كي لا يكون السقوط مدوّيًا

 

د. علي حرب

خاص مجلة المستقبل الكندي – عدد تشرين الثاني 2020

أثار تساؤلي مؤخّرًا خبر استدعاء الرئيس ميشال عون وزيرة العدل، في حكومة تصريف الأعمال، ماري كلود نجم والنائب ابراهيم كنعان، رئيس لجنة المال والموازنة، بهدف فضّ المناوشات التي حمي وطيسها بينهما، وكلاهما من أعضاء التيّار الوطني الحرّ، والتي وصلت إلى حدّ وصف الوزيرة للنائب كنعان بأنه “رئيس لجنة انهيار المال والموازنة”، ما دعا كنعان إلى وصفها بوزيرة “اللاعدل” متسائلًا باستغراب وشكّ “هل نجم وزيرة للعدل”؟

بسبب هذه السجالات لم تغمض عين الرئيس الحريص على وفاق أبنائه، فأمر بإحضار الاثنين إلى مكتبه، بهدف “توضيح الأمور” التي لم تسفر إلا عن تهدئة الخواطر، بينما الأمور “المراد توضيحها” نامت في أدراج “التحقيق الجنائي”. 

لم تكن تلك المرة الأولى التي ثارت بها حميّة الرئيس عون، بل سبقتها حادثة فرض العقوبات الأميركية على صهر الجمهورية الوزير السابق جبران باسيل، فسارع الرئيس للطلب من وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال شربل وهبه، وكذلك من السفير اللبناني في واشنطن، بضرورة الحصول على المستندات والوثائق التي أدّت إلى هذه العقوبات.

ما أثار تساؤلاتنا، المرّة تلو المرّة، هو أن السجالات بين أفرقاء الحكم، لاسيما بين المعارضين والموالين، ليست جديدة على الإطلاق، بل تعتبر علامة فارقة، في عمقها وتجريحها وفضائحها، لعهد الرئيس عون منذ أكثر من سنتين.

وكذلك فإن موضوع العقوبات الأميركية لم تبدأ بباسيل ولم تنته عنده.

فلماذا لم يتحرّك الرئيس لوقف السجالات والاتهامات الصاخبة التي دارت بين وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال وبين وزير التربية السابق التياري الحرّ الياس أبو صعب؟

ولماذا لم يتحرّك الرئيس لطلب المستندات عند توقيع العقوبات على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس وسائر من شملتهم هذه العقوبات؟

ولماذا لم يتحرّك الرئيس أمام ما كشفه مدير عام إدارة المناقصات جان العلية في مؤتمره الصحافي عن الملابسات المحيطة بمناقصة بواخر الكهرباء، ما يشكّل نموذجًا صارخًا لحالات الفساد المعشّشة في الوزارات والإدارات العامة، وخاصة في وزارة الطاقة والمياه واتهامًا مباشرًا للوزير التياري سيزار أبي خليل؟

ولماذا لم يتحرّك الرئيس لاستدعاء المحقق في انفجار المرفأ، الذي وعدنا بإنجازه في خمسة أيام، ولم تظهر أي بوادر لنتائجه ولمصير المتهمين فيه، ومنهم من هو لصيق الصلة بالعهد، بعد مرور أربعة أشهر على كارثته.

ولماذا تغاضى الرئيس عون عن تطبيق التزامه بالمبادئ التي أعلنها عند تشكيل حكومة الرئيس حسان دياب، ثم عاد إلى إشهارها سيفًا قاطعًا في وجه السفير المكلف مصطفى أديب والرئيس المكلف سعد الحريري؟

كل ما قام به الرئيس حتى الأن يوحي، إن لم نقل يثبت، أنه مخالف لكل الشعارات والوعود التي أغدقها علينا فخامته وجعلنا نغفو ونستيقظ على أحلامها.

فأين “بيّ الكّل” وأين “الرئيس القوي” وأين “العهد القوي” وأين الحفاظ على “الميثاقية والمعيارية والتمثيل المتوازن” أمام كل ما يجري وما نشهد؟

يبدو أن “بيّ الكلّ” قد خالف العدل بين أبنائه، فمنهم من استحقّ نعمته ومنهم من تركه يذهب إلى جهنم وبئس المصير.

