يعدّ من أكبر تجمعات اليهود في شبه الجزيرة، كما كان لهم تجمعات في المدن العراقية والسورية الكبرى.

ولما دخل الإسلام، بدأ عهده مع أهل الكتاب، واليهود تحديدًا، بعهود ومواثيق، حفظًا لهم ولمصالحهم، وعاملهم بالحسنى والعدل والمساواة، وأبقى لهم الحظوة والحماية، تطبيقًا للنصوص القرآنية العديدة بهذا الخصوص.

ومن سيرة الخلفاء الراشدين ومن بعدهم في مختلف العصور الإسلامية، تتضّح سماحة الإسلام  ومواقف العلماء المسلمين في التعامل مع اليهود، حيث أبقوا لهم مكانتهم، فشاركوا العرب في حياتهم الاقتصادية والمالية والإدارية والأدبية، ما جعل الحكّام يفوّضون إليهم المناصب العليا في المراكز المختلفة.

اليهود في الأندلس

الأندلس…الفردوس العربي الإسلامي المفقود، هي نسخة متقدّمة لامعة للعلاقات والتعايش بين العرب واليهود، بل هي منارة في تاريخ البشرية كلها: حيث كانت مصدر العلم والمعرفة في الأرض لقرون طويلة، تعلّمت منها أوروبا كلّها، دروسًا في الحضارة والمدنية، فبلغت أوج الرقيّ والازدهار.

كانت الأندلس مملكة عربية تضجّ بأنوار العلم والثقافة والغنى. هي مملكة كما سمّاها شاعر غرناطة الكبير “غارسيا لوركا”، الذي نشأ مفتونًا بتاريخ الأندلس. سأله احد أصدقائه الرسّامين: “أتظنّ يا لوركا أنها كانت لحظةً سعيدة تلك التي غادر فيها آخر ملوك العرب أبو عبد الله الصغير مدينة غرناطة؟” فأجاب: “لا. أبدًا. لقد كانت كارثة…لقد توارت حضارة متألقة…غابت مدينة رائعة لتصبح غرناطة مدينة ضئيلة فقيرة.”

وحين حاول أحدهم، وهو في أميركا، التهكّم عليه بسؤاله من أين أنت قادم؟ أجاب بخيلاء وكبر: “إنني من مملكة غرناطة.”

لليهود في الأندلس حكاية رخاء وازدهار وأمان ونفوذ، لا تقل أبدًا في فصولها عن الحلم الكبير الذي عاشه العرب. ففي أحضان هذا المجتمع عاش اليهود ثمانية قرون هي من أزهى العصور في تاريخهم، حيث كان لهم النصيب الأوفر من النعم والخيرات. ولو سألت أي يهودي منصف عن العصر الذهبي لليهود، عبر كل الحقب وبين كل الشعوب التي عاش معها في عهود الشتات، لما تردّد في أن يقول إنه العصر الأندلسي. التسامح الذي عرفوه في ذلك العصر ما عرفوا قبله ولا بعده أوسع منه.

قبل دخول العرب إلى إسبانيا، كان اليهود هناك بالآلاف، ومنذ أزمنة طويلة. وقد ذاقوا – تحت حكم المسيحية المتطرّفة – أشدّ انواع الظلم والقهر، وحُرموا من أبسط حقوقهم. وكانوا مكروهين ومضطهدين، وكان الأشدَّ قسوة عليهم القوط الكاثوليك، إذ استعملوا طرقًا عديدة لإجبارهم على التنصّر، وعندما فشلوا حوّلوهم جميعًا إلى عبيد لهم.

إن أقدم وثيقة وصلت إلينا، وتعبّر عن موقف نصارى الأندلس من يهودها، هي تلك القوانين الأربعة الصادرة عن مجلس إلبيرة  (E L V I R A)، الذي عقد بين سنتي 3 0 3 – 4 0 3 م.

جاء في القانون 16: “لا يجو ز تزويج الفتيات الكاثوليكيات لا لليهود ولا للكفرة، وإن الآباء الذين يخالفون هذا القانون سيتم طردهم من الكنيسة لمدة خمسة أعوام”.

