شاعرة الأرز تفوز بالصادقَين

حفل تكريم شاعرة الأرز والإيمان الصديقة العزيزة

**هتاف سوقي صادق**

مونتريال / كندا –

الجمعة في 2023/09/22.

(قاعة نهاد حديد الثقافية).

 د. علي منير حرب

شاعرة الأرز والإيمان والعروبة هتاف،

قبل خمس سنوات، وتحديدًا في آخر شهر آب / أغسطس من عام 2018، حللت ضيفًا على  منبر صالون هتاف للشعر، في محاضرة كانت بعنوان “مغامرة الثقافة”، ذكرت فيها أن ارتياد فضاء الثقافة هو بمثابة مغامرة شائقة لخوض رحلة نحو عوالم وكواكب مدهشة وغير مألوفة، تكتنفها جرأة واقتحام والتحام واحتمالات كبرى بمواجهة عاتية.

وها أنا اليوم، في حضرة التكريم البهي لسيدة الشعر البهية، أجد نفسي أمام الشعر، كلُّ الثقافة هو وكلُّ المغامرة.

“قرعت باب القوافي هزّني الردُّ          الشعر أقفر لمّا أقفر المجدُ

يا شعر، يا سيّد الأحلام كيف هوت شمس العروبة والأيام تسودُّ؟

أتيتَ والريحَ، خذني في الوغى قلمًا ما أفتنَ الحرف نارًا في الوغى يفدو” 

وفجّرت هتاف كلّ براكين المغامرة، ولمّا يخمد أوارها بعد ولن يخمد بإذن الله.

فيما كنت اتفكّر في الدعوة التي وصلتني لتكريم صديقتنا وشاعرتنا الأخت هتاف سوقي صادق، راودني السؤال للقبض على مفتاح السرّ المفضي إلى هذا التكريم.

مدنها كثيرة وعامرة بالمعالم، وعماراتها الشعرية أبراج ناطحات غمام العبقريات، ومآثرها مرفوعة شواهد في وطننا المعذّب، وأوطاننا العربية المقهورة، واغتراباتنا التي وسعت الدنيا وتحوّلت إلى ساحات مخيمات طوعية وقسرية، تجمع شتاتنا وتلمّ شمل ثقافتنا المبعثر.

وطالت حيرتي للإمساك برأس الخيط لمباشرة فعل الاعتراف، فكل دروب الشعر تقود إليك يا هتاف، وكل أسباب التكريم تتضافر في خصالك، وكل أبوابك مشرّعة صدورها بلا أقفال ولا كلمات سرّ خفيّة.

من أين أبدأ إذن!

وسرعان ما آتاني طوق النجاة، هو الذي كان كامنا خلف كل الأبواب: إنه الإيمان…! نعم الإيمان…لا سرّ بعده ولا سر قبله.

هل أقول الإيمان، مخالفًا لقول الله سبحانه وتعالى في سورة الشعراء: “والشعراء يتَّبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟”

أم أنني أغالط أفلاطون حين قرّر أن يُبعد الشعراء من مدينته الفاضلة لأنهم يشوّشون الفكر ويشاغبون على الآلهة؟

أم أعارض ما قالته العرب بأن أعذب الشعر أكذبه.

وفي فلسفة بسيطة للإجابة، أخترت عنوانًا لكلمتي: إيمانُ هتاف الشعر أنموذجًا لواجب التكريم والتقدير.

أولًا: نكرّمها لأنها المستثناة في الآية الكريمة بقوله تعالى: “إلّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرًا.”

وعهدي بالصديقة هتاف أنها مضمّخة بنعمة الإيمان، الإيمان النقي المتوقّد بلا فتور، لا يفارق ذكرَ الله فؤادُها حتى وهي بين يدي ملاك النوم. ما عرفت لها مُقام لحظة، مذ جمعتنا غربتنا، خارج محراب الصدق والهداية. ما مدحت باطلًا ولا ذمت بالباطل، وما حاد لسانها يومًا، عن الترداد العفوي لعبارة “بنعمةٍ من الله وحمدِه”، في اليسر كما في العسر، في السرّاء كما في الضرّاء. فكانت بنعمة الإيمان الفائضة، من الشاعرات المؤمنات الصالحات اللواتي يذكرن الله قيامًا وسجودًا. 