وكأن دماء الشهداء التي هُدرت ومئات الأيتام والثكالى وآلاف المشرّدين، لا تنطبق عليهم نعمة “بيّ الكل” ولا هم من المسجلين في دوائر نفوس التيار، لينتفض الرئيس من أجلهم ويستدعي من يجب استدعاؤه إما “لطلب المستندات” أو “لتوضيح الأمور”.

وكأن ما يشهده الوطن بين يديه من انهيارات مخيفة في مؤسساته وإداراته وماليته واقتصاده وعلاقاته الخارجية وموقعه بين الأمم، لا علاقة لها بمفهوم “الرئيس القوي” و”العهد القوي”.

وكأن ما يرزح به شعبه من فقر وجوع وبطالة وسرقة لجنى أعماره وحالات الانتحار والهجرة والغرق في مراكب الموت لا معنى لها في قاموس “الشعب العظيم”.

حاولت أن أراجع سير رؤساء الجمهورية في لبنان مما قبل عهد الاستقلال وحتى الآن، فلم أقع على واحد عمد بنفسه إلى إسقاط نفسه من أعلى سقف الوعود والشعارات المرفوعة.

فلا أحد من الرؤساء السابقين كان رئيسًا لحزب سياسي أو لتيار أو حتى لجمعية خيرية، ولا أحد حوّل قصر الرئاسة وقصر الشعب إلى ملك خاص للعائلة والحزب والأنصار والمؤيدين، ولا أحد ادّعى بأنه الرئيس القوي أو أن عهده هو العهد القوي، ولا أحد دغدغ مشاعر الشعب ووصفه بشعب لبنان العظيم وبأنه “بيّ الكل لهم”، ثم ما لبث أن دعاهم لمغادرة الوطن أو للذهاب إلى جهنّم، ولا أحد برّر فشله وعجزه بأنه “لا يعرف وغير مسؤول وما خلّوني أعمل وما عندي صلاحيات” إلى آخر تلك التبريرات التي لا تليق بموقع “الرئيس القوي”، ولا أحد من الرؤساء السابقين شهد عهده هذا الانحدار والانهيار الكبير في المؤسسات وفي النظم وفي الإدارة وفي الأخلاق وفي الاقتصاد وفي المصائب التي سقطت على رأس “شعبه العظيم”.

هل خطر ببالك يومًا أيها السيد الرئيس أن تستدعي وزير خارجية عهدك لتسأله لماذا تحوّلت أغلب سفارات الوطن إلى فروع لمركز ميرنا الشالوحي؟ ولماذا حرم لبنان من دعم الدول الصديقة والمانحة؟

ألم يشغل بالك كيف اختصرت مساحة الوطن كله لتصبح على مقاس تيارك؟

شعبك أيها السيد الرئيس لم يطلب وعودك بل أنت من أغدقتها عليه مجانًا من غير أن يتذوّق طعمها مرّة واحدة.

وشعبك لا يريد إلا أن يبقى كريمًا آمنًا مكتفيًا في ظلّ نظام جمهوري ديموقراطي ارتضاه دستورك وليس في ظلّ حكم الحزب الواحد.

شعبك يريد صداقة كل الدول ليبقى منارة الشرق ودرّته.

شعبك يريدك فعلًا أن تكون “أباه” بالعدل والقسطاس، وأن تكون قويًا لتنقذه من فم الذئاب والفاسدين، وشعبك يريد أن يكون عهدك قويًا أيضًا ليفاخر بك الدنيا ويرسل المراكب والطائرات لاستعادة أبنائه الغائبين.

شعبك يتشوّق للارتفاع إلى مستوى وعودك ولا يريدك  أبدًا أن تسقط من عليائها.

قهل تعده، بما تبقى من سنوات عهدك، بتحقيق بعض من هذه الوعود، كي لا يكون السقوط مدوّيًا هذه المرة؟!…