وفي القانون 49: “يجب تذكير مالكي الأراضي بعدم السماح لليهود بمباركة المحاصيل التي رزقهم الله بها، وذلك من أجل ألا يقوم اليهود بإضعاف تأثير بركات الرهبنة النصرانية، وكل من يتجرأ على انتهاك هذا الحظر سوف يطرد من الكنيسة كليًا”.

وفي القانون 50: “إذا قام أي امرئ، سواء أكان من رجال الكنيسة، أم من بقية المؤمنين بتناول الطعام مع اليهود، فسوف يحرم من رعايتنا، إلى أن يقوم بالتكفير عن ذنبه”.

يقول الدكتور “محمد بحر عبد المجيد”، في كتابه “اليهود في الأندلس”: “والحقيقة أن الشعوب الأوروبية لم تضطهد اليهود نتيجة للتعصب الديني. ولكني أرى أن اليهود هم الذين أجبروا مواطنيهم من الأوروبيين على اضطهادهم نتيجة لاعتقادهم أن جنسهم أفضل أجناس الأرض، ويحق لهذا الجنس أن يحتقر غيره من بني البشر.”

وأخذت هذه القوانين مفاعيلها بحدّة أكبر بعد اعتناق الملك “ريكاردو” المسيحية، فقد كان يكره اليهود، وتقدّم في آخر أيامه إلى المجلس الكنسي الذي انعقد في طليطلة عام 589 م باقتراحات تتلخّص بما يلي:

-منع استخدام اليهود للمسيحيين في أي نوع من أنواع الأعمال.

-فصل كل اليهود الذين في خدمة الحكومة وعدم تعيينهم مستقبلًا.

-منع الختان الذي كان يفرضه اليهود على عبيدهم وخدمهم.

-ضرورة تعليق اليهودي شارة مميزة في مكان ظاهر حتى يعرفه الجميع.

ولما وجد المسيحيون أن اليهود لا يقيمون عهدًا ويكنّون للمسيحية عداء أزليًا أصدر الملك “إيجيكا” أمرًا بمصادرة أملاكهم وتوزيعها على المسيحيين، وظل اليهود عبيدًا للمسيحيين إلى أن دخل المسلمون الأندلس 711 م.

هذا ما كانت عليه حال اليهود في إسبانيا، قبل الفتح العربي الإسلامي، الذي أنقذهم من العبودية والانقراض. 

يقول الأستاذ الجامعي “عبد الله حسين”، في كتابه “المسألة اليهودية”: “كان من أثر اضطهاد المسيحيين لليهود أن رحبوا بقيام الدولة الإسلامية خاصة في إسبانيا، لأن الحكومات الإسلامية قد جنحت إلى التسامح مع غير المسلمين، وبهذا فلا عجب أنهم كانوا أكثر من رحّب بالفتح الإسلامي، ومن أسرعِ من انخرطوا في الحياة السياسية تحت ظل الدولة الاندلسية، منذ خلافة بني أمية حتى سقوطها.”

ولما استقرّ الأمر للمسلمين في الأندلس، منحوا اليهود حريات كانوا لا يحلمون بها في تلك البلاد التي سامتهم سوء العذاب، فأعادوا لهم أراضيهم وأملاكهم، وسمحوا لهم بالانتشار في مختلف المدن مثل قرطبة وملقا وطليطلة وإشبيلية وسرقسطة وإلبيرا وإليسانة التي يقول “الإدريسي”: “إن سكانها كانوا من اليهود فقط، ولا يداخلهم فيها مسلم.”

وأطلقوا لهم حرية التنقل قي أنحاء البلاد، والسكن في قصبات المدن الأندلسية بعد أن حرمهم القوط من ذلك. وجعلوا لهم أحياء خاصة بهم في مدن الأندلس، وأتاحوا لهم – متى شاءوا – أن يقيموا بين ظهراني المسلمين، مجاورين لهم في مساكنهم.

وأباحوا لهم ممارسة شعائرهم الدينية، وإبداء أفكارهم وبناء بيعهم ومعابدهم.

وذكر المؤرخ والمستشرق اليهودي “إلياهو أشتور”، أن يهود الأندلس “كانوا يحيون أعيادهم ويؤدون طقوسها على طريقتهم الخاصة، حيث يقيمون تلك الطقوس داخل بيوتهم، وفي معابدهم، ويصحَبون أولادهم إلى المعابد، ويجتمعون على موائد الطعام داخل بيوتهم، وعلى الولائم في بعض بيوت أثريائهم.”