وثانيًا: نكرّمها، لأننا لا نذهب في مناقضة أفلاطون لنفسِه وأنساق فلسفته، فليس من مبادئ أفلاطون طرد الشعراء وتفريغ مدينته الفاضلة من مناجم الجمال، الجمال ليس بمعناه الحسيّ والمادّي، بل بمعناه الوجداني والقيمي والنفسي، جمال الله وإبداعهُ في خلقه، وجمال الله في محبته، وجمال الله في سعة كرسيه السماوات والأرض. إذ ورد في تراتبيات الجمهورية الأفلاطونية أن الشاعر يتلقى الإلهام من ربّة الشعر والآلهة، وهو وسيطٌ بينها والبشر، وناقل لكلامها…فهو شبيه بالنبي. وأفلاطون نفسه يحلّ هذا التناقض بقوله. “لكنْ علينا أن نبقى ثابتين في حكمنا أن الترانيم إلى الآلهة والثناءات للرجال الشهيرين الفاضلين، هي الشعر الوحيد الذي يجب أن نقبله في دولتنا”، وكانت هتاف إحدى هؤلاء المستثنين المتربّعين على عروش الفضيلة في الدولة الفاضلة.

ونكرّمها ثالثًا لأن مقولة “أعذب الشعر أكذبه”، حمّالة أوجه، وفي كلّ وجوهها مجانبة للصواب والحقيقة: 

فالشعر لا يكون شعرًا إذا لم يبهرْ ولم يثرْ ولم يحفّز. لا يكون أدبًا ولا فنًا إلا إذا تسامى في الأفكار، وترقّى بالحكمة، وحلّق في الخيال، وترقّق في الإحساس، وأبحر في المبالغة، وأبدع في ترويض اللغة وتطويعها، كي يصبح القصدُ أشهى وأمتعَ وأدهش.

فالشعر نبت في حقول الأدب، إن لم يكن أرقاها وأزهاها، والأدب يثبّت العلم، كما قال شيوخ الفقه، وقالوا أيضًا: “لن تفهموا الفقه حتى تفهموا الأدب”.

وإن ما يدّعيه العاجزون عن فن قطاف العناقيد المتلألئة طيبًا وعسلًا، بأنها حصرم الكذب، إنما هو أثواب الجمال وزخرف البهاء التي يضفيها الشاعر على الحق كي لا يبقى هزيلًا  قميئًا كالباطل، وإنما هو رقاع البشاعة والقبح والدمامة التي يلبسها الشاعر للباطل كي لا يتعالى على الحق.

وبقدر ما يبالغ الشاعر في صوره وأفكاره ويجترح في رؤى خياله وغرابتها بقدر ما تنطبق عليه كل صِيَغ المبالغة والبلاغة في أبجديات العالم.

وفي شلاّل شعر هتاف المتدفّق، كانت وصّافة وصيّاغة ورسّامة ونشّادة ونحّاتة لغة وخيال. 

كانت بارعة في لملمة اللمعات واللقطات الإبداعية التي تتطاير في فضاء مخيلتها وتسبح في بحور فكرها، فتقول عنّا ولنا ما يمور في الوجدان حبًا وثورة وحكمة ووطنية.

كانت ولّادة الصورة التي لم تتشكّل من قبل ولم تولد بعد.

كانت كاسرة لقيود المألوف فتخرق جدار اللامعقول وتحيله معقولًا ممكنًا ومطلبًا لمتعة الفكر.

وهكذا كانت هتاف صاحبة أصدق ما قيل في أبلغ الشعر وأشعره:   

“وأنَ أشعر  بيت أنت قائله       بيت يقال إذا أنشدتَه صدقا.”

وكم يليق بك أن أردّد مع الشاعر لجيم بنِ صعب:

“إذا قالت هتاف فصدّقوها        فإن الحقّ ما قالت هتافُ.”

لعمرك يا هتاف فقد فُزت بالصادقين عظيمًا: إيمانك الصادق ورفيق عمرك محمد صادق.

كثيرًا جدًا ما تساءلت هل يكتب الشاعر قصيدَته بيديه أم بلسانه أم بروحه ودمه؟ وكان عند هتاف الخبر اليقين: إنما يكتبه بإيمانه، أو قل إن القصيدة هي التي تكتب الشاعر كيفما شاءت ووقتما تشاء، لحظة تخرج من الموقد المشتعل بالإيمان.

