الوطن في القلب...والدولة خارجه
د. علي منير حرب
02/10/2021
لا أرمي إلى تقزيم شأن الدولة والحكومة، إنما أقصد إعادة الاعتبار إلى مفهوم الوطن الذي أخشى أن تكون السياسة قد أغرقته بأنوائها العاتية، من جانب، ودفاعًا عن براءة الوطن الذي يحمّله البعض، وربما من غير قصد، تبعات ما اقترفته الحكومات من مآسٍ بحقوق شعوبها، وتحديدًا ما يخصّ العرب واللبنانيين، ودفعتهم قسرًا للبحث عن منافذ الخلاص في المهاجر والمغتربات، من جانب آخر.
الوطن بالتعريف والمصطلح الجغرافي والسياسي هو الكيان الجغرافي، ماءً ويابسة، بحدوده المعترف بها دوليًا، والذي يحتضن شعبًا وتاريخًا وتراثًا، وله علمه ورمزه ونشيده وجيشه ونظامه السياسي ومؤسساته وسلطاته.
والوطن بالتعريف الإنساني هو مسقط رأس المرء وصانع انتمائه وولائه وهُوياته ومخزن ذكرياته ومجال حياته ومآل رُفاته. الدولة تحمل في معناها التكويني حتمية المداولة والتغيير والتعديل والتبديل، أما الوطن فهو ثابت مهما تغيّرت الدول وتبدّلت وتعاقبت في ما بينها.
الوطن ليس الدولة، بل هو أبو الدول بسياسييها وسياساتها، الوطن مكانه في القلب والوجدان والضمير، فيما الدولة والسياسة هي خارج هذه المناطق الدافئة والحميمة والإنسانية. الوطن جوهر ثابت والدولة معاملات عابرة.
تقول الحكمة السياسية: “لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك”، إنها حقيقة الحكم والدولة والسياسة. إنما الأوطان تتجاوز هذه الحكمة، لأنها تدوم وتدوم وتدوم، وتتصل إلى الجميع، جيلًا بعد جيل، وعلى مدى آلاف السنين، لأنها تقوم على معادلة إنسانية خالصة بين التاريخ والجغرافيا والناس الذين يصنعون باستقرارهم، حضارتهم وتراثهم وثقافاتهم وقيمهم المشتركة، بغضّ النظر عن وزنها وشكلها وحجمها وامتدادها.
الوطن كامن داخلك، تحمله كما تحمل عمرك ودمك وعنفوانك. أما الدولة، فهي خارجة عنك، هي طارئة عليك ولا تسكنك، لأنها فقط موكلة بحماية الوطن وأهله، ورعاية مصالحه ومصالحهم، إنها لعبة الحنكة والتشاطر، تتبدّل وتتلوّن، تبعًا للمصالح والغايات، فيما الوطن هو النور وهو الجذور وهو الكيان.
الدولة لا تمنحك هويتها، لكنها تمنحك هوية الوطن.
الدولة لا تهبك الشعور بالفخر والاعتزاز والكبر، وإن فعلت فإلى حين، لكن الوطن هو الذي يفعل.
الدولة لا تُدرج أصولك في سجلات المواطنية، إنما الوطن هو الذي يفعل، وتبقى دائمًا وأبدًا، وأينما حللت ورحلت، كنديًا من أصل لبناني، أو أميركيًا من أصل لبناني، أو سويديًا من أصل لبناني… الوطن هو الأصل والنسب.
الوطن يعيش فيك كما تعيش أنت الماضي والحاضر والمستقبل، كما تعيش الأحلام والطموح والأمل، لا يتخلى عن التشبّث بك حتى وأنت في أدنى درجات السلم وأقسى حالات الضعف والعجز والعوز.
من يتخلى عنك هي الدولة، هي الحكومة ومنظومة القوانين المرعية وأوركسترا رجال السياسة والإدارة التي تعزف على هذه “القوانين” ما يحلو لها من أنغام وألحان.
الدولة هي التي تغدق مزايا وألقاب الآلهة على رجالاتها، من صاحب الفخامة إلى صاحب الدولة والسيادة والعطوفة والزعامة، فيما الوطن يشرّف جميع أبنائه فيساويهم باسم المواطن، ولا لقب فوقه أو دونه.
الوطن لجميع أبنائه، حقوقًا وواجبات، وعلى رجال الدولة أن يطبّقوا هذا المبدأ بالقسطاس والعدل، وهنا هنا تحديدًا، مقتل الدولة أو نجاتها، فإن نجحت ارتفعت مع الوطن والمواطنين، وإن فشلت سقطت ورمت مواطنيها في أتون القهر والظلم وألجأتهم حتمًا إلى الهجرة أو اللجوء أو الانتحار في لجج التهجير غير الشرعي.
عندما نتظلّم فإننا نرفع شكوانا ضدّ الدولة والحكومة والنظام وليس ضدّ الوطن. وعندما نحصد العاصفة فإننا نلعن من زرع الريح وليس الأرض التي أنبتتها. وعندما نغضب وننتفض فإننا نخرج ثائرين ضد الدولة والحكومة والنظام والقائمين عليه لمحاكمتهم وتغييرهم وليس لتغيير الوطن. وعندما نبذل أرواحنا ودماءنا فداء واستشهادًا في وجه الغزاة والمعتدين، فإننا نقدّمها بعزّة وفخر عربون وفاء وتضحية من أجل الوطن وليس من أجل الدولة والحكم. وعندما نبتعد فإن ما نعانيه من حرقة الشوق ولوعة الحنين يكون من أجل الوطن وليس من أجل الدولة والحكّام. وعندما نخلّد شهداءنا ونحتفل بهم فلأنهم بذلوا الروح من أجل الوطن وليس من أجل الدولة والحكومة. وعندما نحاكم الخائنين والعملاء فلأنهم غدروا وخانوا وطنهم وليس الدولة أو الحكومة. وعندما نتغنى بجيشنا فلأنهم حماة الوطن وحدوده وتاريخه وسيادته وليسوا جند الدولة، ومن خرج للقتال في غير هذه الأهداف يسجّل في خانات العملاء والمرتزقة. عندما نصدح بالنشيد الوطني فإنما نعبّر عن اعتزازنا وفخرنا وولائنا لوطننا وعلمنا وليس للدولة.
الوطن كبير وماجد مهما صغرت مساحته، والدولة تكبر أو تصغر بمساحة إنجازاتها للوطن. الوطن هو تلك التربة المتشقّقة اليابسة التي تحوّلت إلى كنوز من خصب وغلال وخير على أيدي الزارعين وعرقهم. وهو ذلك التراب الجاف الذي نُفخت فيه روح القدسية والطهر بعد أن أوى في أحضانه رُفات أحبابنا وأهلنا. هو تلك الجبال والسهول والأودية والقرى والمطارح الدافئة والعزيزة التي جمعتنا بالأهل والأصحاب والأصدقاء. الوطن هو تلك الفضاءات الوضّاءة، مسرحُ الحمائم والعصافير المستحمّة بنسائمه والعازفة طربًا له وليس للدولة.
الوطن هو كلّ ما فيك منه من عمر وتراث وهويات وليس من الدولة. الوطن هو ذلك الرحم الذي تتحرّق للعودة إليه مهما طال غيابك وليس الدولة.