وميّزوهم بالاستقلال القضائي، فكان لهم محاكم قضائية خاصة تنظر في مشاكلهم وشؤونهم الدينية. كما كان لهم رئيس للطائفة يسمى “الناسي”، يتولى تعيينه حكام الأندلس، وهو مسؤول أمامهم عن جمع الجزية من اليهود، وتسليمها لهم، وتنظيم شـؤون الطائفة الدينية والإدارية والمالية. 

إضافة إلى كل ذلك، فقد سمحوا لهم بممارسة مختلف النشاطات الاقتصادية والسياسية، وألحقوهم بالوظائف العامة فشغل اليهود الحقائب الوزارية وكان لهم النفوذ الواسع. أذكر لكم شخصيتين بارزتين:

“حسداي بن شفروط” (910-970) م، واحد من زعماء وحكماء اليهود الذين ربطتهم علاقة ودية مع الخلفاء الأمويين، وشغل مناصب عدة في زمن عبد الرحمن الثالث ومنها: طبيب الخليفة الخاص، ومترجم لكتب الطب اللاتينية، ومستشار اقتصادي، ومسؤول عن جباية ضرائب الميناء، واستشاري لقضايا تتعلق بوزارة الخارجية. وبفضل العلاقة التي ربطته بالخليفة والمناصب التي منحت له، قام “حسداي” بتمثيل اليهود في بلاط الحكم، وعُني بحل مشاكلهم المادية والاجتماعية، واستطاع ان يوطّد العلاقات مع يهود الخارج.

وأثناء حكم ملوك الطوائف للأندلس، قام أمير غرناطة “باديس بن حابوس” بتعيين وزير يهودي هو الحاخام “إسماعيل بن يوسف بن النغريلة” (صموئيل هاليفي)، والحقيقة أن “صموئيل” هذا كان هو الحاكم الحقيقي لغرناطة وزعيم يهود غرناطة، التي لقّبها المسلمون آنذاك بغرناطة اليهود.

أما في الجانب الأدبي والعلمي، فقد شهد الأدب العبري أزهى عصوره. فقد قام اليهود في ظل الدولة الاندلسية بإغناء وتخصيب اللغة العبرية، وقد تأثروا باللغة العربية وشعرها كثيرًا. وتذكر المصادر، التي تتحدث عن تطور اللغة عند اليهود، بأن الأندلس كانت “محطة مركزية في تاريخهم”. ومن الملفت للنظر أن في الكتب المنهجية لمادة التاريخ التي تدّرس لليهود، فصلًا بعنوان “اليهود تحت حكم المسلمين”، يُكتب بين قوسين (فترة التسامح والاندماج)، وعند الانتقال إلى مرحلة اليهود تحت حكم المسيحيين، بعد سقوط الأندلس، يُكتب بين قوسين (من التسامح إلى التعصّب.)

وتطول قائمة الأدباء والعلماء والأطباء والبارزين اليهود، طوال الحكم العربي في الأندلس، حيث يصعب علينا سردها في هذه العجالة.

ويذكر “آشتور” أن مفكرًا يهوديًا ولد ونشأ في الأندلس، ينصح ولده، فيقول: “ليكن رفاقَك من إخواننا الأندلسيين فقط، لأنهم ذوو مهارات فكرية وتفهّم ونقاء ذهني.”

في كتاب “يهود الأندلس والمغرب – ج ١” للمؤلف اليهودي “حاييم الزعفراني”، وفي فصل “الحوار المجتمعي والثقافي اليهودي / الإسلامي”، والذي جعله تحت عنوان “الوفاء ومجالات الحوار”، نقرأ ما يلي: “يمكن القول إننا نجد أنفسنا أمام هذا الفضاء الاجتماعي – الثقافي، الذي عمّر أكثر من ألف وخمسمائة عام من التاريخ، في فضاء من التوافقية. حيث كنا جزءًا لا يتجزأ من المشهد الثقافي واللغوي الذي هو ابن الغرب والشرق الإسلاميين من جهة، والعالمِ الأندلسي الإسباني القديم من جهة ثانية. ويحسن بنا أن نضيف وفاء أخر للسلطة الشرعية التي تقود البلاد، والولاء للسلطان الحاكم الذي يكنّ دومًا لرعاياه اليهود، مزيدًا من العطف والتسامح. لقد كان هذا الوفاء المتعدّد للمحيط الاجتماعي، شرطًا ضروريًا لتعايش أقلية يهودية داخل مجتمع متعدّد الأديان ومتنوّع الثقافات.”

