أضداد الثقافة
خرائب الثقافة وشوائب القيم
د. علي منير حرب
كندا في 2023/05/03
الثقافة، كما نتداولها في عصرنا الحاضر، كلمة غربية الجنسية، لاتينية الولادة، وتحديدًا في القرن الثالث عشر الميلادي.
أصلها «cultura»، باللاتينية، ولدت مشتقة من رعاية الحقول والماشية، وانتقلت إلى رعاية العقول.
جاء في أوضح تعريفاتها: أنها مجموعة المعارف التي تثري العقل وتصقل الذهن، وأنها وسيلة تمنح الإنسان القدرة على التفكير ما يجعل منه كائنًا يتميّز بالإنسانية المقرونة بالالتزام الأخلاقي، ومن خلالها نهتدي إلى القيم والمثل لبناء الحضارة.
فهي إذًا مصدر لإثارة الوعي وتحفيز القدرات من أجل تحسين جودة الحياة وتحقيق التنمية والرقي.
ويُلاحظ من هذه التعريفات أن الثقافة كانت تجسيدًا لكل ما هو إيجابي وبنّاء في حياة الشعوب.
لكن من المدهش أن نجد أن هذه التعريفات ضمّت إلى الثقافة العناصر المتناقضة لمكوّناتها ووظائفها، بعد أن أضافوا إلى مفاهيمها سمومًا مضادّة لمقاومتها، وأدخلوا عليها مصطلحات غريبة، حيث صرنا نسمع بثقافة الكراهية والفساد والإرهاب والتخلّف…
ومما يثير الاستغراب أكثر أن تداول هذا النمطَ المشوّه لمصطلحِ الثقافة يزداد انتشارًا من دون أي مراجعة لما يتمّ تزويره في مفهومها. الأمر الذي تحوّل إلى حملة فلسفية مُبرمجة تُمعن في ترسيخِ هيمنة الوجه البشع للثقافة.
وبالتالي فإن الذي سمّوه ابتكارًا لمفهوم الثقافة لم يكن إنجازًا لغويًا أو ثقافيًا، بقَدَر ما كان بندًا في خطة سياسية مُبرمجة تهدف إلى تنصيب المفهوم الثقافي الغربي سلطانًا مهيمنًا على كل المفاهيم، وخطوة لتنفيذ برنامج العولمة التي تسود العالم، وأساسًا ارتكز عليه بعض فلاسفة الغرب الأميركيين لينادوا بصراع الثقافات ونهاية التاريخ وصدام الحضارات.
كيف يمكن للثقافة أن تكون مصدر إثراء للفكر، وأداة من أدوات التثقيف والرقي، ثم نضفي صفتها على سائر المُحبِطات والرزايا؟
وكيف يمكننا أن نسوّي في اللغة والمعاني بين مسمّيَيْن لقصدين متعارضين، فنستخدم لفظة الثقافة للبناء كما للهدم، وللعدالة كما للظلم، وللاستقامة كما للاعوجاج؟
في تاريخ الشعوب سجلات حافلة لعمليات الاحتيال والشعوذة واللصوصية وغيرها من الأعمال المُشينة، فهل وصفت هذه الظواهر بأنها ثقافات المحتالين أو اللصوص.
المشكلة تكمن في أننا تعوّدنا على “بلع الطُعم” دون تمحيص، والمشكلة الأكبر أننا انخرطنا في هذا النهج الخبيث وتبنّيناه في كتاباتنا وخطاباتنا، دون أن ندري بأنه يحمِّل اسم الثقافة آثام الخارجين عن الإنسانية.
إن كل ما هو خارج عن نطاقه الإنساني الأخلاقي الساعي لخير الإنسان وأمنه هو ضدّ الثقافة وليس من ثوبها. وله أسماؤه وصفاته الخاصة، إرهابي أو قاتل أو مجرم أو لص، ولا يجوز دسّه لغش الثقافة.
ويقودنا هذا الالتباس ليس إلى فضّ الاشتباك مع مصطلح الثقافة فحسب، إنما على فكّ الارتباط مع مدّعي الثقافة، والمنتسبين إليها ظلمًا وعدوانًا، والذين كوّنوا معضلة كبيرة لدى المشتغلين بالشأنين الثقافي والنهضوي، حيث وجدوا أمامهم حشدًا هائلًا من منتحلي الصفة ومزوّري الانتساب، طرحوا لديهم قضايا جديدة تتعلق بخيانة المثقف، وهموم المثقفين، والمثقف والسلطة، وموت المثقف…
ولا تختلف الثقافة في هذه المعاناة عمّا تعاني منه سائر المصطلحات القيمية الأخرى، كالدين والحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، التي أُفرغت هي الأخرى من محتواها الأخلاقي النقي وتمّ تسويقها بما داخلها من شوائب وأفخاخ، كما تمّ تطبيقها تناسبًا مع مصالح روّادها وأطماعهم، بغضّ النظر عما يعتريها من ازدواجية في المعايير وتناقض في المواقف والأحكام.
فهل تستدرك النخبة المثقّفة هذا الفخّ المحكم، وتخلّص الثقافة من هذه الرزايا، كي لا تبقى الوجه الخلفي القاتم لأعرق وأقدس عملة تاريخية، فكرية وروحية، تداولتها الشعوب منذ حضورها على هذا الكوكب؟