ذَهَبُ العربية وصدأ العوربة
د. علي منير حرب
كندا في 2022/12/18
لمناسبة الاحتفال باليوم السنوي العالمي التاسع والأربعين للغة العربية
وفيما نحن نحتفل بإحياء المناسبة السنوية التاسعة والأربعين لليوم العالمي للغة العربية، ومن أجل أن نحوّل احتفالاتنا من هرج الخطابات إلى ناقوس الخطر، أبادر بتذكير أنفسنا ببعض مزايا التفرّد والجمال التي تختصّ بها لغتنا، ليس من باب التعصّب أو النرجسية اللغوية، إنما لردّ الاعتبار لهذا المكوّن الذي صنع هويتنا وحضارتنا وحضورنا بين الشعوب، ولكي أنبّه إلى فداحة الخسائر التي تنتظرنا نتيجة الآثام التي ترتكب بحقّها سواء في تعرّضها لزحف العولمة أو في استهانة أهلها بها وتقاعسهم عن حمايتها.
العربية هي لغة الجمال في الشكل والمضمون. الجمال في فنون الخط العربي والنطق والأداء والخَطابة والتعبير.
وهو تفرّد الغنى في الجذور والمفردات والمترادفات. وتفرّد الإعجاز في كونها لغةَ العقيدة والعلوم والفلسفة والقانون والأدب. وتفرّد الطواعية في النحت والاشتقاق والتعريب. وجمال البلاغة والفصاحة والإيجاز، والأهلية في استيعاب التقنيات واحتواء العلوم ومستحدثات الحواسيب والبرمجيات والقدرة على صياغة المعرفة.
إنها اللغة الكريمة المتسامحة التي أتاحت لأكثر من عشرين لغةً أخرى استخدام حروفها، كما سمحت لعشرات الآلاف من كلماتها للدخول في معاجم اللغات الأجنبية.
فيما يتباهى العقل البشري، ونحن في القرن الحادي والعشرين، بإنجاز أطول جسر في العالم يمتدّ على طول ١٦٥ كلم، ويربط بين منطقتي شانغهاي ونانجنغ في الصين، فإن من حقّ اللغة العربية أن تعتز وتتباهى بأنها ومنذ ثلاثة آلاف عام وأكثر، شكّلت أطول وأصلب جسر تاريخي ربط بين مشارق الأرض ومغاربها، حاملًا أزهى الحضارات التي شعّت على الدنيا.
لغتنا اليوم تتعرّض لمجموعة من التحديات التي تهدّد هويتنا وتراثنا وكياننا الثقافي.
مما لاشكّ فيه، أن أعاصير العولمة تضربنا كما تضرب ثقافات العالم من حولنا، لكن الصدأ الذي ينخر كيان “العوربة”، يكاد تكون أدهى من تهديدات العولمة، لأنه يدكّ فينا أمنع حصون الحماية والصمود.
لقد تمادينا طويلًا في الاستهانة بلغتنا وتهميش رموزها التاريخية.
كل اللغات المقرّرة في الأمم المتحدة أوجدت لها رموزًا للاحتفال بيومها العالمي، أما أهل العربية فاستخفّوا بقيم لغتهم ونماذجهم الرائدة في الطب والفلك والجبر والجغرافيا والأدب والفلسفة، ولم يكلّفوا أنفسهم البحث عن حدث أو تاريخ ليجعلوه رمزًا لهذه المناسبة السنوية.
داهمتنا جائحات العولمة ونحن عراة مفلّسون، فرّطنا حتى آخر قطرة دم في خزائن تراثنا العامر، ورحنا نستدين من مستعمرينا لغتهم واقتصادهم وعلومهم وعاداتهم وأخلاقياتهم، وشرّعنا أبواب حواضرنا الثقافية في اليمن والعراق وسوريا ولبنان لاحتضان الثورات المصدّرة بذرائع مذهبية سحقت كل قيمنا الثقافية ودمّرت بناء عيشنا المشترك، وحوّلتنا إلى مجموعة من العصبيات القاتلة. فأصبحنا هالكين عاجزين عن الصمود والمواجهة والنبوغ.