هذه هي الأندلس الجوهرة الأغلى في تاج التاريخ العربي والإسلامي.

هذه هي الأندلس، التي قدّم العرب فيها للتاريخ أنصع تجرِبة إنسانية لنموذج الاستقرار والتسامح والإبداع الفعلي، مع أبناء عمومتهم اليهود، والتي لا تماثلها شراكة تعايش أخرى في روزنامة الشتات اليهودي الطويلة، كما كشفت أيضًا – وللمرة الألف – مرض الغرب المتأصل في معاداة السامية، ومناهضتها وكراهية كل من ينتمون إليها وفي مقدّمهم الشعب اليهودي.

ولكن مع الأسف الشديد، ما يزال الطبع اليهودي السادر في غيّه وكيده واستعلائه، يكابر في الاعتراف بهذا الدرس النموذجي، ويناوئه ويدفّع ذريّاته وأحفاد العالم والعرب ضرائب الدم والدمار، لإيغاله في ادّعاء احتكار النخبوية والقداسة الحصرية، كما لا يزال مخدوعًا، بأوهام الأساطير التي تحيكها غيلان الصهيونية، بأذرعها الإسرائيلية والعالمية، لتحويل العالم، بمن فيهم الشعب اليهودي، إلى محارق لا تبقي تاريخًا ولا سلامًا على هذه الأرض.  

وما أن مالت شمس العروبة إلى المغيب في الأندلس، حتى استفاقت عقدة الكيد والحقد والجحود في نفوس اليهود، وبدأوا بمؤامراتهم، التي ما توقفت يومًا، لزرع الدسائس ضدّ من آواهم من خوف وأخرجهم من ذلّ، كما تفجّرت من جديد البراكين الدفينة لمعاداة الغرب للسامية، واشتعلت نيران الكراهية والانتقام، ووقع العرب واليهود جميعًا، ضحايا القتل والاضطهاد والتهجير، تحت مقصلة محاكم التفتيش التي دامت أكثر من مئتي عام.

وتجدّدت ممارسات اضطهاد وقتل اليهود أثناء حروب الفرنجة التي تعرف بالحروب الصليبية، وفي فرنسا والمانيا وروسيا وإيطاليا…

ومن خلال ما تعرّض له اليهود من حظر، أو إجبارهم على البقاء في أحياء مغلقة، أو حمل علامات مميزة على ثيابهم، تشكلت الصورة السوداء التي تولّت الثورة الفرنسية تغييرها، فأعلنت سنة 1791 ولأول مرّة في التاريخ، أن اليهود الذين يعيشون في فرنسا سيعتبرون مواطنين فرنسيين بأتمّ معنى الكلمة، فما كان من الأميرة، شقيقة لويس السادس عشر، إلا أن كتبت مستنكرة: “إن جنون المجلس وصل إلى حدّ اعتبار اليهود مواطنين!”…

وجاءت قصة “درايفوس” في فرنسا، حين قُبض سنة 1894م على ضابط فرنسي يهودي يدعى “ألفريد درايفوس”، بتهمة التجسّس لصالح الألمان، في سياق اشتداد الحملات ضد اليهود، وحُكم عليه بتجريده من رتبته وسجنه مؤبدًا في جزيرة الشياطين، في غينيا المستعمرة الفرنسية.

أثارت هذه القضية جدلًا حادًا في الأوساط الفرنسية، وتحوّلت إلى فضيحة سياسية.

ولم تنته هذه القضية إلّا عندما نشر الكاتب “إميل زولا” رسالة عنيفة مطوّلة في صحيفة باريس بعنوان “إني اتّهم”، أثارت ضجة كبيرة وشكّلت ضغطًا قاسيًا على الحكومة لإعادة فتح ملف القضية. وبعدها بأيام أصدرت مجموعة من المفكرين والأدباء المؤيدين بيانًا حمل توقيعهم ونشرته جريدة “لورور” الفرنسية في 14 يناير 1898، بعنوان “بيان المثقفين”، وأجبروا الحكومة على إعادة محاكمة درايفوس، مرة أخرى، وإعلان براءته. وكان ختام هذه القضية ختامًا لاضطهاد اليهود في فرنسا.

