الثقافة والمثقّف ضحية الإقصاء
هموم الثقافة (٣)
حديث إذاعي (إذاعة النيل والفرات).
12/07/2022
كلّما أبحرنا عميقًا في لجّة الهموم الثقافية، كلّما تكشّفت لنا أعراض هذا الهمّ وتداعياته.
ولعلّ من أبرز هذه التداعيات وأبشعها، هو شيوع فنّ الإقصاء وأشكاله.
من أكثر غايات الثقافة نبلًا هو تأصيل روح قبول الاختلاف والتنوّع في الحياة.
التنوّع هو سنّة الكون. كل ما في الكون والحياة يقوم على التنوّع والاختلاف.
التنوّع مصدر غنى وجمال وتكامل وسدّ النواقص.
بسبب هشاشة بنائنا الثقافي تحوّل الاختلاف إلى خلاف وعداوات واستبعاد.
وهذا ما أقام الحواجز بين أبناء الثقافة الواحدة، كما ما بيننا وبين الآخر المختلِف.
المشكلة عندنا، أننا ننظر إلى اختلاف الآخر عنّا، في فكره أو في توجّهاته أو في ممارساته، من زاوية التحدّي والاستنكار والرفض وبالتالي إلى محاولة إقصائه وإخفائه بشتى الوسائل والسبل.
تتبدى بجلاء ثقافة الإقصاء في مجتمعاتنا، في أبسط ممارساتنا وسلوكاتنا كما في أكثرها تعقيدًا.
نتقن فنّ الاستعداء بجدارة تامة وننكر سبل التقارب وحقَ الاعتراف برأي الآخر وحضوره.
في السياسة وفي الأحزاب وفي التنافس الانتخابي وفي مجالس الفكر وفي مناقشة أوضاعنا وتحديد مسارات علاقاتنا ومستقبلنا، نخضع لمؤثّر واحد هو البناء على الأفكار المسبقة وبالتالي العمل على إلغاء المختلف عنّا تمامًا.
إنكارنا لثقافة الاختلاف واختلاف الثقافات، أودى بنا إلى حصر مصائرنا في شخص واحد وزعيم واحد ودين واحد ورؤية واحدة، وكل ما عداها هو خيانة وعمالة ومؤامرات، هو شرّ مستطير وتجب مقاومته ومحوه قبل أن يستفحل.
من هنا نستطيع أن نتلمّس مدى العزلة والانطواء اللذين يخيمان على أجوائنا منذ حقبات طويلة من التاريخ، ومدى غرقنا في السبات الحضاري وعجزنا عن النهوض والتغيير، ومدى تمترسنا خلف الماضي وقمعنا لكل فكرة تحمل معها روح التغيير والحداثة والتطوير.
ثقافة الإقصاء هي التي أورثتنا أمراض الانتماء وعلل الولاء.
وثقافة الإقصاء هي التي تقف وراء كل عمليات اغتيال أصحاب الفكر أو تهجيرهم.
إقصاؤنا للآخر، يتضّمن أساسًا شكوكًا في انتمائه ليقين ثابت في مخيلتنا لا بديل عنه ولا مناص منه.
إقصاؤنا للآخر أفضى إلى غياب المعارضة في السياسات كما في الآراء…
وتشكيكنا في انتماء الآخر قادنا إلى الريبة في ولائه، ووضعه في خانة العميل المندسّ لزرع الفتنة وإشاعة الفوضى.
ولهذا فشلت كل حَراكاتنا النهضوية، وتعطلت كل مؤسسات العدالة والحقوق، وغُيّبت كل الأصوات الداعية إلى التنمية.
لا يمكن لفكر واحد، أن ينتج ثقافة كافية ومتكاملة كما لا يمكن للون واحد أن ينتج لوحة جمالية متناسقة.
الشمولية في التفكير وفي الرأي وفي الحكم هي التي قضت على الإمبراطوريات والحضارات والدول.
والتفرّد بامتلاك الحقيقة والصواب هو من أكثر ما يحبط ويفشل مشاريع التطوّر والتحديث.
ولنا في أمثلة الديموقراطيات والليبراليات وحريات الرأي والمعتقد وتبادل الخبرات والتجارب وتلاقح الثقافات والأفكار دليل واضح على أسباب تخلّفنا عن سائر الدول التي آمنت بمزايا الاختلاف واحترام المكوّنات الثقافية للآخرين والإفادة في تطعيم وتغذية زروعها الثقافية وتجديدها.