وإن أصدق وصف لواقعنا اللغوي والثقافي اليوم، هو أنه الوليد المشوّه لتخلّفنا وتردّي أحوالنا واستسلامنا للقوة القاهرة التي تهيمن على تاريخ الحياة والأرض والناس.
لقد نجح الاستعمار اللغوي بتفريغ الأمة من عقيدتها اللغوية، وصرنا نتفاخر باجتياح اللغات الأجنبية لمناهجنا ومقرّراتنا الدراسية ورطن أطفالنا بها منذ نعومة أظفارهم، وتخاذل مؤسساتنا التربوية الرسمية أمام مراكز الإرساليات التي حاكت لنا مناهجنا التربوية والسياسية، وإهمالنا لتنقية كتبنا من النمطية المنفّرة، والاعتناء بالتنمية اللسانية تأليفًا وبرامج، وعجزنا عن مواجهة انحراف الدعوات الرائجة لإصلاح تعليم العربية تحت ستار التبسيط والتحديث، والانحدار في استخدام اللغة في الإعلام والإسفاف في التأليف والنشر، وقصور مجامع اللغة عن مواكبة المتغيّرات واجتراح التطورات.
فبات أطفالنا – رأسمالنا الثقافي القادم – في غربتين خطيرتين، غربةٍ عن لغتهم وتاريخهم في البلاد، وغربةٍ يكابدونها وآباءهم في المهاجر، يضخّون فيها ثمرة تفوّقهم بلغاتها الجديدة.
إن جموح ظاهرة العولمة شكّل أولَ ضربة لسنّة التنوّع الكوني، وأولَ محاولة لاحتكار الحقيقة، وأولَ مسمار في نعش الحوار وتلاقي الثقافات والخصوصيات والهويات الجماعية للشعوب.
في كتابه الصادر حديثنا، بعنوان: (أي مستقبل للغات – الآثار اللغوية للعولمة)، حاول الباحث اللغوي الفرنسي لويس – جان كالفي، أن يجد مصدرًا لحماية اللغات في ظل العولمة، كما سعى إلى بلورة ما أسماه “علم السياسة اللغوية”، لأن السياسات اللغوية برأيه، تشكّل “تدخّلات” تطال اللغة، أو العلاقات بين اللغات.
لم تقتصر أخطار العولمة على لغات الشعوب فحسب، بل انسحبت على مجمل أوضاعها وظروفها.
وفي عالمنا العربي تحديدًا، فقد قلصت العولمة هامش الاستقلالية، وعملت على تصدع الكتلة العربية، وتفاقم أزمة النظم السياسية وتعرّض مجتمعاتها لمشروعات تفتيتية تمثّلت في توسع دائرة الحروب الإقليمية والوطنية والأهلية وانتشار العنف والإرهاب، فازدادت موجة التبعية الثقافية وتفاقمت هجرة الكفاءات.
لن استغرق طويلًا في استعراض آثار العولمة الجامحة نحو العلمنة، والتفلّت في الحريات وتحطيم القيم الأخلاقية الحافظة للحياة، والتسابق نحو افتعال الصدامات والحروب وهيمنة الذكاء الاصطناعي، فكل هذه الويلات ماثلة أمامنا وأمام الشعوب المستضعفة أمثالنا.
ونحن على مشارف الاحتفال باليوبيل الذهبي لاعتماد اللغة العربية في الأمم المتحدة، اختصر فأقول، إننا بأمس الحاجة إلى إدارة سياسية حكيمة، وإرادة صادقة، تجمع شتات ما تبقى من أصالة في هذه الأمة، لتزيل الشوائب العالقة بهذه اللغة الذهبية، ضنّا بأجيالنا ومستقبل ثقافتنا ووجودنا.