الخلاصة

وما أشبه الليلة بالبارحة!…

من أعماق النكبة الكبرى، والأتون الصهيوني الحارق الذي تعيشه غزة وكل فلسطين، ومن بين أشلاء الأطفال والنساء، وكتم الأصوات الناطقة بالضمير الإنساني، لوقف مجازر الإبادات والتطهير العرقي الذي تمارسه الصهيونية العالمية بحق شعب أعزل يقبع تحت الاحتلال حسب تصنيف الأمم المتحدة، وقتل الشهود الصحافيين الموثّقين لفظائع هذه الجرائم.

بين كلّ هذا الضباب الكثيف، تتبدّى أمامنا التجربة الأندلسية بجلاء، كتجربة إنسانية تاريخية لتلاقي الأديان والثقافات والحضارات وتعايشها بسلام، كما تتبدّى صور عظام الشعوب الأصلية التي قامت فوقها دول العالم الجديد، محمية بـ”عقيدة الاكتشاف”، ويتوالد من جديد بيان “زولا” وزملائه لإعلاء صوت القوة الناعمة فوق أصوات القنابل، مبشّرًا بانبلاج فجر واعد، عبر حركات احتجاج ومظاهرات رافضة تعمّ العالم، وتقودها نخبة من كبار المثقفين الأميركيين والغربيين واليهود أنفسهم، الذين يؤكدون في بياناتهم المتلاحقة أن إسرائيل “تنفّذ عمليًا جريمة حرب في غزّة”، ونعتوها بأنها “دولة أبرتهايد”، وأن ممارساتها الوحشية تنطوي على قيم ومفاهيم خطيرة بات معها من الصعب “أن يكون الإنسان يهوديًا”. ودعوا إلى إنقاذ  البشرية من عصر البربرية والتوحّش الذي تجرّها إليه غطرسة قوة ساعية إلى عولمةٍ صهيونية تُطبِق على النظام العالمي كله.

العالم أجمع ينتظر ويترقّب. وإنني على يقين، أن دماء الفلسطينيين المسفوحة، سوف تكون قربانًا لعصر جديد تسجّل فيه غزة نقطة فاصلة في تاريخ الإنسان الحديث، حتى يقال حقًا: إن ما بعد غزة ليس كما قبلها، ولكن ليس فقط لواقع غزّة، بل لمستقبل العالم.

المصادر والمراجع

-سلسلة أوراق من التاريخ – د. شاكر مصطفى / كتاب: صور أندلسية من التاريخ

-اليهود تحت حكم المسلمين في الأندلس – خالد يونس الخالدي

-اليهود من جزيرة العرب إلى الأندلس – د. قيس كاظم الجنابي

-يهود الأندلس والمغرب ج١ و٢ – حاييم الزعفراني / ترجمة أحمد شحلان

-ملوك الطوائف – نظرات في تاريخ الإسلام – رينهارت دوزي (مستشرق هولندي توفي في مصر – أستاذ العربية)- / ترجمة كامل كيلاني

-الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية – روجيه جارودي / تقديم محمد حسنين هيكل – ترجمة محمد هشام

-اليهود في الأندلس – محمد بحر عبد المجيد

-المسألة اليهودية – عبد الله حسين

-اليهود في الإمبراطورية العثمانية / صفحات من التاريخ – إيرما لفوفنا فادييفا / ترجمة أنور إبراهيم

-الأندلس من الفتح العربي المرصود إلى الفردوس المفقود – د. عصام محمد شبارو

-الشعراء اليهود العرب – مراد فرج (صحفي وشاعر يهودي مصري)العرب واليهود في التاريخ – د. أحمد سوسة.

-تقرير من تل أبيب: “أدباء ومثقفون يهود في الولايات المتحدة: بعد «غزة» من الصعب أن تكون يهوديًا.” نشرته جريدة الشرق الأوسط، بتاريخ 27 ديسمبر /كانون الأول  2023