القصيدة لا تعترف بأزمنة الناس ولا بطبيعتهم، لها دنياها وطقوسها وفنونها في هدهدة الشعراء والترنيم لهم حتى يستسلموا بين يديها لغفوة ما بين الأرض والسماء.

كل العلوم تجبّها ما بعدها إلّا الشعر فهو مطعّم ضد الفناء تقرأه قبل آلاف السنين وتشعر أنه لا يزال طازجًا وكأنه خارج توًّا من أفران القرائح، نابضًا متأججًا، يحرقك ويدوّخك ويرفعك ويهبط بك.

يولد المرء منا مرة واحدة، ويولد الشاعر مع فجر كل قصيدة، فلا تعجب إن لم تستطع أن تلتقط مزاجه المرتبط بمزاج القصيدة وليس بمزاج العالم.

ولو لم تكن هتاف شاعرة لما كانت هتاف الشعر، ولولا هتاف الشعر لما ازدهى الشعر وتخايل.

اذا شكت هتاف، فكأنما الدنيا سواد وأنين!…

وإن فرحت، فالكون عرس، فلا حزن ولا ألم!…

إيمانها بوطنيتها وعروبتها هو الذي صنع من قريتها ومن لبنانها ومن أمّتها فردوسًا استثنائيًا تعشقه آلهات الجمال.

وإيمانها بثقافتها هو الذي حوّل صالونها الشعري ودارتها العامرة إلى سفارة ثقافية عربية يؤمّها أهل الفكر والقلم، زائرين ومقيمين، يوقّعون بين يديها أوراق اعتمادهم في دولة الثقافة.

وايمانها واعتزازها بلغتها العربية هو الذي رافق مسيرتها الأدبية الطويلة من غير أن يضعف أو يلين أمام كل العواصف التي هبّت في وجهها.

لم تكن الشاعرية لديها فنًا جماليًا تعبيريًا قائمًا بذاته خارج حدود القيم، إنما كانت قضية ورسالة. قضيتها المتشبثة بقلبها وفوق كاهليها ترفع لواءها بشموخ وتنافح عنها وتنشرها فوق المواقع والمحافل.

كانت شاعرة ملتزمة بامتياز، وظّفت شاعريتها لخدمة وطنها وعروبتها، وترجمت عقيدتها باحترام كل الديانات والرسل، وأوقفت شعرها للدفاع عن الحريات والقيم الإنسانية، وحشدت جهودها لدعم الثقافة والمثقفين على مختلف المستويات تنظيمًا ومساهمة ومشاركات.

ولعل من أبرز ما تؤمن به مجاهرتها الدائمة بالمحافظة على القصيدة الخليلية العامودية الموزونة والمقفّاة، ومعارضتها لما يسمّى بقصيدة الشعر.

لأنها تحترم الفنون وتجلُّها جميعًا، وتقدّر الكلمة الجميلة الصادقة المحمّلة بالمعاني والقيم، فإنها حريصة على التمسك بأهداب أصول هذه الفنون وترفض انتحال الصفات وتزوير الهويات، والانتماءات المزيّفة.

قد يكون بالتأكيد فنًا نثريًا جماليًا بديعًا وأخّاذًا، لكنه ليس شعرًا وليس قصيدة، له مسمياته وخصائصه وأبوابه في المقالة والخطابة والبحث والقصة والرواية… فلماذا يخرج من ثوبه لينتسب إلى أب آخر؟!…

وفي ظني، أن من كان عليه رفض هذه التسمية، ليس شعراء القصيدة العامودية، إنما الأدباء الناثرون (أو النثراء على وزن الشعراء)، أنفسهم، لأنها تمثّل انتقاصًا لمنزلتهم واستخفافًا بروعة ما ينثرون ويبدعون.

إننا إذ نكرّمك يا شاعرة الأرز، إنما نكرّم الشعر بك، ونكرّم الأرز بك، ونكرّم الأهرام والرافدين والعروبة بضادها وثقافتها التي شعّت على الدنيا، ولن تأفل بإذن الله.

أن تكون شاعرًا يعني ان تذهب بقدميك إلى معمودية المستحيل وتتكحّل بلظاه.

فمن يوهب المَلَكة يدخل المملكة.

ودخلتها هتاف ملِكةً من الرتاج العريض، تتمايل كما خطرت ببال أخي محمّد: “حورية طالعة من بحار اللؤلؤ والمرجان، كسرت أصدافها وخرجت تتلفّح بغلائل الشعر البيضاء.”